تفسير سورة الشورى الصفحة 488 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 488 من المصحف


وَتَرَىٰهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَٰشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِنَّ ٱلْخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَلَآ إِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ (45)


وقوله : ( وتراهم يعرضون عليها ) أي : على النار ( خاشعين من الذل ) أي : الذي قد اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله ، ( ينظرون من طرف خفي ) قال مجاهد : يعني ذليلا ، أي ينظرون إليها مسارقة خوفا منها ، والذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة ، وما هو أعظم مما في نفوسهم ، أجارنا الله من ذلك .( وقال الذين آمنوا ) أي : يقولون يوم القيامة : ( إن الخاسرين ) أي : الخسار الأكبر ( الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ) أي : ذهب بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد ، وخسروا أنفسهم ، وفرق بينهم وبين أصحابهم وأحبابهم وأهاليهم وقراباتهم ، فخسروهم ، ( ألا إن الظالمين في عذاب مقيم ) أي : دائم سرمدي أبدي ، لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها .

وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن سَبِيلٍ (46)


وقوله : ( وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ) أي : ينقذونهم مما هم فيه من العذاب والنكال ، ( ومن يضلل الله فما له من سبيل ) أي : ليس له خلاص .

ٱسْتَجِيبُوا۟ لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ (47)


لما ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام الهائلة حذر منه وأمر بالاستعداد له ، فقال : ( استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ) أي : إذا أمر بكونه فإنه كلمح البصر يكون ، وليس له دافع ولا مانع .وقوله : ( ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير ) أي : ليس لكم حصن تتحصنون فيه ، ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه ، فتغيبون عن بصره ، تبارك وتعالى ، بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته ، فلا ملجأ منه إلا إليه ، ( يقول الإنسان يومئذ أين المفر . كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ) [ القيامة : 10 - 12 ] .

فَإِنْ أَعْرَضُوا۟ فَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا ٱلْبَلَٰغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌۢ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ كَفُورٌ (48)


وقوله : ( فإن أعرضوا ) يعني : المشركين ( فما أرسلناك عليهم حفيظا ) أي : لست عليهم بمصيطر . وقال تعالى : ( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) [ البقرة : 272 ] ، وقال تعالى : ( فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) [ الرعد : 40 ] وقال هاهنا : ( إن عليك إلا البلاغ ) أي : إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم .ثم قال تعالى : ( وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها ) أي : إذا أصابه رخاء ونعمة فرح بذلك ، ( وإن تصبهم ) يعني الناس ( سيئة ) أي : جدب ونقمة وبلاء وشدة ، ( فإن الإنسان كفور ) أي : يجحد ما تقدم من النعمة ولا يعرف إلا الساعة الراهنة ، فإن أصابته نعمة أشر وبطر ، وإن أصابته محنة يئس وقنط ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ للنساء ] يا معشر النساء ، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار " فقالت امرأة : ولم يا رسول الله ؟ قال : " لأنكن تكثرن الشكاية ، وتكفرن العشير ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم تركت يوما قالت : ما رأيت منك خيرا قط " وهذا حال أكثر الناس إلا من هداه الله وألهمه رشده ، وكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فالمؤمن كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " .

لِّلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ (49)


يخبر تعالى أنه خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما ، وأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، ولا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، وأنه يخلق ما يشاء ، و ( يهب لمن يشاء إناثا ) أي : يرزقه البنات فقط - قال البغوي : ومنهم لوط ، عليه السلام ( ويهب لمن يشاء الذكور ) أي : يرزقه البنين فقط . قال البغوي : كإبراهيم الخليل ، عليه السلام - لم يولد له أنثى ، .

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَٰثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا إِنَّهُۥ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)


( أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ) أي : ويعطي من يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى ، أي : من هذا وهذا . قال البغوي : كمحمد ، عليه الصلاة والسلام ( ويجعل من يشاء عقيما ) أي : لا يولد له . قال البغوي : كيحيى وعيسى ، عليهما السلام ، فجعل الناس أربعة أقسام ، منهم من يعطيه البنات ، ومنهم من يعطيه البنين ، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكورا وإناثا ، ومنهم من يمنعه هذا وهذا ، فيجعله عقيما لا نسل له ولا يولد له ، ( إنه عليم ) أي : بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام ، ( قدير ) أي : على من يشاء ، من تفاوت الناس في ذلك .وهذا المقام شبيه بقوله تعالى عن عيسى : ( ولنجعله آية للناس ) [ مريم : 21 ] أي : دلالة لهم على قدرته ، تعالى وتقدس ، حيث خلق الخلق على أربعة أقسام ، فآدم ، عليه السلام ، مخلوق من تراب لا من ذكر ولا أنثى ، وحواء عليها السلام ، [ مخلوقة ] من ذكر بلا أنثى ، وسائر الخلق سوى عيسى [ عليه السلام ] من ذكر وأنثى ، وعيسى ، عليه السلام ، من أنثى بلا ذكر فتمت الدلالة بخلق عيسى ابن مريم ، عليهما السلام ; ولهذا قال : ( ولنجعله آية للناس ) ، فهذا المقام في الآباء ، والمقام الأول في الأبناء ، وكل منهما أربعة أقسام ، فسبحان العليم القدير .

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآئِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِۦ مَا يَشَآءُ إِنَّهُۥ عَلِىٌّ حَكِيمٌ (51)


هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله ، عز وجل ، وهو أنه تعالى تارة يقذف في روع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل ، كما جاء في صحيح ابن حبان ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن روح القدس نفث في روعي : أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " .وقوله : ( أو من وراء حجاب ) كما كلم موسى ، عليه السلام ، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم ، فحجب عنها .وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجابر بن عبد الله : " ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحا " الحديث ، وكان [ أبوه ] قد قتل يوم أحد ، ولكن هذا في عالم البرزخ ، والآية إنما هي في الدار الدنيا .وقوله : ( أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ) كما ينزل جبريل [ عليه السلام ] وغيره من الملائكة على الأنبياء ، عليهم السلام ، ( إنه علي حكيم ) ، فهو علي عليم خبير حكيم .

الصفحة السابقة الصفحة التالية