تفسير سورة المائدة الصفحة 114 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 114 من المصحف


يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا۟ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (37)


كما قال تعالى : ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ) الآية [ الحج : 22 ] ، فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسه ، ولا سبيل لهم إلى ذلك ، كلما رفعهم اللهب فصاروا في أعالي جهنم ، ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد ، فيردونهم إلى أسفلها ، ( ولهم عذاب مقيم ) أي : دائم مستمر لا خروج لهم منها ، ولا محيد لهم عنها .وقد قال حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بالرجل من أهل النار ، فيقول : يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول : شر مضجع . فيقول : هل تفتدي بقراب الأرض ذهبا؟ " قال : " فيقول : نعم ، يا رب! فيقول : كذبت! قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل : فيؤمر به إلى النار " .رواه مسلم والنسائي من طريق حماد بن سلمة بنحوه . وكذا رواه البخاري ومسلم من طريق معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه ، عن قتادة عن أنس به . وكذا أخرجاه من طريق أبي عمران الجوني واسمه عبد الملك بن حبيب عن أنس بن مالك به . ورواه مطر الوراق عن أنس بن مالك ورواه ابن مردويه من طريقه ، عنه .ثم رواه ابن مردويه من طريق المسعودي عن يزيد بن صهيب الفقير ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ قال ] " يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة " قال : فقلت لجابر بن عبد الله : يقول الله : ( يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ) قال : اتل أول الآية : ( إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به ) الآية ، ألا إنهم الذين كفروا .وقد روى الإمام أحمد ومسلم هذا الحديث من وجه آخر ، عن يزيد الفقير عن جابر وهذا أبسط سياقا .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسين بن محمد بن شنبة الواسطي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مبارك بن فضالة حدثني يزيد الفقير قال : جلست إلى جابر بن عبد الله وهو يحدث ، فحدث أن أناسا يخرجون من النار - قال : وأنا يومئذ أنكر ذلك ، فغضبت وقلت : ما أعجب من الناس ، ولكن أعجب منكم يا أصحاب محمد ! تزعمون أن الله يخرج ناسا من النار ، والله يقول : ( يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها [ ولهم عذاب مقيم ] ) فانتهرني أصحابه ، وكان أحلمهم فقال : دعوا الرجل ، إنما ذلك للكفار : ( إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ) حتى بلغ : ( ولهم عذاب مقيم ) أما تقرأ القرآن؟ قلت : بلى قد جمعته قال : أليس الله يقول : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) ؟ [ الإسراء : 79 ] فهو ذلك المقام ، فإن الله [ تعالى ] يحتبس أقواما بخطاياهم في النار ما شاء ، لا يكلمهم ، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم . قال : فلم أعد بعد ذلك إلى أن أكذب به .ثم قال ابن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا عمرو بن حفص السدوسي حدثنا عاصم بن علي حدثنا العباس بن الفضل حدثنا سعيد بن المهلب حدثني طلق بن حبيب قال : كنت من أشد الناس تكذيبا بالشفاعة ، حتى لقيت جابر بن عبد الله فقرأت عليه كل آية أقدر عليها يذكر الله [ تعالى ] فيها خلود أهل النار ، فقال : يا طلق أتراك أقرأ لكتاب الله وأعلم بسنة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مني؟ إن الذين قرأت هم أهلها ، هم المشركون ، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوبا فعذبوا ، ثم أخرجوا منها ثم أهوى بيديه إلى أذنيه ، فقال صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يخرجون من النار بعدما دخلوا " . ونحن نقرأ كما قرأت .

وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوٓا۟ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءًۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)


يقول تعالى حاكما وآمرا بقطع يد السارق والسارقة ، وروى الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي عن عامر بن شراحيل الشعبي أن ابن مسعود كان يقرؤها : " والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما " . وهذه قراءة شاذة ، وإن كان الحكم عند جميع العلماء موافقا لها ، لا بها ، بل هو مستفاد من دليل آخر . وقد كان القطع معمولا به في الجاهلية ، فقرر في الإسلام وزيدت شروط أخر ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه ، وزيادات هي من تمام المصالح . ويقال : إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش قطعوا رجلا يقال له : " دويك " مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة كان قد سرق كنز الكعبة ، ويقال : سرقه قوم فوضعوه عنده .وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به ، سواء كان قليلا أو كثيرا ; لعموم هذه الآية : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) فلم يعتبروا نصابا ولا حرزا ، بل أخذوا بمجرد السرقة .وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد المؤمن عن نجدة الحنفي قال : سألت ابن عباس عن قوله : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) أخاص أم عام ؟فقال : بل عام .وهذا يحتمل أن يكون موافقة من ابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء ، ويحتمل غير ذلك ، فالله أعلم .وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله السارق ، يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " . وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة ، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره ، فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حدة ، فعند الإمام مالك بن أنس رحمه الله : النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة ، فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقها وجب القطع ، واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم . أخرجاه في الصحيحين .قال مالك رحمه الله : وقطع عثمان رضي الله عنه ، في أترجة قومت بثلاثة دراهم ، وهو أحب ما سمعت في ذلك . وهذا الأثر عن عثمان رضي الله عنه ، قد رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه ، عن عمرة بنت عبد الرحمن : أن سارقا سرق في زمان عثمان أترجة ، فأمر بها عثمان أن تقوم ، فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما بدينار ، فقطع عثمان يده .قال أصحاب مالك : ومثل هذا الصنيع يشتهر ، ولم ينكر ، فمن مثله يحكى الإجماع السكوتي ، وفيه دلالة على القطع في الثمار خلافا للحنفية . وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم وللشافعية في اعتبار ربع دينار ، والله أعلم .وذهب الشافعي رحمه الله ، إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدا . والحجة في ذلك ما أخرجه الشيخان : البخاري ومسلم من طريق الزهري عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا " .ولمسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة ، عن عائشة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا " .قال أصحابنا : فهذا الحديث فاصل في المسألة ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه . قالوا : وحديث ثمن المجن ، وأنه كان ثلاثة دراهم ، لا ينافي هذا ; لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهما ، فهي ثمن ربع دينار ، فأمكن الجمع بهذه الطريق .ويروى هذا المذهب عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم . وبه يقول عمر بن عبد العزيز والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي وأصحابه وإسحاق ابن راهويه - في رواية عنه - وأبو ثور وداود بن علي الظاهري رحمهم الله .وذهب الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه - في رواية عنه - إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد شرعي ، فمن سرق واحدا منهما ، أو ما يساويه قطع عملا بحديث ابن عمر وبحديث عائشة رضي الله عنهما ، ووقع في لفظ عند الإمام أحمد عن عائشة [ رضي الله عنها ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اقطعوا في ربع دينار ، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك " وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم ، والدينار اثني عشر درهما . وفي لفظ للنسائي : لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن . قيل لعائشة : ما ثمن المجن ؟ قالت : ربع دينار .فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم ، والله أعلم .وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه : أبو يوسف ومحمد وزفر وكذا سفيان الثوري رحمهم الله ، فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة . واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ثمنه عشرة دراهم . وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا ابن نمير وعبد الأعلى وعن محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم .ثم قال : حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن " . وكان ثمن المجن عشرة دراهم .قالوا : فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن ، فالاحتياط الأخذ بالأكثر ; لأن الحدود تدرأ بالشبهات .وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم ، أو دينار ، أو ما يبلغ قيمته واحدا منهما ، يحكى هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي وأبي جعفر الباقر رحمهم الله تعالى .وقال بعض السلف : لا تقطع الخمس إلا في خمس ، أي : في خمسة دنانير ، أو خمسين درهما . وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله .وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة : " يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " بأجوبة :أحدها : أنه منسوخ بحديث عائشة . وفي هذا نظر ; لأنه لا بد من بيان التاريخ .والثاني : أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن ، قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه .والثالث : أن هذا وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده ، ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية ، حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير ، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة .وقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ، ونظم في ذلك شعرا دل على جهله ، وقلة عقله فقال :يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار تناقض ما لنا إلا السكوت لهوأن نعوذ بمولانا من النارولما قال ذلك واشتهر عنه تطلبه الفقهاء فهرب منهم . وقد أجابه الناس في ذلك ، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله ، أنه قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ، فلما خانت هانت . ومنهم من قال : هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة ، فإنه في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها ، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يتسارع الناس في سرقة الأموال ، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ; ولهذا قال [ تعالى ] ( جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ) أي : مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم ، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك ( نكالا من الله ) أي : تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك ( والله عزيز ) أي : في انتقامه ( حكيم ) أي : في أمره ونهيه وشرعه وقدره .

فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (39)


ثم قال تعالى : ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) أي : من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله ، فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه ، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور .وقال أبو حنيفة : متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها . وقد روى الحافظ أبو الحسن الدارقطني من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة فقال : " ما إخاله سرق " ! فقال السارق : بلى يا رسول الله . قال : " اذهبوا به فاقطعوه ، ثم احسموه ، ثم ائتوني به " . فقطع فأتي به ، فقال : " تب إلى الله " . فقال : تبت إلى الله . فقال : " تاب الله عليك " .وقد روي من وجه آخر مرسلا ورجح إرساله علي ابن المديني وابن خزيمة رحمهما الله ، روى ابن ماجه من حديث ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري عن أبيه ; أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني! فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا افتقدنا جملا لنا . فأمر به فقطعت يده . قال ثعلبة : أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول : الحمد لله الذي طهرني منك ، أردت أن تدخلي جسدي النار .وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال : سرقت امرأة حليا ، فجاء الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله ، سرقتنا هذه المرأة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقطعوا يدها اليمنى " . فقالت المرأة : هل من توبة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك " ! قال : فأنزل الله عز وجل : ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم )وقد رواه الإمام أحمد بأبسط من هذا ، فقال : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله ، إن هذه المرأة سرقتنا! قال قومها : فنحن نفديها ، فقال رسول الله : " اقطعوا يدها " فقالوا : نحن نفديها بخمسمائة دينار . قال : " اقطعوا يدها " . قال : فقطعت يدها اليمنى . فقالت المرأة : هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال : " نعم ، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك " . فأنزل الله في سورة المائدة : ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم )وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت ، وحديثها ثابت في الصحيحين ، من رواية الزهري عن عروة عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، في غزوة الفتح ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أتشفع في حد من حدود الله عز وجل؟ " فقال له أسامة : استغفر لي يا رسول الله . فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : " أما بعد ، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وإني والذي نفسي بيده ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " . ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها . قالت عائشة [ رضي الله عنها ] فحسنت توبتها بعد ، وتزوجت ، وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .وهذا لفظ مسلم وفي لفظ له عن عائشة قالت : كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده ، فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها .وعن ابن عمر قال : كانت امرأة مخزومية تستعير متاعا على ألسنة جاراتها وتجحده ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها .رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي - وهذا لفظه - وفي لفظ له : أن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتتب هذه المرأة إلى الله ورسوله وترد ما تأخذ على القوم ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها "وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب " الأحكام " ، ولله الحمد والمنة .

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ (40)


ثم قال تعالى : ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ) أي : هو المالك لجميع ذلك ، الحاكم فيه ، الذي لا معقب لحكمه ، وهو الفعال لما يريد ( يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير )

يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓا۟ ءَامَنَّا بِأَفْوَٰهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُوا۟ سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّٰعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِنۢ بَعْدِ مَوَاضِعِهِۦ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُوا۟ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُۥ فَلَن تَمْلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا أُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ٱلْءَاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)


نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر ، الخارجين عن طاعة الله ورسوله ، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله ، عز وجل ( من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ) أي : أظهروا الإيمان بألسنتهم ، وقلوبهم خراب خاوية منه ، وهؤلاء هم المنافقون . ( ومن الذين هادوا ) أعداء الإسلام وأهله . وهؤلاء كلهم ( سماعون للكذب ) أي : يستجيبون له ، منفعلون عنه ( سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) أي : يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد . وقيل : المراد أنهم يتسمعون الكلام ، وينهونه إلى أقوام آخرين ممن لا يحضر عندك ، من أعدائك ( يحرفون الكلم من بعد مواضعه ) أي : يتأولونه على غير تأويله ، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ( يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا )قيل : نزلت في أقوام من اليهود قتلوا قتيلا وقالوا : تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد فإن أفتانا بالدية فخذوا ما قال ، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه .والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، من الأمر برجم من أحصن منهم ، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين . فلما وقعت تلك الكائنة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه ، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه ، واجعلوه حجة بينكم وبين الله ، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك ، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .وقد وردت الأحاديث بذلك ، فقال مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال : إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " فقالوا : نفضحهم ويجلدون . قال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إن فيها الرجم . فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا صدق يا محمد ، فيها آية الرجم ! فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة .وأخرجاه وهذا لفظ البخاري . وفي لفظ له : " فقال لليهود : ما تصنعون بهما؟ " قالوا : نسخم وجوههما ونخزيهما . قال : ( فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) [ آل عمران : 93 ] فجاءوا ، فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور : اقرأ ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه ، قال : ارفع يدك . فرفع ، فإذا آية الرجم تلوح ، قال : يا محمد إن فيها آية الرجم ، ولكنا نتكاتمه بيننا . فأمر بهما فرجما .وعند مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال : " ما تجدون في التوراة على من زنى؟ " قالوا : نسود وجوههما ونحملهما ، ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما ، قال : ( فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) قال : فجاءوا بها ، فقرأوها ، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم ، وقرأ ما بين يديها وما وراءها . فقال له عبد الله بن سلام - وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - : مره فليرفع يده . فرفع يده ، فإذا تحتها آية الرجم . فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما . قال عبد الله بن عمر : كنت فيمن رجمهما ، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه .وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا ابن وهب حدثنا هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه ، عن ابن عمر قال : أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدارس ، فقالوا : يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة ، فاحكم قال : ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة ، فجلس عليها ، ثم قال : " ائتوني بالتوراة " . فأتي بها ، فنزع الوسادة من تحته ، ووضع التوراة عليها ، وقال : " آمنت بك وبمن أنزلك " . ثم قال : " ائتوني بأعلمكم " . فأتي بفتى شاب ، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع .وقال الزهري : سمعت رجلا من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه ، ونحن عند ابن المسيب عن أبي هريرة قال : زنى رجل من اليهود بامرأة ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا إلى هذا النبي ، فإنه بعث بالتخفيف ، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها ، واحتججنا بها عند الله ، قلنا : فتيا نبي من أنبيائك ، قال : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدارسهم ، فقام على الباب فقال : " أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا : يحمم ، ويجبه ويجلد . والتجبية : أن يحمل الزانيان على حمار ، وتقابل أقفيتهما ، ويطاف بهما . قال : وسكت شاب منهم ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت ، ألظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النشدة ، فقال : اللهم إذ نشدتنا ، فإنا نجد في التوراة الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟ " قال : زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا ، فأخر عنه الرجم ، ثم زنى رجل في أثره من الناس ، فأراد رجمه ، فحال قومه دونه وقالوا : لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه! فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فإني أحكم بما في التوراة " فأمر بهما فرجما . قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا ) فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم .رواه أحمد وأبو داود - وهذا لفظه - وابن جريروقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود ، فدعاهم فقال : " أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ " فقالوا : نعم ، فدعا رجلا من علمائهم فقال : " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ " فقال : لا والله ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع ، فاجتمعنا على التحميم والجلد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " . قال : فأمر به فرجم ، قال : فأنزل الله عز وجل : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) إلى قوله : ( يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه ) يقولون : ائتوا محمدا ، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، إلى قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : في اليهود إلى قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) قال : في اليهود ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) قال : في الكفار كلها .انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه ، عن الأعمش به .وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده : حدثنا سفيان بن عيينة عن مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي عن جابر بن عبد الله قال : زنى رجل من أهل فدك ، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا عن ذلك ، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه ، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه ، تسألوه عن ذلك ، قال : " أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم " . فجاءوا برجل أعور - يقال له : ابن صوريا - وآخر ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " أنتما أعلم من قبلكما؟ " . فقالا قد دعانا قومنا لذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما : " أليس عندكما التوراة فيها حكم الله؟ " قالا : بلى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وظلل عليكم الغمام ، وأنجاكم من آل فرعون وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " فقال أحدهما للآخر : ما نشدت بمثله قط . قالا نجد ترداد النظر زنية والاعتناق زنية ، والقبل زنية ، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد ، كما يدخل الميل في المكحلة ، فقد وجب الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هو ذاك " . فأمر به فرجم ، فنزلت : ( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين )ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث مجالد به نحوه . ولفظ أبي داود عن جابر قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا ، فقال : " ائتوني بأعلم رجلين منكم " . فأتوا بابني صوريا ، فنشدهما : " كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ " قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما ، قال : " فما يمنعكم أن ترجموهما؟ " قالا ذهب سلطاننا ، فكرهنا القتل . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود ، فجاءوا أربعة ، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما .ثم رواه أبو داود عن الشعبي وإبراهيم النخعي مرسلا ولم يذكر فيه : " فدعا بالشهود فشهدوا " .فهذه أحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة ، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته ; لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ، ولكن هذا بوحي خاص من الله ، عز وجل إليه بذلك ، وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم ، مما تراضوا على كتمانه وجحده ، وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه ، بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم ، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به ، لهذا قالوا ) إن ) أوتيتم هذا والتحميم ( فخذوه ) أي : اقبلوه ( وإن لم تؤتوه فاحذروا ) أي : من قبوله واتباعه .قال الله تعالى : ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب ) أي : الباطل ( أكالون للسحت ) أي : الحرام ، وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد أي : ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه؟ وأنى يستجيب له .ثم قال لنبيه : ( فإن جاءوك ) أي : يتحاكمون إليك ( فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا ) أي : فلا عليك ألا تحكم بينهم ; لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق ، بل ما وافق هواهم .قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني : هي منسوخة بقوله : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) [ المائدة : 49 ] ، ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ) أي : بالحق والعدل وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل ( إن الله يحب المقسطين )ثم قال تعالى - منكرا عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة ، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدا ، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره ، مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم - فقال : ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين )ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران فقال : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ) أي : لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها ( والربانيون والأحبار ) أي : وكذلك الربانيون منهم وهم العباد العلماء ، والأحبار وهم العلماء ( بما استحفظوا من كتاب الله ) أي : بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به ( وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ) أي : لا تخافوا منهم وخافوني ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) فيه قولان سيأتي بيانهما . سبب آخر لنزول هذه الآيات الكريمة .قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن العباس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : إن الله أنزل : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) و ( فأولئك هم الظالمون ) [ المائدة : 45 ] ( فأولئك هم الفاسقون ) [ المائدة : 47 ] قال : قال ابن عباس : أنزلها الله في الطائفتين من اليهود كانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا أو اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فذلت الطائفتان كلتاهما ، لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويومئذ لم يظهر ، ولم يوطئهما عليه ، وهو في الصلح ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا فأرسلت العزيزة إلى الذليلة : أن ابعثوا لنا بمائة وسق ، فقالت الذليلة : وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد : دية بعضهم نصف دية بعض . إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا ، وفرقا منكم ، فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك ، فكادت الحرب تهيج بينهما ، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، ثم ذكرت العزيزة فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم ، فدسوا إلى محمد : من يخبر لكم رأيه ، إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه . فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله ، وما أرادوا ، فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) إلى قوله : ( الفاسقون ) ففيهم - والله - أنزل ، وإياهم عنى الله عز وجل .ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه ، بنحوه .وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا : حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن الآيات في " المائدة " ، قوله : ( فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ) إلى ( المقسطين ) إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف ، تؤدى الدية كاملة ، وأن قريظة كانوا يودون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية في ذلك سواء - والله أعلم ؛ أي ذلك كان .ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق .ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير وكانت النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به ، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودي مائة وسق تمر . فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا : ادفعوه إلينا فقالوا : بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنزلت : ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط )ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك ، من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه .وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حيان وابن زيد وغير واحد .وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس : أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، كما تقدمت الأحاديث بذلك . وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد ، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله ، والله أعلم .ولهذا قال بعد ذلك : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ) إلى آخرها ، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص ، والله سبحانه وتعالى أعلم .وقوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم : نزلت في أهل الكتاب - زاد الحسن البصري : وهي علينا واجبة .وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضي الله لهذه الأمة بها . رواه ابن جرير .وقال ابن جرير أيضا : حدثنا يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة فقال : من السحت : قال : فقالا وفي الحكم ؟ قال : ذاك الكفر ! ثم تلا ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )وقال السدي : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) يقول : ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدا ، أو جار وهو يعلم ، فهو من الكافرين [ به ]وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : من جحد ما أنزل الله فقد كفر . ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق . رواه ابن جرير .ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب .وقال عبد الرزاق عن الثوري عن زكريا عن الشعبي : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) قال : للمسلمين .وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الصمد حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر عن الشعبي : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : هذا في المسلمين ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) قال : هذا في اليهود ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) قال : هذا في النصارى .وكذا رواه هشيم والثوري عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي .وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : سئل ابن عباس عن قوله : ( ومن لم يحكم [ بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ] ) قال : هي به كفر - قال ابن طاوس : وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله .وقال الثوري عن ابن جريج عن عطاء أنه قال : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق . رواه ابن جرير .وقال وكيع عن سفيان عن سعيد المكي عن طاوس : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : ليس بكفر ينقل عن الملة .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاوس عن ابن عباس في قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : ليس بالكفر الذي يذهبون إليه .ورواه الحاكم في مستدركه ، عن حديث سفيان بن عيينة وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

الصفحة السابقة الصفحة التالية