تفسير سورة التوبة الصفحة 203 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 203 من المصحف


وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلْأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَٰجِرِينَ وَٱلْأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٍ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا۟ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِى تَحْتَهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ (100)


السابقون هم الذين سبقوا هذة الأمة وبدروها إلى الإيمان والهجرة، والجهاد، وإقامة دين اللّه‏.‏‏‏مِنَ الْمُهَاجِرِينَ‏‏ ‏‏الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا، وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون‏‏ومن ‏‏الْأَنْصَارِ‏‏ ‏‏الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة‏‏‏‏وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ‏‏ بالاعتقادات والأقوال والأعمال، فهؤلاء، هم الذين سلموا من الذم، وحصل لهم نهاية المدح، وأفضل الكرامات من اللّه‏.‏‏‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ‏‏ ورضاه تعالى أكبر من نعيم الجنة، ‏‏وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ‏‏ الجارية التي تساق إلى سَقْيِ الجنان، والحدائق الزاهية الزاهرة، والرياض الناضرة‏.‏‏‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا‏‏ لا يبغون عنها حولا، ولا يطلبون منها بدلا، لأنهم مهما تمنوه، أدركوه، ومهما أرادوه، وجدوه‏.‏‏‏ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏‏ الذي حصل لهم فيه، كل محبوب للنفوس، ولذة للأرواح، ونعيم للقلوب، وشهوة للأبدان، واندفع عنهم كل محذور‏.‏

وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ ٱلْأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُوا۟ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)


يقول تعالى‏:‏ ‏‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ‏‏ أيضًا منافقون ‏‏مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ‏‏ أي‏:‏ تمرنوا عليه، واستمروا وازدادوا فيه طغيانا‏.‏‏‏لَا تَعْلَمُهُمْ‏‏ بأعيانهم فتعاقبهم، أو تعاملهم بمقتضى نفاقهم، لما للّه في ذلك من الحكمة الباهرة‏.‏‏‏نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ‏‏ يحتمل أن التثنية على بابها، وأن عذابهم عذاب في الدنيا، وعذاب في الآخرة‏.‏ففي الدنيا ما ينالهم من الهم والحزن ، والكراهة لما يصيب المؤمنين من الفتح والنصر، وفي الآخرة عذاب النار وبئس القرار‏.‏ويحتمل أن المراد سنغلظ عليهم العذاب، ونضاعفه عليهم ونكرره‏.‏

وَءَاخَرُونَ ٱعْتَرَفُوا۟ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا۟ عَمَلًا صَٰلِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102)


يقول تعالى‏:‏ ‏‏وَآخَرُونَ‏‏ ممن بالمدينة ومن حولها، بل ومن سائر البلاد الإسلامية، ‏‏اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ‏‏ أي‏:‏ أقروا بها، وندموا عليها، وسعوا في التوبة منها، والتطهر من أدرانها‏.‏‏‏خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا‏‏ ولا يكون العمل صالحا إلا إذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان، المخرج عن الكفر والشرك، الذي هو شرط لكل عمل صالح، فهؤلاء خلطوا الأعمال الصالحة، بالأعمال السيئة، من التجرؤ على بعض المحرمات، والتقصير في بعض الواجبات، مع الاعتراف بذلك والرجاء، بأن يغفر اللّه لهم، فهؤلاء ‏‏عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏‏ وتوبته على عبده نوعان‏:‏الأول‏:‏ التوفيق للتوبة‏.‏ والثاني‏:‏ قبولها بعد وقوعها منهم‏.‏‏‏إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏‏ أي‏:‏ وصفه المغفرة والرحمة اللتان لا يخلو مخلوق منهما، بل لا بقاء للعالم العلوي والسفلي إلا بهما، فلو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة‏.‏‏‏إن اللّه يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا‏‏ ‏.‏ومن مغفرته أن المسرفين على أنفسهم الذين قطعوا أعمارهم بالأعمال السيئة، إذا تابوا إليه وأنابوا ولو قبيل موتهم بأقل القليل، فإنه يعفو عنهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، فهذه الآية، دلت على أن المخلط المعترف النادم، الذي لم يتب توبة نصوحا، أنه تحت الخوف والرجاء، وهو إلى السلامة أقرب‏.‏وأما المخلط الذي لم يعترف ويندم على ما مضى منه، بل لا يزال مصرًا على الذنوب، فإنه يخاف عليه أشد الخوف‏.‏

خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)


قال تعالى لرسوله ومن قام مقامه، آمرا له بما يطهر المؤمنين، ويتمم إيمانهم‏:‏ ‏‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً‏‏ وهي الزكاة المفروضة، ‏‏تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا‏‏ أي‏:‏ تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة‏.‏‏‏وَتُزَكِّيهِمْ‏‏ أي‏:‏ تنميهم، وتزيد في أخلاقهم الحسنة، وأعمالهم الصالحة، وتزيد في ثوابهم الدنيوي والأخروي، وتنمي أموالهم‏.‏‏‏وَصَلِّ عَلَيْهِمْ‏‏ أي‏:‏ ادع لهم، أي‏:‏ للمؤمنين عموما وخصوصا عندما يدفعون إليك زكاة أموالهم‏.‏‏‏إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ‏‏ أي‏:‏ طمأنينة لقلوبهم، واستبشار لهم، ‏‏وَاللَّهُ سَمِيعٌ‏‏ لدعائك، سمع إجابة وقبول‏.‏‏‏عَلِيمٌ‏‏ بأحوال العباد ونياتهم، فيجازي كل عامل بعمله، وعلى قدر نيته، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتثل لأمر اللّه، ويأمرهم بالصدقة، ويبعث عماله لجبايتها، فإذا أتاه أحد بصدقته دعا له وبرَّك‏.‏ففي هذه الآية، دلالة على وجوب الزكاة، في جميع الأموال، وهذا إذا كانت للتجارة ظاهرة، فإنها أموال تنمى ويكتسب بها، فمن العدل أن يواسى منها الفقراء، بأداء ما أوجب اللّه فيها من الزكاة‏.‏وما عدا أموال التجارة، فإن كان المال ينمى، كالحبوب، والثمار، والماشية المتخذة للنماء والدر والنسل، فإنها تجب فيها الزكاة، وإلا لم تجب فيها، لأنها إذا كانت للقنية، لم تكن بمنزلة الأموال التي يتخذها الإنسان في العادة، مالا يتمول، ويطلب منه المقاصد المالية، وإنما صرف عن المالية بالقنية ونحوها‏.‏وفيها‏:‏ أن العبد لا يمكنه أن يتطهر ويتزكى حتى يخرج زكاة ماله، وأنه لا يكفرها شيء سوى أدائها، لأن الزكاة والتطهير متوقف على إخراجها‏.‏وفيها‏:‏ استحباب الدعاء من الإمام أو نائبه لمن أدى زكاته بالبركة، وأن ذلك ينبغي، أن يكون جهرا، بحيث يسمعه المتصدق فيسكن إليه‏.‏ويؤخذ من المعنى، أنه ينبغي إدخال السرور على المؤمن بالكلام اللين، والدعاء له، ونحو ذلك مما يكون فيه طمأنينة، وسكون لقلبه‏.‏ وأنه ينبغي تنشيط من أنفق نفقة وعمل عملا صالحا بالدعاء له والثناء، ونحو ذلك‏.‏

أَلَمْ يَعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِۦ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ (104)


أي‏:‏ أما علموا سعة رحمة اللّه وعموم كرمه وأنه ‏‏يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ‏‏ التائبين من أي ذنب كان، بل يفرح تعالى بتوبة عبده، إذا تاب أعظم فرح يقدر‏.‏‏‏وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ‏‏ منهم أي‏:‏ يقبلها، ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدهم كما يربي الرجل فلوه، حتى تكون التمرة الواحدة كالجبل العظيم، فكيف بما هو أكبر وأكثر من ذلك‏.‏‏‏وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ‏‏ أي‏:‏ كثير التوبة على التائبين، فمن تاب إليه تاب عليه، ولو تكررت منه ‏[‏المعصية‏]‏ مرارا‏.‏ ولا يمل اللّه من التوبة على عباده، حتى يملوا هم، ويأبوا إلا النفار والشرود عن بابه، وموالاتهم عدوهم‏.‏‏‏الرَّحِيمِ‏‏ الذي وسعت رحمته كل شيء، وكتبها للذين يتقون، ويؤتون الزكاة، ويؤمنون بآياته، ويتبعون رسوله‏.‏

وَقُلِ ٱعْمَلُوا۟ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)


يقول تعالى‏:‏ ‏‏وَقُلْ‏‏ لهؤلاء المنافقين‏:‏ ‏‏اعْمَلُوا‏‏ ما ترون من الأعمال، واستمروا على باطلكم، فلا تحسبوا أن ذلك، سيخفى‏.‏‏‏فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ‏‏ أي‏:‏ لا بد أن يتبين عملكم ويتضح، ‏‏وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏‏ من خير وشر، ففي هذا التهديد والوعيد الشديد على من استمر على باطله وطغيانه وغيه وعصيانه‏.‏ويحتمل أن المعنى‏:‏ أنكم مهما عملتم من خير أوشر، فإن اللّه مطلع عليكم، وسيطلع رسوله وعباده المؤمنين على أعمالكم ولو كانت باطنة‏.‏

وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)


أي‏:‏ ‏‏وَآخَرُونَ‏‏ من المخلفين مؤخرون ‏‏لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ‏‏ ففي هذا التخويف الشديد للمتخلفين، والحث لهم على التوبة والندم‏.‏‏‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ‏‏ بأحوال العباد ونياتهم ‏‏حَكِيمٌ‏‏ يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها، فإن اقتضت حكمته أن يغفر لهم ويتوب عليهم غفر لهم وتاب عليهم، وإن اقتضت حكمته أن يخذلهم ولا يوفقهم للتوبة، فعل ذلك‏.‏

الصفحة السابقة الصفحة التالية