تفسير سورة البقرة الصفحة 13 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 13 من المصحف


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84)


يقول ، تبارك وتعالى ، منكرا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج ، وذلك أن الأوس والخزرج ، وهم الأنصار ، كانوا في الجاهلية عباد أصنام ، وكانت بينهم حروب كثيرة ، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل : بنو قينقاع . وبنو النضير حلفاء الخزرج . وبنو قريظة حلفاء الأوس . فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه ، فيقتل اليهودي أعداءه ، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر ، وذلك حرام عليهم في دينه ونص كتابه ، ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب ، عملا بحكم التوراة ; ولهذا قال تعالى : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ولهذا قال تعالى : ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) أي : لا يقتل بعضكم بعضا ، ولا يخرجه من منزله ، ولا يظاهر عليه ، كما قال تعالى : ( فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم ) [ البقرة : 54 ]وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " .[ وقوله ] ( ثم أقررتم وأنتم تشهدون ) أي : ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به .

ثُمَّ أَنتُمْ هَٰٓؤُلَآءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمْ تَظَٰهَرُونَ عَلَيْهِم بِٱلْإِثْمِ وَٱلْعُدْوَٰنِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْىٌ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلْعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)


( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم ) قال محمد بن إسحاق بن يسار : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ) الآية ، قال : أنبهم الله من فعلهم ، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم ، فكانوا فريقين : طائفة منهم بنو قينقاع وإنهم حلفاء الخزرج ، والنضير ، وقريظة وإنهم حلفاء الأوس ، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه ، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم ، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم . والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ، ولا يعرفون جنة ولا نارا ، ولا بعثا ولا قيامة ، ولا كتابا ، ولا حلالا ولا حراما ، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم ، تصديقا لما في التوراة ، وأخذا به ; بعضهم من بعض ، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم ، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم ، مظاهرة لأهل الشرك عليهم . يقول الله تعالى ذكره حيث أنبهم بذلك : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) أي : يفاديه بحكم التوراة ويقتله ، وفي حكم التوراة ألا يفعل ، ولا يخرج من داره ، ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ، ويعبد الأوثان من دونه ، ابتغاء عرض الدنيا . ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة .وقال أسباط عن السدي : كانت قريظة حلفاء الأوس ، وكانت النضير حلفاء الخزرج ، فكانوا يقتتلون في حرب سمير ، فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفاءهم ، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ، ويغلبونهم ، فيخربون ديارهم ، ويخرجونهم منها ، فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما ، جمعوا له حتى يفدوه . فتعيرهم العرب بذلك ، ويقولون : كيف تقاتلونهم وتفدونهم ؟ قالوا : إنا أمرنا أن نفديهم ، وحرم علينا قتالهم ، قالوا : فلم تقاتلونهم ؟ قالوا : إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا . فذلك حين عيرهم الله ، فقال : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم )وقال شعبة ، عن السدي : نزلت هذه الآية في قيس بن الخطيم : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان )وقال أسباط ، عن السدي ، عن عبد خير ، قال : غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي بلنجر فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة ، فلما مر برأس الجالوت نزل به ، فقال له عبد الله : يا رأس الجالوت ، هل لك في عجوز هاهنا من أهل دينك ، تشتريها مني ؟ قال : نعم . قال : أخذتها بسبعمائة درهم . قال : فإني أربحك سبعمائة أخرى . قال : فإني قد حلفت ألا أنقصها من أربعة آلاف . قال : لا حاجة لي فيها ، قال : والله لتشترينها مني ، أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه . قال : ادن مني ، فدنا منه ، فقرأ في أذنه التي في التوراة : إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقته ( وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم ) قال : أنت عبد الله بن سلام ؟ قال : نعم . قال : فجاء بأربعة آلاف ، فأخذ عبد الله ألفين ، ورد عليه ألفين .وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره : حدثنا أبو جعفر يعني الرازي ، حدثنا الربيع بن أنس ، أخبرنا أبو العالية : أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة ، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليها العرب ، ولا يفادي من وقع عليها العرب ، فقال عبد الله بن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن .والذي أرشدت إليه الآية الكريمة ، وهذا السياق ، ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها ، ومخالفة شرعها ، مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة ، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها ، ولا يصدقون فيما يكتمونه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته ، ومبعثه ومخرجه ، ومهاجره ، وغير ذلك من شئونه ، التي قد أخبرت بها الأنبياء قبله . واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم ، ولهذا قال تعالى ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ) أي : بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره ( ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ) جزاء على ما كتموه من كتاب الله الذي بأيديهم ( وما الله بغافل عما تعملون)

أُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُا۟ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلْءَاخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (86)


"أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة" أي : استحبوها على الآخرة واختاروها ( فلا يخفف عنهم العذاب ) أي : لا يفتر عنهم ساعة واحدة ( ولا هم ينصرون )أي : وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ، ولا يجيرهم منه .

وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَٰبَ وَقَفَّيْنَا مِنۢ بَعْدِهِۦ بِٱلرُّسُلِ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدْنَٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌۢ بِمَا لَا تَهْوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)


ينعت ، تبارك وتعالى ، بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة ، والاستكبار على الأنبياء ، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم ، فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب وهو التوراة فحرفوها وبدلوها ، وخالفوا أوامرها وأولوها . وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته ، كما قال تعالى : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ) الآية [ المائدة : 44 ] ، ولهذا قال : ( وقفينا من بعده بالرسل ) قال السدي ، عن أبي مالك : أتبعنا . وقال غيره : أردفنا . والكل قريب ، كما قال تعالى : ( ثم أرسلنا رسلنا تترا ) [ المؤمنون : 44 ] حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم ، فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام ، ولهذا أعطاه الله من البينات ، وهي : المعجزات . قال ابن عباس : من إحياء الموتى ، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله ، وإبرائه الأسقام ، وإخباره بالغيوب ، وتأييده بروح القدس ، وهو جبريل عليه السلام ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به . فاشتد تكذيب بني إسرائيل له وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض ، كما قال تعالى إخبارا عن عيسى : ( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم ) الآية [ آل عمران : 50 ] . فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء عليهم السلام أسوأ المعاملة ، ففريقا يكذبونه . وفريقا يقتلونه ، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبإلزامهم بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها ، فلهذا كان يشق ذلك عليهم ، فيكذبونهم ، وربما قتلوا بعضهم ; ولهذا قال تعالى : ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون )والدليل على أن روح القدس هو جبريل ، كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية ، وتابعه على ذلك [ ابن عباس و ] محمد بن كعب القرظي ، وإسماعيل بن أبي خالد ، والسدي ، والربيع بن أنس ، وعطية العوفي ، وقتادة مع قوله تعالى : ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين [ بلسان عربي مبين ] ) [ الشعراء : 193 - 195 ] ما قال البخاري : وقال ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عروة ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد ، فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك " . وهذا من البخاري تعليق .وقد رواه أبو داود في سننه ، عن لوين ، والترمذي ، عن علي بن حجر ، وإسماعيل بن موسى الفزاري ، ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه وهشام بن عروة ، كلاهما عن عروة ، عن عائشة به . وقال الترمذي : حسن صحيح ، وهو حديث أبي الزناد .وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : أن عمر مر بحسان ، وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه ، فقال : قد كنت أنشد فيه ، وفيه من هو خير منك . ثم التفت إلى أبي هريرة ، فقال : أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أجب عني ، اللهم أيده بروح القدس " ؟ . فقال : اللهم نعم .وفي بعض الروايات : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان : " اهجهم أو : هاجهم وجبريل معك " .[ وفي شعر حسان قوله :وجبريل رسول الله ينادي وروح القدس ليس به خفاء ]وقال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي ، عن شهر بن حوشب الأشعري : أن نفرا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أخبرنا عن الروح . فقال : " أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أنه جبريل ؟ وهو الذي يأتيني ؟ " قالوا : نعم .[ وفي صحيح ابن حبان أظنه عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن روح القدس نفخ في روعي : إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " ] .أقوال أخر :قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( بروح القدس ) قال : هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى . وقال ابن جرير : حدثت عن المنجاب . فذكره . قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك . [ ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير أيضا قال : وهو الاسم الأعظم ] .وقال ابن أبي نجيح : الروح هو حفظة على الملائكة .وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : القدس هو الرب تبارك وتعالى . وهو قول كعب . وقال السدي : القدس : البركة . وقال العوفي ، عن ابن عباس : القدس : الطهر .[ وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا : القدس : هو الله تعالى ، وروحه : جبريل ، فعلى هذا يكون القول الأول ] .وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى : ( وأيدناه بروح القدس ) قال : أيد الله عيسى بالإنجيل روحا كما جعل القرآن روحا ، كلاهما روح من الله ، كما قال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) [ الشورى : 52 ] .ثم قال ابن جرير : وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال : الروح في هذا الموضع جبريل ، لأن الله ، عز وجل ، أخبر أنه أيد عيسى به ، كما أخبر في قوله : ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) الآية [ المائدة : 110 ] . فذكر أنه أيده به ، فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل ، لكان قوله : ( إذ أيدتك بروح القدس ) ( وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) تكرير قول لا معنى له ، والله أعز أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به .قلت : ومن الدليل على أنه جبريل ما تقدم في أول السياق ; ولله الحمد .وقال الزمخشري ( بروح القدس ) بالروح المقدسة ، كما يقول : حاتم الجود ورجل صدق ، ووصفها بالقدس كما قال : ( وروح منه ) فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة ، وقيل : لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث ، وقيل : بجبريل ، وقيل : بالإنجيل ، كما قال في القرآن : ( روحا من أمرنا ) [ الشورى : 52 ] وقيل باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره ، وتضمن كلامه قولا آخر وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة .وقال الزمخشري في قوله : ( ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) إنما لم يقل : وفريقا قتلتم ; لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضا لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر ، وقد قال ، عليه السلام ، في مرض موته : " ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري " ، وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره .

وَقَالُوا۟ قُلُوبُنَا غُلْفٌۢ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ (88)


قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وقالوا قلوبنا غلف ) أي : في أكنة .وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وقالوا قلوبنا غلف ) أي : لا تفقه .وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( وقالوا قلوبنا غلف ) [ قال ] هي القلوب المطبوع عليها .وقال مجاهد : ( وقالوا قلوبنا غلف ) عليها غشاوة .وقال عكرمة : عليها طابع . وقال أبو العالية : أي لا تفقه . وقال السدي : يقولون : عليها غلاف ، وهو الغطاء .وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : ( وقالوا قلوبنا غلف ) هو كقوله : ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) [ فصلت : 5 ] .وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، في قوله : ( غلف ) قال : يقول : قلبي في غلاف فلا يخلص إليه ما تقول ، قرأ ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه )وهذا هو الذي رجحه ابن جرير ، واستشهد مما روي من حديث عمرو بن مرة الجملي ، عن أبي البختري ، عن حذيفة ، قال : القلوب أربعة . فذكر منها : وقلب أغلف مغضوب عليه ، وذاك قلب الكافر .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الرحمن العرزمي ، أنبأنا أبي ، عن جدي ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : ( قلوبنا غلف ) قال : لم تختن .هذا القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم ، وأنها بعيدة من الخير .قول آخر :قال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( وقالوا قلوبنا غلف ) قال قالوا : قلوبنا مملوءة علما لا تحتاج إلى علم محمد ، ولا غيره .وقال عطية العوفي : ( وقالوا قلوبنا غلف ) أي : أوعية للعلم .وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار فيما حكاه ابن جرير : " وقالوا قلوبنا غلف " بضم اللام ، أي : جمع غلاف ، أي : أوعية ، بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر . كما كانوا يمنون بعلم التوراة . ولهذا قال تعالى : ( بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ) ، أي : ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها ، كما قال في سورة النساء : ( وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) [ النساء : 155 ] . وقد اختلفوا في معنى قوله : ( فقليلا ما يؤمنون ) وقوله : ( فلا يؤمنون إلا قليلا ) ، فقال بعضهم : فقليل من يؤمن منهم [ واختاره فخر الدين الرازي وحكاه عن قتادة والأصم وأبي مسلم الأصبهاني ] وقيل : فقليل إيمانهم . بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب ، ولكنه إيمان لا ينفعهم ، لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم .وقال بعضهم : إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء ، وإنما قال : ( فقليلا ما يؤمنون ) وهم بالجميع كافرون ، كما تقول العرب : قلما رأيت مثل هذا قط . تريد : ما رأيت مثل هذا قط . [ وقال الكسائي : تقول العرب : من زنى بأرض قلما تنبت ، أي : لا تنبت شيئا ] . .حكاه ابن جرير ، والله أعلم .

الصفحة السابقة الصفحة التالية