تفسير سورة الأعراف الصفحة 169 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 169 من المصحف


وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوْمِهِۦ غَضْبَٰنَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِنۢ بَعْدِىٓ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى ٱلْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيْهِ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا۟ يَقْتُلُونَنِى فَلَا تُشْمِتْ بِىَ ٱلْأَعْدَآءَ وَلَا تَجْعَلْنِى مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ (150)


يخبر تعالى أن موسى ، عليه السلام ، رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسف .قال أبو الدرداء " الأسف " : أشد الغضب .( 151 ) ( قال بئسما خلفتموني من بعدي ) يقول : بئس ما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن ذهبت وتركتكم .وقوله : ( أعجلتم أمر ربكم ) ؟ يقول : استعجلتم مجيئي إليكم ، وهو مقدر من الله تعالى .وقوله : ( وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه ) قيل : كانت الألواح من زمرد . وقيل : من ياقوت . وقيل : من برد وفي هذا دلالة على ما جاء في الحديث : " ليس الخبر كالمعاينة "ثم ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضبا على قومه ، وهذا قول جمهور العلماء سلفا وخلفا . وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولا غريبا ، لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة ، وقد رده ابن عطية وغير واحد من العلماء ، وهو جدير بالرد ، وكأنه تلقاه قتادة عن بعض أهل الكتاب ، وفيهم كذابون ووضاعون وأفاكون وزنادقة .وقوله : ( وأخذ برأس أخيه يجره إليه ) خوفا أن يكون قد قصر في نهيهم ، كما قال في الآية الأخرى : ( قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري . قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ) [ طه : 92 - 94 ] وقال هاهنا : ( ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ) أي : لا تسقني مساقهم ، ولا تخلطني معهم . وإنما قال : ( ابن أم ) ; لتكون أرأف وأنجع عنده ، وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه . فلما تحقق موسى ، عليه السلام ، براءة ساحة هارون عليه السلام كما قال تعالى : ( ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ) [ طه : 90 ]

قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِى وَلِأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِى رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ (151)


فعند ذلك قال موسى : ( رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين )قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " يرحم الله موسى ، ليس المعاين كالمخبر ; أخبره ربه ، عز وجل ، أن قومه فتنوا بعده ، فلم يلق الألواح ، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح "

إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُوا۟ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُفْتَرِينَ (152)


ما الغضب الذي نال بني إسرائيل في عبادة العجل ، فهو أن الله تعالى لم يقبل لهم توبة ، حتى قتل بعضهم بعضا ، كما تقدم في سورة البقرة : ( فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) [ البقرة : 54 ]وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلا وصغارا في الحياة الدنيا ، وقوله : ( وكذلك نجزي المفترين ) نائلة لكل من افترى بدعة ، فإن ذل البدعة ومخالفة الرسالة متصلة من قلبه على كتفيه ، كما قال الحسن البصري : إن ذل البدعة على أكتافهم ، وإن هملجت بهم البغلات ، وطقطقت بهم البراذين .وهكذا روى أيوب السختياني ، عن أبي قلابة الجرمي ، أنه قرأ هذه الآية : ( وكذلك نجزي المفترين ) قال : هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة .وقال سفيان بن عيينة : كل صاحب بدعة ذليل .

وَٱلَّذِينَ عَمِلُوا۟ ٱلسَّيِّـَٔاتِ ثُمَّ تَابُوا۟ مِنۢ بَعْدِهَا وَءَامَنُوٓا۟ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (153)


ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبة عباده من أي ذنب كان ، حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق ; ولهذا عقب هذه القصة بقوله : ( والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك ) أي : يا محمد ، يا رسول الرحمة ونبي النور ( من بعدها ) أي : من بعد تلك الفعلة ) لغفور رحيم )وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا أبان ، حدثنا قتادة ، عن عزرة عن الحسن العرفي ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود ; أنه سئل عن ذلك - يعني عن الرجل يزني بالمرأة ، ثم يتزوجها - فتلا هذه الآية : ( والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) فتلاها عبد الله عشر مرات ، فلم يأمرهم بها ولم ينههم عنها .

وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ أَخَذَ ٱلْأَلْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)


يقول تعالى : ( ولما سكت ) أي : سكن ( عن موسى الغضب ) أي : غضبه على قومه ( أخذ الألواح ) أي : التي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل ، غيرة لله وغضبا له ( وفي نسختها هدى ورحمة )يقول كثير من المفسرين : إنها لما ألقاها تكسرت ، ثم جمعها بعد ذلك ; ولهذا قال بعض السلف : فوجد فيها هدى ورحمة . وأما التفصيل فذهب ، وزعموا أن رضاضها لم يزل موجودا في خزائن الملوك لبني إسرائيل إلى الدولة الإسلامية ، والله أعلم بصحة هذا . وأما الدليل القاطع على أنها تكسرت حين ألقاها ، وهي من جوهر الجنة فقد أخبر الله تعالى أنه لما أخذها بعد ما ألقاها وجد فيها هدى ورحمة .( للذين هم لربهم يرهبون ) ضمن الرهبة معنى الخضوع ; ولهذا عداها باللام . وقال قتادة : في قوله تعالى : ( أخذ الألواح ) قال : رب ، إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فاجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد . قال : رب ، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون - أي آخرون في الخلق - السابقون في دخول الجنة ، رب اجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد . قال : رب ، إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها - كتابهم - وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرا ، حتى إذا رفعوها لم يحفظوا منها شيئا ، ولم يعرفوه . قال قتادة : وإن الله أعطاهم أيتها الأمة من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم . قال : رب ، اجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد . قال : رب ، إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول ، وبالكتاب الآخر ، ويقاتلون فصول الضلالة ، حتى يقاتلوا الأعور الكذاب ، فاجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد . قال : رب ، إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ، ويؤجرون عليها - وكان من قبلهم من الأمم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه ، بعث الله عليها نارا فأكلتها ، وإن ردت عليه تركت ، فتأكلها السباع والطير ، وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم - قال : رب ، اجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد . قال رب ، إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها ، كتبت له حسنة ، فإن عملها ، كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف رب اجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد . قال : رب ، إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها ، فإذا عملها كتبت عليه سيئة واحدة ، فاجعلهم أمتي : قال : تلك أمة أحمد . قال : رب ، إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم ، فاجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد . قال : رب ، إني أجد في الألواح أمة هم المشفعون والمشفوع لهم ، فاجعلهم أمتي . قال : تلك أمة أحمد . قال : قتادة فذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام نبذ الألواح ، وقال اللهم اجعلني من أمة أحمد

وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُۥ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَٰتِنَا فَلَمَّآ أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّٰىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِىَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَٰفِرِينَ (155)


قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فبرز بهم ليدعوا ربهم ، فكان فيما دعوا الله قالوا : اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم ، ( رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ) الآية .وقال السدي : إن الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل ، يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعدهم موعدا ، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه ، ثم ذهب بهم ليعتذروا . فلما أتوا ذلك المكان قالوا : لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة ، فإنك قد كلمته ، فأرناه . فأخذتهم الصاعقة فماتوا ، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : رب ، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم وقد أهلكت خيارهم ؟ ( رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي )وقال محمد بن إسحاق : اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخير فالخير ، وقال : انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم ، وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهروا ، وطهروا ثيابكم . فخرج بهم إلى طور سيناء ، لميقات وقته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم - فقال له السبعون - فيما ذكر لي - حين صنعوا ما أمرهم به ، وخرجوا معه للقاء ربه ، فقالوا لموسى : اطلب لنا نسمع كلام ربنا . فقال : أفعل . فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عمود الغمام ، حتى تغشى الجبل كله . ودنا موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا . وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع ، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه . فضرب دونه بالحجاب . ودنا القوم ، حتى إذا دخلوا وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى ، يأمره وينهاه : افعل ، ولا تفعل . فلما فرغ إليه من أمره ، انكشف عن موسى الغمام ، فأقبل إليهم ، فقالوا لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة . فأخذتهم الرجفة - وهي الصاعقة - فافتلتت أرواحهم ، فماتوا جميعا . فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ، ويقول : ( رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ) قد سفهوا ، أفنهلك من ورائي من بني إسرائيل .وقال سفيان الثوري : حدثني أبو إسحاق ، عن عمارة بن عبد السلولي ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : انطلق موسى وهارون وشبر وشبير ، فانطلقوا إلى سفح جبل ، فنام هارون على سرير ، فتوفاه الله ، عز وجل . فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له : أين هارون ؟ قال : توفاه الله ، عز وجل . قالوا له أنت قتلته ، حسدتنا على خلقه ولينه - أو كلمة نحوها - قال : فاختاروا من شئتم . قال : فاختاروا سبعين رجلا . قال : فذلك قوله تعالى : ( واختار موسى قومه سبعين رجلا ) فلما انتهوا إليه قالوا : يا هارون ، من قتلك ؟ قال : ما قتلني أحد ، ولكن توفاني الله . قالوا : يا موسى ، لن تعصى بعد اليوم . قال : فأخذتهم الرجفة . قال : فجعل موسى ، عليه السلام ، يرجع يمينا وشمالا وقال : يا ( رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) قال : فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم .هذا أثر غريب جدا ، وعمارة بن عبد هذا لا أعرفه . وقد رواه شعبة ، عن أبي إسحاق عن رجل من بني سلول عن علي ، فذكرهوقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج : إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل ، ولا نهوهم ، ويتوجه هذا القول بقول موسى : ( أتهلكنا بما فعل السفهاء منا )وقوله : ( إن هي إلا فتنتك ) أي : ابتلاؤك واختبارك وامتحانك . قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وأبو العالية ، وربيع بن أنس ، وغير واحد من علماء السلف والخلف . ولا معنى له غير ذلك ; يقول : إن الأمر إلا أمرك ، وإن الحكم إلا لك ، فما شئت كان ، تضل من تشاء ، وتهدي من تشاء ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مضل لمن هديت ، ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، فالملك كله لك ، والحكم كله لك ، لك الخلق والأمر .وقوله : ( أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ) الغفر هو : الستر ، وترك المؤاخذة بالذنب ، والرحمة إذا قرنت مع الغفر ، يراد بها ألا يوقعه في مثله في المستقبل ، ( وأنت خير الغافرين ) أي : لا يغفر الذنوب إلا أنت

الصفحة السابقة الصفحة التالية