تفسير سورة هود الصفحة 233 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 233 من المصحف


يَقْدُمُ قَوْمَهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ (98)


وقال تعالى : ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ) وكذلك شأن المتبوعين يكونون موفرين في العذاب يوم المعاد ، كما قال تعالى : ( [ قال ] لكل ضعف ولكن لا تعلمون ) [ الأعراف : 38 ] ، وقال تعالى إخبارا عن الكفرة إنهم يقولون في النار : ( ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ) [ الأحزاب : 67 ، 68 ] .وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا أبو الجهم ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " امرؤ القيس حامل لواء شعراء الجاهلية إلى النار " .

وَأُتْبِعُوا۟ فِى هَٰذِهِۦ لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ (99)


وقوله : ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) أي : أتبعناهم زيادة على ما جازيناهم من عذاب النار لعنة في هذه الحياة الدنيا ، ( ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) .قال مجاهد : زيدوا لعنة يوم القيامة ، فتلك لعنتان .وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( بئس الرفد المرفود ) قال : لعنة الدنيا والآخرة ، وكذا قال الضحاك ، وقتادة ، وهكذا قوله تعالى : ( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ) [ القصص : 41 ، 42 ] ، وقال تعالى : ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) [ غافر : 46 ] .

ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُۥ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100)


لما ذكر تعالى خبر هؤلاء الأنبياء ، وما جرى لهم مع أممهم ، وكيف أهلك الكافرين ونجى المؤمنين قال : ( ذلك من أنباء القرى ) أي : من أخبارها ( نقصه عليك منها قائم ) أي : عامر ، ( وحصيد ) أي : هالك دائر

وَمَا ظَلَمْنَٰهُمْ وَلَٰكِن ظَلَمُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ فَمَآ أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتُهُمُ ٱلَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَىْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)


( وما ظلمناهم ) أي : إذ أهلكناهم ، ( ولكن ظلموا أنفسهم ) أي : بتكذيبهم رسلنا وكفرهم بهم ، ( فما أغنت عنهم آلهتهم ) أي : أصنامهم وأوثانهم التي كانوا يعبدونها ويدعونها ، ( من دون الله من شيء ) أي : ما نفعوهم ولا أنقذوهم لما جاء أمر الله بإهلاكهم ، ( وما زادوهم غير تتبيب ) .قال مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما : أي غير تخسير ، وذلك أن سبب هلاكهم ودمارهم إنما كان باتباعهم تلك الآلهة وعبادتهم إياها فبهذا أصابهم ما أصابهم ، وخسروا بهم ، في الدنيا والآخرة .

وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَٰلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُۥٓ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)


يقول تعالى : وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بنظائرهم وأشباههم وأمثالهم ، ( إن أخذه أليم شديد ) وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته " ، ثم قرأ رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) .

إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ٱلْءَاخِرَةِ ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103)


واعتبارا على صدق موعودنا في الدار الآخرة ، ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) [ غافر : 51 ] ، وقال تعالى : ( فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) [ إبراهيم : 13 ، 14 ] .وقال تعالى : ( ذلك يوم مجموع له الناس ) أي : أولهم وآخرهم ، فلا يبقى منهم أحد ، كما قال : ( وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ) [ الكهف : 47 ] .( وذلك يوم مشهود ) أي : يوم عظيم تحضره الملائكة كلهم ، ويجتمع فيه الرسل جميعهم ، وتحشر فيه الخلائق بأسرهم ، من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب ، ويحكم فيهم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة ، وإن تك حسنة يضاعفها .

وَمَا نُؤَخِّرُهُۥٓ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104)


وقوله : ( وما نؤخره إلا لأجل معدود ) أي : ما نؤخر إقامة يوم القيامة إلا لأنه قد سبقت كلمة الله وقضاؤه وقدره ، في وجود أناس معدودين من ذرية آدم ، وضرب مدة معينة إذا انقضت وتكامل وجود أولئك المقدر خروجهم من ذرية آدم ، أقام الله الساعة; ولهذا قال : ( وما نؤخره إلا لأجل معدود ) أي : لمدة مؤقتة لا يزاد عليها ولا ينتقص منها

يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ (105)


( يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ) يقول : يوم يأتي هذا اليوم وهو يوم القيامة ، لا يتكلم أحد [ يومئذ ] إلا بإذن الله تعالى ، كما قال تعالى : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) [ النبأ : 38 ] ، وقال تعالى : ( وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ) [ طه : 108 ] ، وفي الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة الطويل : " ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ، ودعوى الرسل يومئذ : اللهم سلم سلم .وقوله : ( فمنهم شقي وسعيد ) أي : فمن أهل الجمع شقي ومنهم سعيد ، كما قال : ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) [ الشورى : 7 ] .وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا موسى بن حيان ، حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا سليمان بن سفيان ، حدثنا عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن عمر - رضي الله عنه - قال : لما نزلت ( فمنهم شقي وسعيد ) سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قلت : يا رسول الله ، علام نعمل ؟ على شيء قد فرغ منه ، أم على شيء لم يفرغ منه ؟ فقال : " على شيء قد فرغ منه يا عمر وجرت به الأقلام ، ولكن كل ميسر لما خلق له " .ثم بين تعالى حال الأشقياء وحال السعداء ، فقال :

فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُوا۟ فَفِى ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)


يقول تعالى : ( لهم فيها زفير وشهيق ) قال ابن عباس : الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدر أي : تنفسهم زفير ، وأخذهم النفس شهيق ، لما هم فيه من العذاب ، عياذا بالله من ذلك .

خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107)


( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) قال الإمام أبو جعفر بن جرير : من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدا قالت : " هذا دائم دوام السموات والأرض " ، وكذلك يقولون : هو باق ما اختلف الليل والنهار ، وما سمر ابنا سمير ، وما لألأت العفر بأذنابها . يعنون بذلك كلمة : " أبدا " ، فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفونه بينهم ، فقال : ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) .قلت : ويحتمل أن المراد بما دامت السموات والأرض : الجنس; لأنه لا بد في عالم الآخرة من سموات وأرض ، كما قال تعالى : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ) [ إبراهيم : 48 ] ; ولهذا قال الحسن البصري في قوله : ( ما دامت السماوات والأرض ) قال : تبدل سماء غير هذه السماء ، وأرض غير هذه الأرض ، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض .وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ( ما دامت السماوات والأرض ) قال : لكل جنة سماء وأرض .وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما دامت الأرض أرضا ، والسماء سماء .وقوله : ( إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ) كقوله تعالى : ( النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ) [ الأنعام : 128 ] .وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء ، على أقوال كثيرة ، حكاها الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه " زاد المسير " وغيره من علماء التفسير ، ونقل كثيرا منها الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، في كتابه واختار هو ما نقله عن خالد بن معدان ، والضحاك ، وقتادة ، وأبي سنان ، ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن أيضا : أن الاستثناء عائد على العصاة من أهل التوحيد ، ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين ، من الملائكة والنبيين والمؤمنين ، حين يشفعون في أصحاب الكبائر ، ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين ، فتخرج من النار من لم يعمل خيرا قط ، وقال يوما من الدهر : لا إله إلا الله . كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمضمون ذلك من حديث أنس ، وجابر ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، وغيرهم من الصحابة ، ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ولا محيد له عنها . وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديما وحديثا في تفسير هذه الآية الكريمة . وقد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر ، وأبي سعيد ، من الصحابة . وعن أبي مجلز ، والشعبي ، وغيرهما من التابعين . وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وإسحاق بن راهويه وغيرهما من الأئمة ، أقوال غريبة . وورد حديث غريب في معجم الطبراني الكبير ، عن أبي أمامة صدى بن عجلان الباهلي ، ولكن سنده ضعيف ، والله أعلم .وقال قتادة : الله أعلم بثنياه .وقال السدي : هي منسوخة بقوله : ( خالدين فيها أبدا ) [ النساء : 57 ] .

وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُوا۟ فَفِى ٱلْجَنَّةِ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)


يقول تعالى : ( وأما الذين سعدوا ) وهم أتباع الرسل ، ( ففي الجنة ) أي : فمأواهم الجنة ، ( خالدين فيها ) أي : ماكثين مقيمين فيها أبدا ، ( ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) معنى الاستثناء هاهنا : أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ، ليس أمرا واجبا بذاته ، بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى ، فله المنة عليهم [ دائما ] ، ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس .وقال الضحاك ، والحسن البصري : هي في حق عصاة الموحدين الذين كانوا في النار ، ثم أخرجوا منها . وعقب ذلك بقوله : ( عطاء غير مجذوذ ) أي : غير مقطوع - قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية وغير واحد ، لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة أن ثم انقطاعا ، أو لبسا ، أو شيئا بل ختم له بالدوام وعدم الانقطاع . كما بين هنا أن عذاب أهل النار في النار دائما مردود إلى مشيئته ، وأنه بعدله وحكمته عذبهم; ولهذا قال : ( إن ربك فعال لما يريد ) [ هود : 107 ] كما قال ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) [ الأنبياء : 23 ] ، وهنا طيب القلوب وثبت المقصود بقوله : ( عطاء غير مجذوذ ) .يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار ، خلود فلا موت .وفي الصحيحين أيضا : " فيقال يا أهل الجنة ، إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا ، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا ، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا " .

الصفحة السابقة الصفحة التالية