تفسير سورة الأنبياء الصفحة 327 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 327 من المصحف


فَجَعَلَهُمْ جُذَٰذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)


وقوله : ( فجعلهم جذاذا ) أي : حطاما كسرها كلها ( إلا كبيرا لهم ) يعني : إلا الصنم الكبير عندهم كما قال : ( فراغ عليهم ضربا باليمين ) [ الصافات : 93 ] .وقوله : ( لعلهم إليه يرجعون ) ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم ، لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه ، وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار ، فكسرها .

قَالُوا۟ مَن فَعَلَ هَٰذَا بِـَٔالِهَتِنَآ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ (59)


( قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين ) أي : حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم من الإهانة والإذلال الدال على عدم إلهيتها ، وعلى سخافة عقول عابديها ( قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين ) أي : في صنيعه هذا .

قَالُوا۟ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُۥٓ إِبْرَٰهِيمُ (60)


( قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ) أي : قال من سمعه يحلف أنه ليكيدنهم : ( سمعنا فتى ) أي : شابا ( يذكرهم يقال له إبراهيم )قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن قابوس [ عن أبيه ] ، عن ابن عباس قال : ما بعث الله نبيا إلا شابا ، ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب ، وتلا هذه الآية : ( قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ) .

قَالُوا۟ فَأْتُوا۟ بِهِۦ عَلَىٰٓ أَعْيُنِ ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)


وقوله : ( قالوا فأتوا به على أعين الناس ) أي : على رءوس الأشهاد في الملإ الأكبر بحضرة الناس كلهم ، وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم أن يتبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام التي لا تدفع عن نفسها ضرا ، ولا تملك لها نصرا ، فكيف يطلب منها شيء من ذلك؟ .

قَالُوٓا۟ ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِـَٔالِهَتِنَا يَٰٓإِبْرَٰهِيمُ (62)


قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا " يعني الذي تركه لم يكسره.

قَالَ بَلْ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَسْـَٔلُوهُمْ إِن كَانُوا۟ يَنطِقُونَ (63)


( فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) وإنما أراد بهذا أن يبادروا من تلقاء أنفسهم ، فيعترفوا أنهم لا ينطقون ، فإن هذا لا يصدر عن هذا الصنم ، لأنه جماد .وفي الصحيحين من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن إبراهيم ، عليه السلام ، لم يكذب غير ثلاث : ثنتين في ذات الله ، قوله : ( بل فعله كبيرهم هذا ) وقوله ( إني سقيم ) قال : " وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة ، إذ نزل منزلا فأتى الجبار رجل ، فقال : إنه قد نزل بأرضك رجل معه امرأة أحسن الناس ، فأرسل إليه فجاء ، فقال : ما هذه المرأة منك؟ قال : هي أختي . قال : فاذهب فأرسل بها إلي ، فانطلق إلى سارة فقال : إن هذا الجبار سألني عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني عنده ، فإنك أختي في كتاب الله ، وأنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك ، فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي . فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها ، فتناولها ، فأخذ أخذا شديدا ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت له فأرسل ، فأهوى إليها ، فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد . ففعل ذلك الثالثة فأخذ ، [ فذكر ] مثل المرتين الأوليين فقال ادعي الله فلا أضرك . فدعت ، له فأرسل ، ثم دعا أدنى حجابه ، فقال : إنك لم تأتني بإنسان ، وإنما أتيتني بشيطان ، أخرجها وأعطها هاجر ، فأخرجت وأعطيت هاجر ، فأقبلت ، فلما أحس إبراهيم بمجيئها انفتل من صلاته ، قال : مهيم؟ قالت : كفى الله كيد الكافر الفاجر ، وأخدمني هاجر " قال محمد بن سيرين وكان : أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال : فتلك أمكم يا بني ماء السماء

فَرَجَعُوٓا۟ إِلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوٓا۟ إِنَّكُمْ أَنتُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ (64)


يقول تعالى مخبرا عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال : ( فرجعوا إلى أنفسهم ) أي : بالملامة في عدم احترازهم وحراستهم لآلهتهم ، فقالوا : ( إنكم أنتم الظالمون ) أي : في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها

ثُمَّ نُكِسُوا۟ عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰٓؤُلَآءِ يَنطِقُونَ (65)


( ثم نكسوا على رءوسهم ) أي : ثم أطرقوا في الأرض فقالوا : ( لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) قال قتادة : أدركت القوم حيرة سوء فقالوا : ( لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) .وقال السدي : ( ثم نكسوا على رءوسهم ) أي : في الفتنة .وقال ابن زيد : أي في الرأي .وقول قتادة أظهر في المعنى; لأنهم إنما فعلوا ذلك حيرة وعجزا; ولهذا قالوا له : ( لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) ، فكيف تقول لنا : سلوهم إن كانوا ينطقون ، وأنت تعلم أنها لا تنطق

قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْـًٔا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)


فعندها قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بذلك : ( أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ) أي : إذا كانت لا تنطق ، وهي لا تضر ولا تنفع ، فلم تعبدونها من دون الله .

أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)


( أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ) أي : أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ ، الذي لا يروج إلا على جاهل ظالم فاجر؟ فأقام عليهم الحجة ، وألزمهم بها; ولهذا قال تعالى : ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) الآية [ الأنعام : 83 ] .

قَالُوا۟ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوٓا۟ ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَٰعِلِينَ (68)


لما دحضت حجتهم ، وبان عجزهم ، وظهر الحق ، واندفع الباطل ، عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم ، فقالوا : ( حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ) فجمعوا حطبا كثيرا جدا - قال السدي : حتى إن كانت المرأة تمرض ، فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطبا لحريق إبراهيم - ثم جعلوه في جوبة من الأرض ، وأضرموها نارا ، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع ، لم توقد قط نار مثلها ، وجعلوا إبراهيم ، عليه السلام ، في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد - قال شعيب الجبائي : اسمه هيزن - فخسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، فلما ألقوه قال : " حسبي الله ونعم الوكيل " ، كما رواه البخاري ، عن ابن عباس أنه قال : " حسبي الله ونعم الوكيل " قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد حين قالوا : ( إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) [ آل عمران : 173 ] .وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا ابن هشام ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي جعفر ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما ألقي إبراهيم ، عليه السلام ، في النار قال : اللهم ، إنك في السماء واحد ، وأنا في الأرض واحد أعبدك " .ويروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال : لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ، ولك الملك ، لا شريك لك .وقال شعيب الجبائي : كان عمره ست عشرة سنة . فالله أعلم .وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء ، فقال : ألك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا [ وأما من الله فبلى ] .وقال سعيد بن جبير - ويروى عن ابن عباس أيضا - قال : لما ألقي إبراهيم جعل خازن المطر يقول : متى أومر بالمطر فأرسله؟ قال : فكان أمر الله أسرع من أمره

قُلْنَا يَٰنَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبْرَٰهِيمَ (69)


قال الله : [ عز وجل ] ( يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) قال : لم يبق نار في الأرض إلا طفئت .وقال كعب الأحبار : لم ينتفع [ أحد ] يومئذ بنار ، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه .وقال الثوري ، عن الأعمش ، عن شيخ ، عن علي بن أبي طالب : ( قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) [ قال : بردت عليه حتى كادت تقتله ، حتى قيل : ( وسلاما ) ] ، قال : لا تضريه .وقال ابن عباس ، وأبو العالية : لولا أن الله عز وجل قال : ( وسلاما ) لآذى إبراهيم بردها .وقال جويبر ، عن الضحاك : ( كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) قال : صنعوا له حظيرة من حطب جزل ، وأشعلوا فيه النار من كل جانب ، فأصبح ولم يصبه منها شيء حتى أخمدها الله - قال : ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق ، فلم يصبه منها شيء غير ذلك .وقال السدي : كان معه فيها ملك الظل .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا مهران ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن المنهال بن عمرو قال : أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار ، فقال : كان فيها إما خمسين وإما أربعين ، قال : ما كنت أياما وليالي قط أطيب عيشا إذ كنت فيها ، وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها .وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة قال : إن أحسن [ شيء ] قال أبو إبراهيم - لما رفع عنه الطبق وهو في النار ، وجده يرشح جبينه - قال عند ذلك : نعم الرب ربك يا إبراهيم .وقال قتادة : لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار ، إلا الوزغ - وقال الزهري : أمر النبي صلى الله عليه وسلم : بقتله وسماه فويسقا .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، حدثني عمي ، حدثنا جرير بن حازم ، أن نافعا حدثه قال : حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت : دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحا . فقلت : يا أم المؤمنين ، ما تصنعين بهذا الرمح؟ فقالت : نقتل به هذه الأوزاغ ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن إبراهيم حين ألقي في النار ، لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار ، غير الوزغ ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم " ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله .

وَأَرَادُوا۟ بِهِۦ كَيْدًا فَجَعَلْنَٰهُمُ ٱلْأَخْسَرِينَ (70)


وقوله : ( وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ) أي : المغلوبين الأسفلين; لأنهم أرادوا بنبي الله كيدا ، فكادهم الله ونجاه من النار ، فغلبوا هنالك .وقال عطية العوفي : لما ألقي إبراهيم في النار ، جاء ملكهم لينظر إليه فطارت شرارة فوقعت على إبهامه ، فأحرقته مثل الصوفة .

وَنَجَّيْنَٰهُ وَلُوطًا إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِى بَٰرَكْنَا فِيهَا لِلْعَٰلَمِينَ (71)


يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم ، أنه سلمه الله من نار قومه ، وأخرجه من بين أظهرهم مهاجرا إلى بلاد الشام ، إلى الأرض المقدسة منها ، كما قال الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب في قوله : ( إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) قال : الشام ، وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة .وكذا قال أبو العالية أيضا .وقال قتادة : كان بأرض العراق ، فأنجاه الله إلى الشام ، [ وكان يقال للشام : عماد دار الهجرة ، وما نقص من الأرض زيد في الشام ] وما نقص من الشام زيد في فلسطين . وكان يقال : هي أرض المحشر والمنشر ، وبها ينزل عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، وبها يهلك المسيح الدجال .وقال كعب الأحبار في قوله : ( إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) إلى حران .وقال السدي : انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام ، فلقي إبراهيم سارة ، وهي ابنة ملك حران ، وقد طعنت على قومها في دينهم ، فتزوجها على ألا يغيرها .رواه ابن جرير ، وهو غريب [ والمشهور أنها ابنة عمه ، وأنه خرج بها مهاجرا من بلاده ] .وقال العوفي ، عن ابن عباس : إلى مكة; ألا تسمع قوله : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ) [ آل عمران : 96 ] .

وَوَهَبْنَا لَهُۥٓ إِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَٰلِحِينَ (72)


وقوله : ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ) قال عطاء ، ومجاهد : عطية .وقال ابن عباس ، وقتادة ، والحكم بن عيينة : النافلة ولد الولد ، يعني : أن يعقوب ولد إسحاق ، كما قال : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) [ هود : 71 ] .وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : سأل واحدا فقال : ( رب هب لي من الصالحين ) [ الصافات : 100 ] ، فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة . ( وكلا جعلنا صالحين ) أي : الجميع أهل خير وصلاح

الصفحة السابقة الصفحة التالية