تفسير سورة الإسراء الصفحة 290 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 290 من المصحف


وَإِن كَادُوا۟ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)


قيل : نزلت في اليهود ، إذ أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكنى الشام بلاد الأنبياء ، وترك سكنى المدينة .وهذا القول ضعيف ؛ لأن هذه الآية مكية ، وسكنى المدينة بعد ذلك .وقيل : إنها نزلت بتبوك . وفي صحته نظر .قال البيهقي ، عن الحاكم ، عن الأصم ، عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، عن يونس بن بكير ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ؛ أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقالوا : يا أبا القاسم ، إن كنت صادقا أنك نبي ، فالحق بالشام ؛ فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء . فصدق ما قالوا ، فغزا غزوة تبوك ، لا يريد إلا الشام . فلما بلغ تبوك ، أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة : ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ) إلى قوله : ( تحويلا ) فأمره الله بالرجوع إلى المدينة ، وقال : فيها محياك ومماتك ، ومنها تبعث .وفي هذا الإسناد نظر . والأظهر أن هذا ليس بصحيح ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغز تبوك عن قول اليهود ، إنما غزاها امتثالا لقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) [ التوبة : 123 ] ، وقوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) [ التوبة : 29 ] . وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة ، من أصحابه ، والله أعلم . ولو صح هذا لحمل عليه الحديث الذي رواه الوليد بن مسلم ، عن عفير بن معدان ، عن سليم بن عامر ، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة : مكة ، والمدينة ، والشام " . قال الوليد : يعني بيت المقدس . وتفسير الشام بتبوك أحسن مما قال الوليد : إنه بيت المقدس والله أعلم .وقيل : نزلت في كفار قريش ، هموا بإخراج الرسول من بين أظهرهم ، فتوعدهم الله بهذه الآية ، وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيرا . وكذلك وقع ، فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم بعد ما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف . حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد ، فأمكنه منهم وسلطه عليهم وأظفره بهم ، فقتل أشرافهم وسبى سراتهم ؛ ولهذا قال :

سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)


( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ) أي : هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم : يخرج الرسول من بين أظهرهم : ويأتيهم العذاب . ولولا أنه عليه [ الصلاة و ] السلام رسول الرحمة ، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به ؛ ولهذا قال تعالى : ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) [ الأنفال : 33 ] .

أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيْلِ وَقُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)


يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمرا له بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها : ( أقم الصلاة لدلوك الشمس ) قيل لغروبها . قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، وابن زيد .وقال هشيم ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن ابن عباس : " دلوكها " : زوالها . ورواه نافع ، عن ابن عمر . ورواه مالك في تفسيره ، عن الزهري ، عن ابن عمر . وقاله أبو برزة الأسلمي وهو رواية أيضا عن ابن مسعود . ومجاهد . وبه قال الحسن ، والضحاك ، وأبو جعفر الباقر ، وقتادة . واختاره ابن جرير ، ومما استشهد عليه ما رواه عن ابن حميد ، عن الحكم بن بشير ، حدثنا عمرو بن قيس ، عن ابن أبي ليلى ، [ عن رجل ] ، عن جابر بن عبد الله قال : دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي ، ثم خرجوا حين زالت الشمس ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اخرج يا أبا بكر ، فهذا حين دلكت الشمس " .ثم رواه عن سهل بن بكار ، عن أبي عوانة ، عن الأسود بن قيس ، عن نبيح العنزي ، عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نحوه . فعلى هذا تكون هذه الآية دخل فيها أوقات الصلاة الخمسة فمن قوله : ( لدلوك الشمس إلى غسق الليل ) وهو : ظلامه ، وقيل : غروب الشمس ، أخذ منه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وقوله [ تعالى ] : ( وقرآن الفجر ) يعني صلاة الفجر .وقد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترا من أفعاله وأقواله بتفاصيل هذه الأوقات ، على ما عليه عمل أهل الإسلام اليوم ، مما تلقوه خلفا عن سلف ، وقرنا بعد قرن ، كما هو مقرر في مواضعه ، ولله الحمد .( إن قرآن الفجر كان مشهودا ) قال الأعمش ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود - وعن أبي صالح ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : ( إن قرآن الفجر كان مشهودا ) قال : " تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار " .وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة - وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر " . ويقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : ( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) .وقال الإمام أحمد : حدثنا أسباط ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - وحدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) قال : " تشهده ملائكة الليل ، وملائكة النهار " .ورواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، ثلاثتهم عن عبيد بن أسباط بن محمد ، عن أبيه ، به وقال الترمذي : حسن صحيح .وفي لفظ في الصحيحين ، من طريق مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يتعاقبون فيكم ملائكة الليل وملائكة النهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر ، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم - وهو أعلم بكم - كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون " وقال عبد الله بن مسعود : يجتمع الحرسان في صلاة الفجر ، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء . وكذا قال إبراهيم النخعي ، ومجاهد ، وقتادة ، وغير واحد في تفسير هذه الآية .وأما الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا - من حديث الليث بن سعد ، عن زيادة ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر حديث النزول وأنه تعالى يقول : " من يستغفرني أغفر له ، من يسألني أعطه ، من يدعني فأستجيب له حتى يطلع الفجر " . فلذلك يقول : ( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) فيشهده الله ، وملائكة الليل ، وملائكة النهار - فإنه تفرد به زيادة ، وله بهذا حديث في سنن أبي داود .

وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِۦ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا (79)


وقوله : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك ) أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة ، كما ورد في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل : أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة ؟ قال : " صلاة الليل " .ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل ، فإن التهجد : ما كان بعد نوم ؛ قاله علقمة ، والأسود وإبراهيم النخعي ، وغير واحد وهو المعروف في لغة العرب . وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان يتهجد بعد نومه ، عن ابن عباس ، وعائشة ، وغير واحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، كما هو مبسوط في موضعه ، ولله الحمد والمنة .وقال الحسن البصري : هو ما كان بعد العشاء . ويحمل على ما بعد النوم .واختلف في معنى قوله : ( نافلة لك ) فقيل : معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك ، فجعلوا قيام الليل واجبا في حقه دون الأمة . رواه العوفي عن ابن عباس ، وهو أحد قولي العلماء ، وأحد قولي الشافعي ، رحمه الله ، واختاره ابن جرير .وقيل : إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص ؛ لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وغيره من أمته إنما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه ؛ قاله مجاهد ، وهو في المسند عن أبي أمامة الباهلي ، رضي الله عنه .وقوله : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) أي : افعل هذا الذي أمرتك به ، لنقيمك يوم القيامة مقاما يحسدك فيه الخلائق كلهم وخالقهم ، تبارك وتعالى .قال ابن جرير : قال أكثر أهل التأويل : ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم .ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة قال : يجمع الناس في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، حفاة عراة كما خلقوا قياما ، لا تكلم نفس إلا بإذنه ، ينادى : يا محمد ، فيقول : " لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك ، والمهدي من هديت ، وعبدك بين يديك ، وبك وإليك ، لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك رب البيت " . فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل .ثم رواه عن بندار ، عن غندر ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، به . وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر والثوري ، عن أبي إسحاق ، به .وقال ابن عباس : هذا المقام المحمود مقام الشفاعة . وكذا قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . وقاله الحسن البصري .وقال قتادة : هو أول من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع ، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا )قلت : لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما تشريفات [ يوم القيامة ] لا يشركه فيها أحد ، وتشريفات لا يساويه فيها أحد ؛ فهو أول من تنشق عنه الأرض ويبعث راكبا إلى المحشر ، وله اللواء الذي آدم فمن دونه تحت لوائه ، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر واردا منه ، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق ، وذلك بعدما يسأل الناس آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ، فكل يقول : " لست لها " حتى يأتوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول : " أنا لها ، أنا لها " كما سنذكر ذلك مفصلا في هذا الموضع ، إن شاء الله تعالى . ومن ذلك أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار ، فيردون عنها . وهو أول الأنبياء يقضى بين أمته ، وأولهم إجازة على الصراط بأمته . وهو أول شفيع في الجنة ، كما ثبت في صحيح مسلم . وفي حديث الصور : إن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته وهو أول داخل إليها وأمته قبل الأمم كلهم . ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم . وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة ، لا تليق إلا له . وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة شفع الملائكة والنبيون والمؤمنون ، فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم إلا الله ، ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك . وقد بسطت ذلك مستقصى في آخر كتاب " السيرة " في باب الخصائص ، ولله الحمد والمنة .ولنذكر الآن الأحاديث الواردة في المقام المحمود ، وبالله المستعان :قال البخاري : حدثنا إسماعيل بن أبان ، حدثنا أبو الأحوص ، عن آدم بن علي ، سمعت ابن عمر [ يقول ] : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا ، كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان اشفع ، يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودا .ورواه حمزة بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .قال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا شعيب بن الليث ، حدثني الليث ، عن عبيد الله بن أبي جعفر أنه قال : سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول : سمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ، فيقول : لست صاحب ذلك ، ثم بموسى فيقول كذلك ، ثم بمحمد فيشفع بين الخلق ، فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة ، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا " . [ يحمده أهل الجنة كلهم ] .وهكذا رواه البخاري في " الزكاة " عن يحيى بن بكير ، وعبد الله بن صالح ، كلاهما عن الليث بن سعد ، به ، وزاد " فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا ، يحمده أهل الجمع كلهم " .قال البخاري : وحدثنا علي بن عياش ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، حلت له شفاعتي يوم القيامة " . انفرد به دون مسلم .حديث أبي :وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر الأزدي ، حدثنا زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة ، كنت إمام الأنبياء وخطيبهم ، وصاحب شفاعتهم غير فخر " .وأخرجه الترمذي ، من حديث أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي ، وقال : " حسن صحيح " . وابن ماجه من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل به . وقد قدمنا في حديث : " أبي بن كعب " في قراءة القرآن على سبعة أحرف ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخره : " فقلت : اللهم ، اغفر لأمتي ، اللهم اغفر لأمتي ، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق ، حتى إبراهيم عليه السلام " .حديث أنس بن مالك :قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، حدثنا قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجتمع المؤمنون يوم القيامة ، فيلهمون ذلك فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا ، فأراحنا من مكاننا هذا . فيأتون آدم فيقولون : يا آدم ، أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا . فيقول لهم آدم : لست هناكم ، ويذكر ذنبه الذي أصاب ، فيستحيي ربه - عز وجل - من ذلك ، ويقول : ولكن ائتوا نوحا ، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض . فيأتون نوحا فيقول : لست هناكم ، ويذكر خطيئة سؤاله ربه ما ليس له به علم ، فيستحيي ربه من ذلك ، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن . فيأتونه فيقول : لست هناكم ، ولكن ائتوا موسى ، عبدا كلمه الله ، وأعطاه التوراة . فيأتون موسى فيقول : لست هناكم ، ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس فيستحيي ربه من ذلك ، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته وروحه ، فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم ، ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني " . قال الحسن هذا الحرف : " فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين " . قال أنس : " حتى أستأذن على ربي ، فإذا رأيت ربي وقعت له - أو : خررت - ساجدا لربي ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني " . قال : " ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه . فأرفع رأسي ، فأحمده بتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع فيحد لي حدا ، فأدخلهم الجنة " : " ثم أعود إليه الثانية ، فإذا رأيت ربي وقعت - أو : خررت - ساجدا لربي ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني . ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع فيحد لي حدا ، فأدخلهم الجنة ، ثم أعود في الثالثة ؛ فإذا رأيت ربي وقعت - أو : خررت - ساجدا لربي ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة . ثم أعود الرابعة فأقول : يا رب ، ما بقي إلا من حبسه القرآن " . فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فيخرج من النار من قال : " لا إله إلا الله " وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، ثم يخرج من النار من قال : " لا إله إلا الله " وكان في قلبه من الخير ما يزن برة ثم يخرج من النار من قال : " لا إله إلا الله " وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة " .أخرجاه [ في الصحيح ] من حديث سعيد ، به وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن عفان ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بطوله .وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حرب بن ميمون أبو الخطاب الأنصاري ، عن النضر بن أنس ، عن أنس قال : حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط ، إذ جاءني عيسى ، عليه السلام ، فقال : هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون - أو قال : يجتمعون إليك - ويدعون الله أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله ، لغم ما هم فيه ، فالخلق ملجمون بالعرق ، فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة ، وأما الكافر فيغشاه الموت ، فقال : انتظر حتى أرجع إليك . فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فقام تحت العرش ، فلقي ما لم يلق ملك مصطفى ولا نبي مرسل . فأوحى الله - عز وجل - إلى جبريل : أن اذهب إلى محمد ، وقل له : ارفع رأسك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . فشفعت في أمتي : أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانا واحدا . فما زلت أتردد إلى ربي - عز وجل - فلا أقوم منه مقاما إلا شفعت ، حتى أعطاني الله من ذلك ، أن قال : يا محمد ، أدخل [ من أمتك ] من خلق الله - عز وجل - من شهد أن لا إله إلا الله يوما واحدا مخلصا ومات على ذلك " .حديث بريدة ، رضي الله عنه :قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا الأسود بن عامر ، أخبرنا أبو إسرائيل ، عن الحارث بن حصيرة ، عن ابن بريدة ، عن أبيه : أنه دخل على معاوية ، فإذا رجل يتكلم ، فقال بريدة : يا معاوية ، تأذن لي في الكلام ؟ فقال : نعم - وهو يرى أنه يتكلم بمثل ما قال الآخر - فقال بريدة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة " . قال : فترجوها أنت يا معاوية ، ولا يرجوها علي ، رضي الله عنه ؟ ! .حديث ابن مسعود :قال الإمام أحمد : حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا سعيد بن زيد ، حدثنا علي بن الحكم البناني ، عن عثمان ، عن إبراهيم ، عن علقمة والأسود ، عن ابن مسعود قال : جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا : إن أمنا [ كانت ] تكرم الزوج ، وتعطف على الولد - قال : وذكر الضيف - غير أنها كانت وأدت في الجاهلية ؟ فقال : " أمكما في النار " . قال : فأدبرا والسوء يرى في وجوههما ، فأمر بهما فردا ، فرجعا والسرور يرى في وجوههما ؛ رجاء أن يكون قد حدث شيء ، فقال : " أمي مع أمكما " . فقال رجل من المنافقين : وما يغني هذا عن أمه شيئا! ونحن نطأ عقبيه . فقال رجل من الأنصار - ولم أر رجلا قط أكثر سؤالا منه - : يا رسول الله ، هل وعدك ربك فيها أو فيهما ؟ . قال : فظن أنه من شيء قد سمعه ، فقال : " ما شاء الله ربي وما أطمعني فيه ، وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة " . فقال الأنصاري : يا رسول الله ، وما ذاك المقام المحمود ؟ قال : " ذاك إذا جيء بكم حفاة عراة غرلا فيكون أول من يكسى إبراهيم ، عليه السلام ، فيقول : اكسوا خليلي . فيؤتى بريطتين بيضاوين ، فيلبسهما ثم يقعده مستقبل العرش ، ثم أوتى بكسوتي فألبسها ، فأقوم عن يمينه مقاما لا يقومه أحد ، فيغبطني فيه الأولون والآخرون . ويفتح نهر من الكوثر إلى الحوض " . فقال المنافقون : إنه ما جرى ماء قط إلا على حال أو رضراض . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حاله المسك ، ورضراضه التوم " . [ قال المنافق : لم أسمع كاليوم . قلما جرى ماء قط على حال أو رضراض ، إلا كان له نبتة . فقال الأنصاري : يا رسول الله ، هل له نبت ؟ قال " نعم ، قضبان الذهب " ] . قال المنافق : لم أسمع كاليوم ، فإنه قلما ينبت قضيب إلا أورق ، وإلا كان له ثمر! قال الأنصاري : يا رسول الله ، هل له ثمرة ؟ قال : " نعم ، ألوان الجوهر ، وماؤه أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، من شرب منه شربة لا يظمأ بعده ، ومن حرمه لم يرو بعده " .وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل ، عن أبيه ، عن أبي الزعراء ، عن عبد الله قال : ثم يأذن الله - عز وجل - في الشفاعة ، فيقوم روح القدس جبريل ، ثم يقوم إبراهيم خليل الله ، ثم يقوم عيسى أو موسى - قال أبو الزعراء : لا أدري أيهما - قال : ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه وسلم رابعا ، فيشفع لا يشفع أحد بعده أكثر مما شفع ، وهو المقام المحمود الذي قال الله عز وجل : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) .حديث كعب بن مالك ، رضي الله عنه :قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا محمد بن حرب ، حدثنا الزبيدي ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله [ بن كعب ] بن مالك ، عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يبعث الناس يوم القيامة ، فأكون أنا وأمتي على تل ، ويكسوني ربي - عز وجل - حلة خضراء ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود " .حديث أبي الدرداء ، رضي الله عنه :قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة ، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه ، فأنظر إلى ما بين يدي ، فأعرف أمتي من بين الأمم ، ومن خلفي مثل ذلك ، وعن يميني مثل ذلك ، وعن شمالي مثل ذلك " . فقال رجل : يا رسول الله ، كيف تعرف أمتك من بين الأمم ، فيما بين نوح إلى أمتك ؟ قال : " هم غر محجلون ، من أثر الوضوء ، ليس أحد كذلك غيرهم ، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم " .حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه :قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا أبو حيان ، حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة ، قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم ، فرفع إليه الذراع - وكانت تعجبه - فنهس منها نهسة ، ثم قال : " أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون مم ذاك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون . فيقول بعض الناس لبعض : [ ألا ترون إلى ما أنتم فيه ؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم عز وجل ؟ فيقول بعض الناس لبعض ] : أبوكم آدم ! .فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ؛ فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته ، نفسي ، نفسي ، نفسي! اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح .فيأتون نوحا فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبدا شكورا ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه كانت لي دعوة على قومي ، نفسي ، نفسي ، نفسي! اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى إبراهيم .فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم ، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، [ اشفع لنا إلى ربك ] ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، فذكر كذباته نفسي ، نفسي ، نفسي [ اذهبوا إلى غيري ] اذهبوا إلى موسى .فيأتون موسى فيقولون : يا موسى ، أنت رسول الله ، اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها ، نفسي ، نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى عيسى .فيأتون عيسى فيقولون : يا عيسى ، أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - قال : هكذا هو - وكلمت الناس في المهد ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، ولم يذكر ذنبا ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد .فيأتوني فيقولون : يا محمد ، أنت رسول الله ، وخاتم الأنبياء ، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم فآتي تحت العرش ، فأقع ساجدا لربي - عز وجل - ثم يفتح الله علي ، ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي . فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، يا رب أمتي أمتي ، يا رب ، أمتي أمتي! فيقال : يا محمد : أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب " . ثم قال : " والذي نفس محمد بيده لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر ، أو كما بين مكة وبصرى " . أخرجاه في الصحيحين .وقال مسلم ، رحمه الله : حدثنا الحكم بن موسى ، حدثنا هقل بن زياد ، عن الأوزاعي ، حدثني أبو عمار ، حدثني عبد الله بن فروخ ، حدثني أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مشفع " .وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، عن داود بن يزيد الزعافري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) ، سئل عنها فقال : " هي الشفاعة " .رواه الإمام أحمد عن وكيع وعن محمد بن عبيد ، عن داود ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) قال : " هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه " .وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة ، مد الله الأرض مد الأديم ، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدمه . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأكون أول من يدعى ، وجبريل عن يمين الرحمن ، والله ما رآه قبلها ، فأقول : رب ، إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي . فيقول الله تبارك وتعالى : صدق ، ثم أشفع . فأقول : يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض " ، قال : " فهو المقام المحمود " ، وهذا حديث مرسل .

وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَٱجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَٰنًا نَّصِيرًا (80)


قال الإمام أحمد : حدثنا جرير ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة ، فأنزل الله : ( وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ) .وقال الحسن البصري في تفسير هذه الآية : إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يطردوه أو يوثقوه ، وأراد الله قتال أهل مكة ، فأمره أن يخرج إلى المدينة ، فهو الذي قال الله عز وجل : : ( وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق )وقال قتادة : ( وقل رب أدخلني مدخل صدق ) يعني المدينة ( وأخرجني مخرج صدق ) يعني مكة .وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وهذا القول هو أشهر الأقوال .وقال : العوفي عن ابن عباس : ( أدخلني مدخل صدق ) يعني الموت ( وأخرجني مخرج صدق ) يعني الحياة بعد الموت . وقيل غير ذلك من الأقوال . والأول أصح ، وهو اختيار ابن جرير .وقوله : ( واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ) قال الحسن البصري في تفسيرها : وعده ربه لينزعن ملك فارس ، وعز فارس ، وليجعلنه له ، وملك الروم ، وعز الروم ، وليجعلنه له .وقال قتادة فيها إن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، علم ألا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان ، فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله ، ولحدود الله ، ولفرائض الله ، ولإقامة دين الله ؛ فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده ، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض ، فأكل شديدهم ضعيفهم .قال مجاهد : ( سلطانا نصيرا ) حجة بينة .واختار ابن جرير قول الحسن وقتادة ، وهو الأرجح ؛ لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه ؛ ولهذا قال [ سبحانه ] وتعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) [ الحديد : 25 ] وفي الحديث : " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " أي : ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ، ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن ، وما فيه من الوعيد الأكيد ، والتهديد الشديد ، وهذا هو الواقع .

وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَٰطِلُ إِنَّ ٱلْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)


وقوله : ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) تهديد ووعيد لكفار قريش ؛ فإنه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مرية فيه ولا قبل لهم به ، وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان والعلم النافع . وزهق باطلهم ، أي اضمحل وهلك ، فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) [ الأنبياء : 18 ] .وقال البخاري : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده ، ويقول : ( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) ، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد " .وكذا رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، كلهم من طرق عن سفيان بن عيينة به . [ وكذا رواه عبد الرزاق عن الثوري عن ابن أبي نجيح ] .وكذا رواه الحافظ أبو يعلى : حدثنا زهير ، حدثنا شبابة ، حدثنا المغيرة ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر رضي الله عنه ، قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما يعبدون من دون الله . فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت لوجهها ، وقال : " جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا " .

وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)


يقول تعالى مخبرا عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم - وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد - إنه : ( شفاء ورحمة للمؤمنين ) أي : يذهب ما في القلوب من أمراض ، من شك ونفاق ، وشرك وزيغ وميل ، فالقرآن يشفي من ذلك كله . وهو أيضا رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه ، وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه ، فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة . وأما الكافر الظالم نفسه بذلك ، فلا يزيده سماعه القرآن إلا بعدا وتكذيبا وكفرا . والآفة من الكافر لا من القرآن ، كما قال تعالى : ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ) [ فصلت : 44 ] وقال تعالى : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) [ التوبة : 124 ، 125 ] . والآيات في ذلك كثيرة .قال قتادة في قوله : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه ( ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) إنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه ، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ، ورحمة للمؤمنين .

وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلْإِنسَٰنِ أَعْرَضَ وَنَـَٔا بِجَانِبِهِۦ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ يَـُٔوسًا (83)


يخبر تعالى عن نقص الإنسان من حيث هو ، إلا من عصم الله تعالى في حالتي سرائه وضرائه ، بأنه إذا أنعم الله عليه بمال وعافية ، وفتح ورزق ونصر ، ونال ما يريد ، أعرض عن طاعة الله وعبادته ونأى بجانبه .قال مجاهد : بعد عنا .قلت : وهذا كقوله تعالى : ( فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) [ يونس : 12 ] ، وقوله ) فلما نجاكم إلى البر أعرضتم ) [ الإسراء : 67 ] .وبأنه إذا مسه الشر - وهو المصائب والحوادث والنوائب - ( كان يئوسا ) أي : قنط أن يعود يحصل له بعد ذلك خير ، كما قال تعالى : ( ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ) [ هود : 10 ، 11 ] .

قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِۦ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا (84)


وقوله تعالى : ( قل كل يعمل على شاكلته ) قال ابن عباس : على ناحيته . وقال مجاهد : على حدته وطبيعته . وقال قتادة : على نيته . وقال ابن زيد : دينه .وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى . وهذه الآية - والله أعلم - تهديد للمشركين ووعيد لهم ، كقوله تعالى : ( وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ) [ هود : 121 ، 122 ] ولهذا قال : ( قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ) أي : منا ومنكم ، وسيجزي كل عامل بعمله ، فإنه لا تخفى عليه خافية .

وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)


قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود رضي الله عنه - قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة ، وهو متوكئ على عسيب ، فمر بقوم من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح . فقال بعضهم : لا تسألوه . قال : فسألوه عن الروح فقالوا يا محمد ، ما الروح ؟ فما زال متوكئا على العسيب ، قال : فظننت أنه يوحى إليه ، فقال : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )فقال بعضهم لبعض : قد قلنا لكم لا تسألوه .وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش ، به . ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية ، عن عبد الله بن مسعود قال : بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث ، وهو متوكئ على عسيب ، إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فقال : ما رابكم إليه . وقال بعضهم : لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه . فقالوا سلوه فسألوه عن الروح ، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي ، فلما نزل الوحي قال : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) الآية .وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية ، وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود ، عن ذلك بالمدينة ، مع أن السورة كلها مكية . وقد يجاب عن هذا : بأنه قد يكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك ، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوا بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية : ( ويسألونك عن الروح ) ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما قال الإمام أحمد :حدثنا قتيبة ، حدثنا يحيى بن زكريا ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود : أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل . فقالوا : سلوه عن الروح . فسألوه ، فنزلت : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) قالوا : أوتينا علما كثيرا ، أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا . قال : وأنزل الله : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) [ الكهف : 109 ] .وقد روى ابن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن عبد الأعلى ، عن داود ، عن عكرمة قال : سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فأنزل الله : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) فقالوا يزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) ؟ [ البقرة : 269 ] قال : فنزلت : ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) [ لقمان : 27 ] . قال : ما أوتيتم من علم ، فنجاكم الله به من النار ، فهو كثير طيب وهو في علم الله قليل .وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، أتاه أحبار يهود . وقالوا يا محمد ، ألم يبلغنا عنك أنك تقول : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) أفعنيتنا أم عنيت قومك ؟ فقال : " كلا قد عنيت " . قالوا : إنك تتلو أنا أوتينا التوراة ، وفيها تبيان كل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هي في علم الله قليل ، وقد آتاكم ما إن عملتم به استقمتم " ، وأنزل الله : ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ) [ لقمان : 27 ] .وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا على أقوال :أحدها : أن المراد [ بالروح ] : أرواح بني آدم .قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : ( ويسألونك عن الروح ) الآية ، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرنا عن الروح ؟ وكيف تعذب الروح التي في الجسد ، وإنما الروح من الله ؟ ولم يكن نزل عليه فيه شيء ، فلم يحر إليهم شيئا . فأتاه جبريل فقال له : ( قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقالوا : من جاءك بهذا ؟ فقال : " جاءني به جبريل من عند الله ؟ " فقالوا له : والله ما قاله لك إلا عدو لنا . فأنزل الله : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله [ مصدقا لما بين يديه ] ) الآية [ البقرة : 97 ] .وقيل : المراد بالروح هاهنا : جبريل . قاله قتادة ، قال : وكان ابن عباس يكتمه .وقيل : المراد به هاهنا : ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها . قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( ويسألونك عن الروح ) يقول : الروح : ملك .وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المصري ، حدثنا وهب بن رزق أبو هريرة حدثنا بشر بن بكر ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا عطاء ، عن عبد الله بن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن لله ملكا ، لو قيل له : التقم السماوات السبع والأرضين بلقمة واحدة ، لفعل ، تسبيحه : سبحانك حيث كنت " .وهذا حديث غريب ، بل منكر .وقال أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثني علي ، حدثني عبد الله ، حدثني أبو نمران يزيد بن سمرة صاحب قيسارية ، عمن حدثه عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال في قوله : ( ويسألونك عن الروح ) قال : هو ملك من الملائكة ، له سبعون ألف وجه ، لكل وجه منها سبعون ألف لسان ، لكل لسان منها [ سبعون ] ألف لغة ، يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ، يخلق الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة .وهذا أثر غريب عجيب ، والله أعلم .وقال السهيلي : روي عن علي أنه قال : هو ملك ، له مائة ألف رأس ، لكل رأس مائة ألف وجه ، في كل وجه مائة ألف فم ، في كل فم مائة ألف لسان ، يسبح الله تعالى بلغات مختلفة .قال السهيلي : وقيل المراد بذلك : طائفة من الملائكة على صور بني آدم .وقيل : طائفة يرون الملائكة ولا تراهم فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم .وقوله : ( قل الروح من أمر ربي ) أي : من شأنه ، ومما استأثر بعلمه دونكم ؛ ولهذا قال : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) أي : وما أطلعكم من علمه إلا على القليل ، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى .والمعنى : أن علمكم في علم الله قليل ، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى ، ولم يطلعكم عليه ، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى . وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر : أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة ، فنقر في البحر نقرة ، أي : شرب منه بمنقاره ، فقال : يا موسى ، ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر . أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه ؛ ولهذا قال تبارك وتعالى : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )وقال السهيلي : قال بعض الناس : لم يجبهم عما سألوا ؛ لأنهم سألوا على وجه التعنت . وقيل : أجابهم ، وعول السهيلي على أن المراد بقوله : ( قل الروح من أمر ربي ) أي : من شرعه ، أي : فادخلوا فيه ، وقد علمتم ذلك لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة ، وإنما ينال من جهة الشرع . وفي هذا المسلك الذي طرقه وسلكه نظر ، والله أعلم .ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس ، أو غيرها ، وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء ، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر . وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن ، واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم ، فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء . قال : كما أن الماء هو حياة الشجر ، ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسما خاصا ، فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مصطارا أو خمرا ، ولا يقال له : " ماء " حينئذ إلا على سبيل المجاز ، وهكذا لا يقال للنفس : " روح " إلا على هذا النحو ، وكذلك لا يقال للروح : نفس إلا باعتبار ما تئول إليه . فحاصل ما يقول أن الروح أصل النفس ومادتها ، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن ، فهي هي من وجه لا من كل وجه وهذا معنى حسن ، والله أعلم .قلت : وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها وصنفوا في ذلك كتبا . ومن أحسن من تكلم على ذلك الحافظ ابن منده ، في كتاب سمعناه في : الروح .

وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِىٓ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِۦ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)


يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم ، فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد .قال ابن مسعود ، رضي الله عنه : يطرق الناس ريح حمراء - يعني في آخر الزمان - من قبل الشام ، فلا يبقى في مصحف رجل ولا في قلبه آية ، ثم قرأ ابن مسعود : ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) الآية .

الصفحة السابقة الصفحة التالية