تفسير سورة التوبة الصفحة 205 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 205 من المصحف


ٱلتَّٰٓئِبُونَ ٱلْعَٰبِدُونَ ٱلْحَٰمِدُونَ ٱلسَّٰٓئِحُونَ ٱلرَّٰكِعُونَ ٱلسَّٰجِدُونَ ٱلْءَامِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ (112)


كأنه قيل‏:‏ من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من اللّه بدخول الجنات ونيل الكرامات‏؟‏ فقال‏:‏ هم ‏‏التَّائِبُونَ‏‏ أي‏:‏ الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات‏.‏‏‏الْعَابِدُونَ‏‏ أي‏:‏ المتصفون بالعبودية للّه، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت، فبذلك يكون العبد من العابدين‏.‏‏‏الْحَامِدُونَ‏‏ للّه في السراء والضراء، واليسر والعسر، المعترفون بما للّه عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، المثنون على اللّه بذكرها وبذكره في آناء الليل وآناء النهار‏.‏‏‏السَّائِحُونَ‏‏ فسرت السياحة بالصيام، أو السياحة في طلب العلم، وفسرت بسياحة القلب في معرفة اللّه ومحبته، والإنابة إليه على الدوام، والصحيح أن المراد بالسياحة‏:‏ السفر في القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك‏.‏‏‏الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ‏‏ أي‏:‏ المكثرون من الصلاة، المشتملة على الركوع والسجود‏.‏‏‏الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ‏‏ ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبات‏.‏‏‏وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ‏‏ وهي جميع ما نهى اللّه ورسوله عنه‏.‏‏‏وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ‏‏ بتعلمهم حدود ما أنزل اللّه على رسوله، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام، وما لا يدخل، الملازمون لها فعلا وتركا‏.‏‏‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏‏ لم يذكر ما يبشرهم به، ليعم جميع ما رتب على الإيمان من ثواب الدنيا والدين والآخرة، فالبشارة متناولة لكل مؤمن‏.‏وأما مقدارها وصفتها فإنها بحسب حال المؤمنين، وإيمانهم، قوة، وضعفا، وعملا بمقتضاه‏.‏

مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ أَن يَسْتَغْفِرُوا۟ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓا۟ أُو۟لِى قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ ٱلْجَحِيمِ (113)


يعني‏:‏ ما يليق ولا يحسن للنبي وللمؤمنين به ‏‏أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ‏‏ أي‏:‏ لمن كفر به، وعبد معه غيره ‏‏وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏‏ فإن الاستغفار لهم في هذه الحال غلط غير مفيد، فلا يليق بالنبي والمؤمنين، لأنهم إذا ماتوا على الشرك، أو علم أنهم يموتون عليه، فقد حقت عليهم كلمة العذاب، ووجب عليهم الخلود في النار، ولم تنفع فيهم شفاعة الشافعين، ولا استغفار المستغفرين‏.‏وأيضًا فإن النبي والذين آمنوا معه، عليهم أن يوافقوا ربهم في رضاه وغضبه، ويوالوا من والاه اللّه، ويعادوا من عاداه اللّه، والاستغفار منهم لمن تبين أنه من أصحاب النار مناف لذلك، مناقض له

وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيمٌ (114)


ولئن وجد الاستغفار من خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لأبيه فإنه ‏‏عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ‏‏ في قوله ‏‏سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا‏‏ وذلك قبل أن يعلم عاقبة أبيه‏.‏فلما تبين لإبراهيم أن أباه عدو للّه، سيموت على الكفر، ولم ينفع فيه الوعظ والتذكير ‏‏تَبَرَّأَ مِنْهُ‏‏ موافقة لربه وتأدبا معه‏.‏‏‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ‏‏ أي‏:‏ رجَّاع إلى اللّه في جميع الأمور، كثير الذكر والدعاء، والاستغفار والإنابة إلى ربه‏.‏‏‏حَلِيمٌ‏‏ أي‏:‏ ذو رحمة بالخلق، وصفح عما يصدر منهم إليه، من الزلات، لا يستفزه جهل الجاهلين، ولا يقابل الجاني عليه بجرمه، فأبوه قال له‏:‏ ‏‏لَأَرْجُمَنَّكَ‏‏ وهو يقول له‏:‏ ‏‏سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي‏‏فعليكم أن تقتدوا به، وتتبعوا ملة إبراهيم في كل شيء ‏‏إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ‏‏ كما نبهكم اللّه عليها وعلى غيرها

وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًۢا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ (115)


يعني أن اللّه تعالى إذا منَّ على قوم بالهداية، وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم، فإنه تعالى يتمم عليهم إحسانه، ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه، وتدعو إليه ضرورتهم، فلا يتركهم ضالين، جاهلين بأمور دينهم، ففي هذا دليل على كمال رحمته، وأن شريعته وافية بجميع ما يحتاجه العباد، في أصول الدين وفروعه‏.‏ويحتمل أن المراد بذلك ‏‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ‏‏ فإذا بين لهم ما يتقون فلم ينقادوا له، عاقبهم بالإضلال جزاء لهم على ردهم الحق المبين، والأول أولى‏.‏‏‏إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏‏ فلكمال علمه وعمومه علمكم ما لم تكونوا تعلمون، وبين لكم ما به تنتفعون‏.‏

إِنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)


‏‏إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السموات وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ‏‏ أي‏:‏ هو المالك لذلك، المدبر لعباده بالإحياء والإماتة وأنواع التدابير الإلهية، فإذا كان لا يخل بتدبيره القدري فكيف يخل بتدبيره الديني المتعلق بإلهيته، ويترك عباده سدى مهملين، أو يدعهم ضالين جاهلين، وهو أعظم توليه لعباده‏؟‏‏"‏‏.‏فلهذا قال‏:‏ ‏‏وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ‏‏ أي‏:‏ ولي يتولاكم بجلب المنافع لكم، أو ‏‏نَصِيرٍ‏‏ يدفع عنكم المضار‏.

لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِىِّ وَٱلْمُهَٰجِرِينَ وَٱلْأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (117)


يخبر تعالى أنه من لطفه وإحسانه تَابَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‏‏وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ‏‏ فغفر لهم الزلات، ووفر لهم الحسنات، ورقاهم إلى أعلى الدرجات، وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقات، ولهذا قال‏:‏ ‏‏الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ‏‏ أي‏:‏ خرجوا معه لقتال الأعداء في وقعة ‏"‏تبوك‏"‏ وكانت في حر شديد، وضيق من الزاد والركوب، وكثرة عدو، مما يدعو إلى التخلف‏.‏فاستعانوا اللّه تعالى، وقاموا بذلك ‏‏مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ‏‏ أي‏:‏ تنقلب قلوبهم، ويميلوا إلى الدعة والسكون، ولكن اللّه ثبتهم وأيدهم وقواهم‏.‏ وزَيْغُ القلب هو انحرافه عن الصراط المستقيم، فإن كان الانحراف في أصل الدين، كان كفرا، وإن كان في شرائعه، كان بحسب تلك الشريعة، التي زاغ عنها، إما قصر عن فعلها، أو فعلها على غير الوجه الشرعي‏.‏وقوله ‏‏ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ‏‏ أي‏:‏ قبل توبتهم ‏‏إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏‏ ومن رأفته ورحمته أن مَنَّ عليهم بالتوبة، وقبلها منهم وثبتهم عليها‏.‏

الصفحة السابقة الصفحة التالية