تفسير سورة القصص الصفحة 390 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 390 من المصحف


فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَا بَيِّنَٰتٍ قَالُوا۟ مَا هَٰذَآ إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِىٓ ءَابَآئِنَا ٱلْأَوَّلِينَ (36)


يخبر تعالى عن مجيء موسى وأخيه هارون إلى فرعون وملئه ، وعرضه ما آتاهما الله من المعجزات الباهرة والدلالات القاهرة ، على صدقهما فيما أخبرا عن الله عز وجل من توحيده واتباع أوامره . فلما عاين فرعون وملؤه ذلك وشاهدوه وتحققوه ، وأيقنوا أنه من الله ، عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة ، وذلك لطغيانهم وتكبرهم عن اتباع الحق ، فقالوا : ( ما هذا إلا سحر مفترى ) أي : مفتعل مصنوع . وأرادوا معارضته بالحيلة والجاه ، فما صعد معهم ذلك .وقوله : ( وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ) يعنون : عبادة الله وحده لا شريك له ، يقولون : ما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين ، ولم نر الناس إلا يشركون مع الله آلهة أخرى .

وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّىٓ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِۦ وَمَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِ إِنَّهُۥ لَا يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ (37)


فقال موسى ، عليه السلام ، مجيبا لهم : ( ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ) يعني : مني ومنكم ، وسيفصل بيني وبينكم . ولهذا قال : ( ومن تكون له عاقبة الدار ) أي : النصرة والظفر والتأييد ، ( إنه لا يفلح الظالمون ) أي : المشركون بالله .

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجْعَل لِّى صَرْحًا لَّعَلِّىٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّى لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ (38)


يخبر تعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعوى الإلهية لنفسه القبيحة - لعنه الله - كما قال تعالى : ( فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ) [ الزخرف : 54 ] ، وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية ، فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم ; ولهذا قال : ( ياأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري ) ، [ و ] قال تعالى إخبارا عنه : ( فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ) [ النازعات : 23 - 26 ] يعني : أنه جمع قومه ونادى فيهم بصوته العالي مصرحا لهم بذلك ، فأجابوه سامعين مطيعين . ولهذا انتقم الله تعالى منه ، فجعله عبرة لغيره في الدنيا والآخرة ، وحتى إنه واجه موسى الكليم بذلك فقال : ( لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ) [ الشعراء : 29 ] .وقوله : ( فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى ) أي : أمر وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد له على الطين ، ليتخذ له آجرا لبناء الصرح ، وهو القصر المنيف الرفيع - كما قال في الآية الأخرى : ( وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب . أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب ) [ غافر : 36 ، 37 ] ، وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح الذي لم ير في الدنيا بناء أعلى منه ، إنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون ; ولهذا قال : ( وإني لأظنه من الكاذبين ) أي : في قوله إن ثم ربا غيري ، لا أنه كذبه في أن الله أرسله ; لأنه لم يكن يعترف بوجود الصانع ، فإنه قال : ( وما رب العالمين ) [ الشعراء : 23 ] وقال : ( لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ) [ الشعراء : 29 ] وقال : ( يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري ) وهذا قول ابن جرير .

وَٱسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُۥ فِى ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَظَنُّوٓا۟ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)


وقوله : ( واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ) أي : طغوا وتجبروا ، وأكثروا في الأرض الفساد ، واعتقدوا أنه لا معاد ولا قيامة ، ( فصب عليهم ربك سوط عذاب . إن ربك لبالمرصاد ) [ الفجر : 13 ، 14 ] ،

فَأَخَذْنَٰهُ وَجُنُودَهُۥ فَنَبَذْنَٰهُمْ فِى ٱلْيَمِّ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ (40)


ولهذا قال هاهنا : ( فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ) أي : أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة ، فلم يبق منهم أحد ( فانظر كيف كان عاقبة الظالمين )

وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ لَا يُنصَرُونَ (41)


وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ) أي : لمن سلك وراءهم وأخذ بطريقتهم ، في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع ، ( ويوم القيامة لا ينصرون ) أي : فاجتمع عليهم خزي الدنيا موصولا بذل الآخرة ، كما قال تعالى : ( أهلكناهم فلا ناصر لهم ) [ محمد : 13 ]

وَأَتْبَعْنَٰهُمْ فِى هَٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ هُم مِّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ (42)


وقوله : ( وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ) أي : وشرع الله لعنتهم ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين رسله ، وكما أنهم في الدنيا ملعونون على ألسنة الأنبياء وأتباعهم كذلك ، ( ويوم القيامة هم من المقبوحين ) . قال قتادة : وهذه الآية كقوله تعالى : ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) [ هود : 99 ] .

وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَٰبَ مِنۢ بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ ٱلْأُولَىٰ بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)


يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله موسى الكليم ، عليه من ربه الصلاة والتسليم ، من إنزال التوراة عليه بعدما أهلك فرعون وملأه .وقوله : ( من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ) يعني : أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمة بعامة ، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين ، كما قال : ( وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية ) [ الحاقة : 9 ، 10 ] .وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا محمد وعبد الوهاب قالا : حدثنا عوف ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض بعدما أنزلت التوراة على وجه الأرض ، غير القرية التي مسخوا قردة ، ألم تر أن الله يقول : ( ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ) .ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي ، بنحوه . وهكذا رواه أبو بكر البزار في مسنده ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يحيى القطان ، عن عوف ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد موقوفا . ثم رواه عن نصر بن علي ، عن عبد الأعلى ، عن عوف ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد - رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض إلا قبل موسى " ، ثم قرأ : ( ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ) .وقوله : ( بصائر للناس ) أي : من العمى والغي ، ( وهدى ) إلى الحق ، ( ورحمة ) أي : إرشادا إلى الأعمال الصالحة ، ( لعلهم يتذكرون ) أي : لعل الناس يتذكرون به ، ويهتدون بسببه .

الصفحة السابقة الصفحة التالية