تفسير سورة الرعد الصفحة 252 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 252 من المصحف


أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰٓ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُو۟لُوا۟ ٱلْأَلْبَٰبِ (19)


يقول تعالى : لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي ( أنزل إليك ) يا محمد ( من ربك ) هو ) الحق ) أي : الذي لا شك فيه ولا مرية ولا لبس فيه ولا اختلاف فيه ، بل هو كله حق يصدق بعضه بعضا ، لا يضاد شيء منه شيئا آخر ، فأخباره كلها حق ، وأوامره ونواهيه عدل ، كما قال تعالى : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ) [ الأنعام : 115 ] أي : صدقا في الإخبار ، وعدلا في الطلب ، فلا يستوي من تحقق صدق ما جئت به يا محمد ، ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه ، ولو فهمه ما انقاد له ، ولا صدقه ولا اتبعه ، كما قال تعالى : ( لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ) [ الحشر : 20 ] وقال في هذه الآية الكريمة : ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ) أي : أفهذا كهذا ؟ لا استواء .وقوله : ( إنما يتذكر أولو الألباب ) أي : إنما يتعظ ويعتبر ويعقل أولو العقول السليمة الصحيحة جعلنا الله منهم [ بفضله وكرمه ] .يقول تعالى مخبرا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة ، بأن لهم ( عقبى الدار ) وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة .

ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ ٱلْمِيثَٰقَ (20)


( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ) وليسوا كالمنافقين الذين إذا عاهد أحدهم غدر ، وإذا خاصم فجر ، وإذا حدث كذب ، وإذا ائتمن خان .

وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوٓءَ ٱلْحِسَابِ (21)


( والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ) من صلة الأرحام ، والإحسان إليهم وإلى الفقراء والمحاويج ، وبذل المعروف ، ( ويخشون ربهم ) أي : فيما يأتون وما يذرون من الأعمال ، يراقبون الله في ذلك ، ويخافون سوء الحساب في الدار الآخرة . فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم وسكناتهم وجميع أحوالهم القاصرة والمتعدية .

وَٱلَّذِينَ صَبَرُوا۟ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُوا۟ مِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُو۟لَٰٓئِكَ لَهُمْ عُقْبَى ٱلدَّارِ (22)


( والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم ) أي : عن المحارم والمآثم ، ففطموا نفوسهم عن ذلك لله عز وجل; ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ( وأقاموا الصلاة ) بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي ، ( وأنفقوا مما رزقناهم ) أي : على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب ، من فقراء ومحاويج ومساكين ، ( سرا وعلانية ) أي : في السر والجهر ، لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال ، في آناء الليل وأطراف النهار ، ( ويدرءون بالحسنة السيئة ) أي : يدفعون القبيح بالحسن ، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا ، كما قال تعالى : ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) [ فصلت : 34 ، 35 ] ; ولهذا قال مخبرا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار.

جَنَّٰتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ وَأَزْوَٰجِهِمْ وَذُرِّيَّٰتِهِمْ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23)


ثم فسر ذلك بقوله : ( جنات عدن ) والعدن : الإقامة ، أي : جنات إقامة يخلدون فيها .وعن عبد الله بن عمرو أنه قال : إن في الجنة قصرا يقال له : " عدن " ، حوله البروج والمروج ، فيه خمسة آلاف باب ، على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد .وقال الضحاك في قوله : ( جنات عدن ) مدينة الجنة ، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى ، والناس حولهم بعد والجنات حولها . رواهما ابن جرير .وقوله : ( ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ) أي : يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء ، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين; لتقر أعينهم بهم ، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى ، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته ، بل امتنانا من الله وإحسانا ، كما قال تعالى : ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين ) [ الطور : 21 ] .( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب )

سَلَٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى ٱلدَّارِ (24)


أي : وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا وهاهنا للتهنئة بدخول الجنة ، فعند دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام ، والإقامة في دار السلام ، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام .وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثني سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا معروف بن سويد الجذامي عن أبي عشانة المعافري ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم . فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك ، وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم ؟ قال : إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ، وتسد بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره فلا يستطيع لها قضاء " . قال : " فتأتيهم الملائكة عند ذلك ، فيدخلون عليهم من كل باب ، ( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار )ورواه أبو القاسم الطبراني ، عن أحمد بن رشدين ، عن أحمد بن صالح ، عن عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن أبي عشانة سمع عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين ، الذين تتقى بهم المكاره ، وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا ، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره ، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها ، فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي ، وجاهدوا في سبيلي ؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب ، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبحك الليل والنهار ، ونقدس لك ، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب عز وجل : هؤلاء عبادي الذين جاهدوا في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي فتدخل عليهم الملائكة من كل باب : ( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار )وقال عبد الله بن المبارك ، عن بقية بن الوليد ، حدثنا أرطاة بن المنذر ، سمعت رجلا من مشيخة الجند ، يقال له " أبو الحجاج " يقول : جلست إلى أبي أمامة فقال : إن المؤمن ليكون متكئا على أريكته إذا دخل الجنة ، وعنده سماطان من خدم ، وعند طرف السماطين باب مبوب ، فيقبل الملك فيستأذن ، فيقول [ أقصى الخدم ] للذي يليه : " ملك يستأذن " ، ويقول الذي يليه للذي يليه : " ملك يستأذن " ، حتى يبلغ المؤمن فيقول : ائذنوا . فيقول أقربهم إلى المؤمن : ائذنوا ، ويقول الذي يليه للذي يليه : ائذنوا حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب ، فيفتح له ، فيدخل فيسلم ثم ينصرف . رواه ابن جرير .ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش ، عن أرطاة بن المنذر ، عن أبي الحجاج يوسف الألهاني قال : سمعت أبا أمامة ، فذكر نحوه .وقد جاء في الحديث : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول ، فيقول لهم : ( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) وكذا أبو بكر ، وعمر وعثمان .

وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعْدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ٱلْأَرْضِ أُو۟لَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوٓءُ ٱلدَّارِ (25)


هذا حال الأشقياء وصفاتهم ، وذكر مآلهم في الدار الآخرة ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون ، كما أنهم اتصفوا بخلاف صفاتهم في الدنيا ، فأولئك كانوا يوفون بعهد الله ويصلون ما أمر الله به أن يوصل ، وهؤلاء ( ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض ) كما ثبت في الحديث : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان " وفي رواية : " وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " .ولهذا قال : ( أولئك لهم اللعنة ) وهي الإبعاد عن الرحمة ، ( ولهم سوء الدار ) وهي سوء العاقبة والمآل ، ومأواهم جهنم وبئس القرار .وقال أبو العالية في قوله : ( والذين ينقضون عهد الله ) الآية ، قال : هي ست خصال في المنافقين إذا كان فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا ائتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض . وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الثلاث الخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا ائتمنوا خانوا .

ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا۟ بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلْءَاخِرَةِ إِلَّا مَتَٰعٌ (26)


يذكر تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ، ويقتره على من يشاء ، لما له في ذلك من الحكمة والعدل . وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا في الحياة الدنيا استدراجا لهم وإمهالا كما قال تعالى : ( أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ) [ المؤمنون : 55 ، 56 ] .ثم حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخره تعالى لعباده المؤمنين في الدار الآخرة فقال : ( وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ) كما قال : ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ) [ النساء : 77 ] وقال ( بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ) [ الأعلى : 16 ، 17 ] .وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس ، عن المستورد أخي بني فهر قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع " وأشار بالسبابة . ورواه مسلم في صحيحه .وفي الحديث الآخر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بجدي أسك ميت - والأسك الصغير الأذنين - فقال : " والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه " .

وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لَوْلَآ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِۦ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِىٓ إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)


يخبر تعالى عن قيل المشركين : ( لولا ) أي : هلا ( أنزل عليه آية من ربه ) كما قالوا : ( فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ) [ الأنبياء : 5 ] وقد تقدم الكلام على هذا غير مرة ، وإن الله قادر على إجابة ما سألوا . وفي الحديث : أن الله أوحى إلى رسوله لما سألوه أن يحول لهم الصفا ذهبا ، وأن يجري لهم ينبوعا ، وأن يزيح الجبال من حول مكة فيصير مكانها مروج وبساتين : إن شئت يا محمد أعطيتهم ذلك ، فإن كفروا فإني أعذبهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة ، فقال : " بل تفتح لهم باب التوبة والرحمة " ; ولهذا قال لرسوله : ( قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ) أي : هو المضل والهادي ، سواء بعث الرسول بآية على وفق ما اقترحوا ، أو لم يجبهم إلى سؤالهم; فإن الهداية والإضلال ليس منوطا بذلك ولا عدمه ، كما قال : ( وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) [ يونس : 101 ] وقال ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) [ يونس : 96 ، 97 ] وقال ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ) [ الأنعام : 111 ] ; ولهذا قال : ( قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ) أي : ويهدي من أناب إلى الله ، ورجع إليه ، واستعان به ، وتضرع لديه .

ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ (28)


الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ) أي : تطيب وتركن إلى جانب الله ، وتسكن عند ذكره ، وترضى به مولى ونصيرا; ولهذا قال : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) أي : هو حقيق بذلك .

الصفحة السابقة الصفحة التالية