تفسير سورة آل عمران الصفحة 56 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 56 من المصحف


وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِى ٱلْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ (46)


وقوله : ( ويكلم الناس في المهد وكهلا ) أي : يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، في حال صغره ، معجزة وآية ، و [ في ] حال كهوليته حين يوحي الله إليه بذلك ( ومن الصالحين ) أي : في قوله وعمله ، له علم صحيح وعمل صالح .قال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن محمد بن شرحبيل ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تكلم مولود في صغره إلا عيسى وصاحب جريج " .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو الصقر يحيى بن محمد بن قزعة ، حدثنا الحسين - يعني المروزي - حدثنا جرير - يعني ابن حازم - عن محمد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ، عيسى ، وصبي كان في زمن جريج ، وصبي آخر " .

قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىٰٓ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (47)


فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك ، عن الله ، عز وجل ، قالت في مناجاتها : ( رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ) تقول : كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج ولا من عزمي أن أتزوج ، ولست بغيا ؟ حاشا لله . فقال لها الملك - عن الله ، عز وجل ، في جواب هذا السؤال - : ( كذلك الله يخلق ما يشاء ) أي : هكذا أمر الله عظيم ، لا يعجزه شيء . وصرح هاهنا بقوله : ( يخلق ) ولم يقل : " يفعل " كما في قصة زكريا ، بل نص هاهنا على أنه يخلق ، لئلا يبقى شبهة ، وأكد ذلك بقوله : ( إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) أي : فلا يتأخر شيئا ، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة ، كقوله تعالى : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) [ القمر : 50 ] أي : إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها ، فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح بالبصر .

وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَىٰةَ وَٱلْإِنجِيلَ (48)


يقول تعالى - مخبرا عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى ، عليه السلام - أن الله يعلمه ( الكتاب والحكمة ) الظاهر أن المراد بالكتاب هاهنا الكتابة . والحكمة تقدم الكلام على تفسيرها في سورة البقرة .( والتوراة والإنجيل ) فالتوراة : هو الكتاب الذي أنزله الله على موسى بن عمران . والإنجيل : الذي أنزله الله على عيسى عليهما السلام ، وقد كان [ عيسى ] عليه السلام ، يحفظ هذا وهذا .

وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بِـَٔايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّىٓ أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْـَٔةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًۢا بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِئُ ٱلْأَكْمَهَ وَٱلْأَبْرَصَ وَأُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)


وقوله : ( ورسولا إلى بني إسرائيل ) أي : [ و ] يجعله رسولا إلى بني إسرائيل ، قائلا لهم : ( أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ) وكذلك كان يفعل : يصور من الطين شكل طير ، ثم ينفخ فيه ، فيطير عيانا بإذن الله ، عز وجل ، الذي جعل هذا معجزة يدل على أن الله أرسله .( وأبرئ الأكمه ) قيل : هو الذي يبصر نهارا ولا يبصر ليلا . وقيل بالعكس . وقيل : هو الأعشى . وقيل : الأعمش . وقيل : هو الذي يولد أعمى . وهو أشبه ، لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي ) والأبرص ) معروف .( وأحيي الموتى بإذن الله ) قال كثير من العلماء : بعث الله كل نبي من الأنبياء بمعجزة تناسب أهل زمانه ، فكان الغالب على زمان موسى ، عليه السلام ، السحر وتعظيم السحرة . فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحار ، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام ، وصاروا من الأبرار . وأما عيسى ، عليه السلام ، فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة ، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه ، إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة . فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد ، أو على مداواة الأكمه والأبرص ، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد ؟ وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعثه [ الله ] في زمن الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء ، فأتاهم بكتاب من الله ، عز وجل ، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور من مثله ، أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدا ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، وما ذاك إلا لأن كلام الرب لا يشبهه كلام الخلق أبدا .وقوله : ( وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ) أي : أخبركم بما أكل أحدكم الآن ، وما هو مدخر [ له ] في بيته لغده ( إن في ذلك ) أي : في ذلك كله ( لآية لكم ) أي : على صدقي فيما جئتكم به . ( إن كنتم مؤمنين )

وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِى حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِـَٔايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)


( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ) أي : مقرر لهم ومثبت ( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ) فيه دلالة على أن عيسى ، عليه السلام ، نسخ بعض شريعة التوراة ، وهو الصحيح من القولين ، ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئا ، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطئوا ، فكشف لهم عن المغطى في ذلك ، كما قال في الآية الأخرى : ( ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ) [ الزخرف : 63 ] والله أعلم .ثم قال : ( وجئتكم بآية من ربكم ) أي : بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم . ( فاتقوا الله وأطيعون)

إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ (51)


( إن الله ربي وربكم فاعبدوه ) أي : أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه ) هذا صراط مستقيم )

فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِىٓ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)


يقول تعالى : ( فلما أحس عيسى ) أي : استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال قال : ( من أنصاري إلى الله ) قال مجاهد : أي من يتبعني إلى الله ؟ وقال سفيان الثوري وغيره : من أنصاري مع الله ؟ وقول مجاهد أقرب .والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله ؟ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مواسم الحج ، قبل أن يهاجر : " من رجل يؤويني على [ أن ] أبلغ كلام ربي ، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي " حتى وجد الأنصار فآووه ونصروه ، وهاجر إليهم فآسوه ومنعوه من الأسود والأحمر . وهكذا عيسى ابن مريم ، انتدب له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به وآزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه . ولهذا قال تعالى مخبرا عنهم : ( قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون . ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ) الحواريون ، قيل : كانوا قصارين وقيل : سموا بذلك لبياض ثيابهم ، وقيل : صيادين . والصحيح أن الحواري الناصر ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس يوم الأحزاب ، فانتدب الزبير ، ثم ندبهم فانتدب الزبير [ ثم ندبهم فانتدب الزبير ] فقال : " إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير " .

الصفحة السابقة الصفحة التالية