تفسير سورة الأنبياء الصفحة 331 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 331 من المصحف


لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِى مَا ٱشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَٰلِدُونَ (102)


تفسير الآيتين 101 و102 :وأما المسيح، وعزير، والملائكة ونحوهم، ممن عبد من الأولياء، فإنهم لا يعذبون فيها، ويدخلون في قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أي: سبقت لهم سابقة السعادة في علم الله، وفي اللوح المحفوظ وفي تيسيرهم في الدنيا لليسرى والأعمال الصالحة. أُولَئِكَ عَنْهَا أي: عن النار مُبْعَدُونَ فلا يدخلونها، ولا يكونون قريبا منها، بل يبعدون عنها، غاية البعد، حتى لا يسمعوا حسيسها، ولا يروا شخصها، وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ من المآكل، والمشارب، والمناكح والمناظر، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، مستمر لهم ذلك، يزداد حسنه على الأحقاب.

لَا يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّىٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ ٱلَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103)


لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ أي: لا يقلقهم إذا فزع الناس أكبر فزع، وذلك يوم القيامة، حين تقرب النار، تتغيظ على الكافرين والعاصين فيفزع الناس لذلك الأمر وهؤلاء لا يحزنهم، لعلمهم بما يقدمون عليه وأن الله قد أمنهم مما يخافون. وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ إذا بعثوا من قبورهم، وأتوا على النجائب وفدا، لنشورهم، مهنئين لهم قائلين: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فليهنكم ما وعدكم الله، وليعظم استبشاركم، بما أمامكم من الكرامة، وليكثر فرحكم وسروركم، بما أمنكم الله من المخاوف والمكاره.

يَوْمَ نَطْوِى ٱلسَّمَآءَ كَطَىِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُۥ وَعْدًا عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ (104)


يخبر تعالى أنه يوم القيامة يطوي السماوات - على عظمها واتساعها - كما يطوي الكاتب للسجل أي: الورقة المكتوب فيها، فتنثر نجومها، ويكور شمسها وقمرها، وتزول عن أماكنها كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ أي: إعادتنا للخلق، مثل ابتدائنا لخلقهم، فكما ابتدأنا خلقهم، ولم يكونوا شيئا، كذلك نعيدهم بعد موتهم. وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ننفذ ما وعدنا، لكمال قدرته، وأنه لا تمتنع منه الأشياء.

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّٰلِحُونَ (105)


وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ وهو الكتاب المزبور، والمراد: الكتب المنزلة، كالتوراة ونحوها مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أي: كتبناه في الكتب المنزلة، بعد ما كتبنا في الكتاب السابق، الذي هو اللوح المحفوظ، وأم الكتاب الذي توافقه جميع التقادير المتأخرة عنه والمكتوب في ذلك: أَنَّ الْأَرْضَ أي: أرض الجنة يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ الذين قاموا بالمأمورات، واجتنبوا المنهيات، فهم الذين يورثهم الله الجنات، كقول أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ويحتمل أن المراد: الاستخلاف في الأرض، وأن الصالحين يمكن الله لهم في الأرض، ويوليهم عليها كقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الآية.

إِنَّ فِى هَٰذَا لَبَلَٰغًا لِّقَوْمٍ عَٰبِدِينَ (106)


يثني الله تعالى على كتابه العزيز " القرآن " ويبين كفايته التامة عن كل شيء، وأنه لا يستغنى عنه فقال: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ أي: يتبلغون به في الوصول إلى ربهم، وإلى دار كرامته، فوصلهم إلى أجل المطالب، وأفضل الرغائب. وليس للعابدين، الذين هم أشرف الخلق، وراءه غاية، لأنه الكفيل بمعرفة ربهم، بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وبالإخبار بالغيوب الصادقة، وبالدعوة لحقائق الإيمان، وشواهد الإيقان، المبين للمأمورات كلها، والمنهيات جميعا، المعرف بعيوب النفس والعمل، والطرق التي ينبغي سلوكها في دقيق الدين وجليله، والتحذير من طرق الشيطان، وبيان مداخله على الإنسان، فمن لم يغنه القرآن، فلا أغناه الله، ومن لا يكفيه، فلا كفاه الله.

وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ (107)


ثم أثنى على رسوله، الذي جاء بالقرآن فقال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فهو رحمته المهداة لعباده، فالمؤمنون به، قبلوا هذه الرحمة، وشكروها، وقاموا بها، وغيرهم كفرها، وبدلوا نعمة الله كفرا، وأبوا رحمة الله ونعمته.

قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (108)


قُلْ يا محمد إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ الذي لا يستحق العبادة إلا هو، ولهذا قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي: منقادون لعبوديته مستسلمون لألوهيته، فإن فعلوا فليحمدوا ربهم على ما منَّ عليهم بهذه النعمة التي فاقت المنن.

فَإِن تَوَلَّوْا۟ فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِىٓ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ (109)


فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الانقياد لعبودية ربهم، فحذرهم حلول المثلات، ونزول العقوبة. فَقُلْ آذَنْتُكُمْ أي: أعلمتكم بالعقوبة عَلَى سَوَاءٍ أي علمي وعلمكم بذلك مستو، فلا تقولوا - إذا أنزل بكم العذاب: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ بل الآن، استوى علمي وعلمكم، لما أنذرتكم، وحذرتكم، وأعلمتكم بمآل الكفر، ولم أكتم عنكم شيئا. وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ أي: من العذاب لأن علمه عند الله، وهو بيده، ليس لي من الأمر شيء.

إِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)



وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُۥ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ (111)


وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ أي: لعل تأخير العذاب الذي استعجلتموه شر لكم، وأن تتمتعوا في الدنيا إلى حين، ثم يكون أعظم لعقوبتكم.

قَٰلَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ وَرَبُّنَا ٱلرَّحْمَٰنُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (112)


قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي: بيننا وبين القوم الكافرين، فاستجاب الله هذا الدعاء، وحكم بينهم في الدنيا قبل الآخرة، بما عاقب الله به الكافرين من وقعة " بدر " وغيرها. وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ أي: نسأل ربنا الرحمن، ونستعين به على ما تصفون، من قولكم سنظهر عليكم، وسيضمحل دينكم، فنحن في هذا، لا نعجب بأنفسنا، ولا نتكل على حولنا وقوتنا، وإنما نستعين بالرحمن، الذيناصية كل مخلوق بيده، ونرجوه أن يتم ما استعناه به من رحمته، وقد فعل، ولله الحمد.

الصفحة السابقة