تفسير سورة التغابن الصفحة 557 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 557 من المصحف


وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَكَذَّبُوا۟ بِـَٔايَٰتِنَآ أُو۟لَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ (10)


قلت : وقد فسر ذلك بقوله تعالى : ( ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ) وقد تقدم تفسير مثل هذه غير مرة .

مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُۥ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ (11)


يقول تعالى مخبرا بما أخبر به في سورة الحديد : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) [ الحديد : 22 ] وهكذا قال ها هنا : ( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ) قال ابن عباس : بأمر الله ، يعني : عن قدره ومشيئته .( ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم ) أي : ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره ، فصبر واحتسب ، واستسلم لقضاء الله ، هدى الله قلبه ، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ، ويقينا صادقا ، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه ، أو خيرا منه .قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( ومن يؤمن بالله يهد قلبه ) يعني : يهد قلبه لليقين ، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه .وقال الأعمش ، عن أبي ظبيان قال : كنا عند علقمة فقرئ عنده هذه الآية : ( ومن يؤمن بالله يهد قلبه ) فسئل عن ذلك فقال : هو الرجل تصيبه المصيبة ، فيعلم أنها من عند الله ، فيرضى ويسلم . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتموقال سعيد بن جبير ، ومقاتل بن حيان : ( ومن يؤمن بالله يهد قلبه ) يعني : يسترجع ، يقول : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) [ البقرة : 156 ]وفي الحديث المتفق عليه : " عجبا للمؤمن ، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن "وقال أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح ; أنه سمع جنادة بن أبي أمية يقول : سمعت عبادة بن الصامت يقول : إن رجلا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أي العمل أفضل ؟ قال : " إيمان بالله ، وتصديق به ، وجهاد في سبيله " . قال : أريد أهون من هذا يا رسول الله . قال : " لا تتهم الله في شيء ، قضى لك به " . لم يخرجوه

وَأَطِيعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُوا۟ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلَٰغُ ٱلْمُبِينُ (12)


وقوله : ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) أمر بطاعة الله ورسوله فيما شرع ، وفعل ما به أمر ، وترك ما عنه نهى ، وزجر ، ثم قال : ( فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين ) أي : إن نكلتم عن العمل فإنما عليه ما حمل من البلاغ ، وعليكم ما حملتم من السمع والطاعة .قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم

ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ (13)


ثم قال تعالى مخبرا أنه الأحد الصمد ، الذي لا إله غيره ، فقال : ( الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) فالأول خبر عن التوحيد ، ومعناه معنى الطلب ، أي : وحدوا الإلهية له ، وأخلصوها لديه ، وتوكلوا عليه ، كما قال تعالى : ( رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) [ المزمل : 9 ] .

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا۟ وَتَصْفَحُوا۟ وَتَغْفِرُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)


يقول تعالى مخبرا عن الأزواج والأولاد : إن منهم من هو عدو الزوج والوالد ، بمعنى : أنه يلتهى به عن العمل الصالح ، كقوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ) [ . : 9 ] ; ولهذا قال ها هنا : ( فاحذروهم ) قال ابن زيد : يعني على دينكم .وقال مجاهد : ( إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم ) قال : يحمل الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه ، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه . وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا الفريابي ، حدثنا إسرائيل ، حدثنا سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - وسأله رجل عن هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ) - قال : فهؤلاء رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم ، فلما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأوا الناس قد فقهوا في الدين ، فهموا أن يعاقبوهم ، فأنزل الله هذه الآية : ( وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم )وكذا رواه الترمذي ، عن محمد بن يحيى ، عن الفريابي - وهو محمد بن يوسف - به ، وقال : حسن صحيح . ورواه ابن جرير ، والطبراني من حديث إسرائيل به وروي من طريق العوفي ، عن ابن عباس ، نحوه ، وهكذا قال عكرمة مولاه سواء .

إِنَّمَآ أَمْوَٰلُكُمْ وَأَوْلَٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُ عِندَهُۥٓ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)


وقوله : ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ) يقول تعالى : إنما الأموال والأولاد فتنة ، أي : اختبار وابتلاء من الله لخلقه . ليعلم من يطيعه ممن يعصيه .وقوله : ( والله عنده ) أي : يوم القيامة ( أجر عظيم ) كما قال : ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) والتي بعدها [ آل عمران : 14 ، 15 ]وقال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني حسين بن واقد ، حدثني عبد الله بن بريدة ، سمعت أبي بريدة يقول : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما ، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ، ثم قال : " صدق الله ورسوله ، إنما أموالكم وأولادكم فتنة ، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما " .ورواه أهل السنن من حديث حسين بن واقد ، به ، وقال الترمذي : حسن غريب ، إنما نعرفه من حديثه .وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج بن النعمان ، حدثنا هشيم ، أخبرنا مجالد ، عن الشعبي ، حدثنا الأشعث بن قيس قال : قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد كندة فقال لي : " هل لك من ولد ؟ " قلت : غلام ولد لي في مخرجي إليك من ابنة جمد ، ولوددت أن بمكانه شبع القوم . قال : " لا تقولن ذلك ، فإن فيهم قرة عين ، وأجرا إذا قبضوا " ، ثم قال : " ولئن قلت ذاك : إنهم لمجبنة محزنة " تفرد به أحمد رحمه الله تعالى .وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمود بن بكر ، حدثنا أبي ، عن عيسى بن أبي وائل ، عن ابن أبي ليلى ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الولد ثمرة القلوب ، وإنهم مجبنة مبخلة محزنة " ثم قال : لا يعرف إلا بهذا الإسنادوقال الطبراني : حدثنا هاشم بن مرثد ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليس عدوك الذي إن قتلته كان فوزا لك ، وإن قتلك دخلت الجنة ، ولكن الذي لعله عدو لك ولدك الذي خرج من صلبك ، ثم أعدى عدو لك مالك الذي ملكت يمينك "

فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُوا۟ وَأَطِيعُوا۟ وَأَنفِقُوا۟ خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ (16)


وقوله تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) أي : جهدكم وطاقتكم . كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه "وقد قال بعض المفسرين - كما رواه مالك ، عن زيد بن أسلم - إن هذه الآية العظيمة ناسخة للتي في " آل عمران " وهي قوله : ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) [ آل عمران : 102 ]قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني ابن لهيعة ، حدثني عطاء - هو ابن دينار - عن سعيد بن جبير في قوله : ( اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) قال : لما نزلت الآية اشتد على القوم العمل ، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم ، فأنزل الله تخفيفا على المسلمين : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) فنسخت الآية الأولى .وروي عن أبي العالية ، وزيد بن أسلم ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان نحو ذلك .وقوله : ( واسمعوا وأطيعوا ) أي : كونوا منقادين لما يأمركم الله به ورسوله ، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة ، ولا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، ولا تتخلفوا عما به أمرتم ، ولا تركبوا ما عنه زجرتم .وقوله تعالى : ( وأنفقوا خيرا لأنفسكم ) أي : وابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء والمساكين وذوي الحاجات ، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن إليكم ، يكن خيرا لكم في الدنيا والآخرة ، وإن لا تفعلوا يكن شرا لكم في الدنيا والآخرة .وقوله : ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) تقدم تفسيره في سورة " الحشر " وذكر الأحاديث الواردة في معنى هذه الآية ، بما أغنى عن إعادته ها هنا ، ولله الحمد والمنة ،

إِن تُقْرِضُوا۟ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَٰعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)


وقوله : ( إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم ) أي : مهما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ، ومهما تصدقتم من شيء فعليه جزاؤه ، ونزل ذلك منزلة القرض له ، كما ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول : " من يقرض غير ظلوم ولا عديم " ولهذا قال : ( يضاعفه لكم ) كما تقدم في سورة البقرة : ( فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) [ البقرة : 245 ]( ويغفر لكم ) أي : ويكفر عنكم السيئات . ولهذا قال : ( والله شكور ) أي : يجزي على القليل بالكثير ( حليم ) أي : يعفو ويصفح ويغفر ويستر ، ويتجاوز عن الذنوب والزلات والخطايا والسيئات .

عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ (18)


" عالم الغيب والشهادة " أي يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم ولا يخفى عليه منه شيء " العزيز الحكيم " أي ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره.

الصفحة السابقة