تفسير سورة الأعراف الصفحة 159 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 159 من المصحف


أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّى وَأَنَا۠ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)


( أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ) وهذه الصفات التي يتصف بها الرسل البلاغة والنصح والأمانة .

أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَٱذْكُرُوٓا۟ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى ٱلْخَلْقِ بَصْۜطَةً فَٱذْكُرُوٓا۟ ءَالَآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)


( أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ) أي : لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه ، بل احمدوا الله على ذاكم ، ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ) أي : واذكروا نعمة الله عليكم إذ جعلكم من ذرية نوح ، الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته ، لما خالفوه وكذبوه ، ( وزادكم في الخلق بسطة ) أي : زاد طولكم على الناس بسطة ، أي : جعلكم أطول من أبناء جنسكم ، كما قال تعالى : في قصة طالوت : ( وزاده بسطة في العلم والجسم ) [ البقرة : 247 ] ( فاذكروا آلاء الله ) أي : نعمه ومننه عليكم ( لعلكم تفلحون ) [ وآلاء جمع ألى وقيل : إلى ]

قَالُوٓا۟ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُۥ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ (70)


يقول تعالى مخبرا عن تمردهم وطغيانهم وعنادهم وإنكارهم على هود ، عليه السلام : ( قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده [ ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ] ) كما قال الكفار من قريش : ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) [ الأنفال : 32 ]وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره : أنهم كانوا يعبدون أصناما ، فصنم يقال له : صداء ، وآخر يقال له : صمود ، وآخر يقال له : الهباء

قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَٰدِلُونَنِى فِىٓ أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّا نَزَّلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَٰنٍ فَٱنتَظِرُوٓا۟ إِنِّى مَعَكُم مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ (71)


ولهذا قال هود ، عليه السلام : ( قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب ) أي : قد وجب عليكم بمقالتكم هذه من ربكم رجس [ وغضب ] قيل : هو مقلوب من رجز . وعن ابن عباس : معناه السخط والغضب .( أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ) أي : أتحاجوني في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة ، وهي لا تضر ولا تنفع ، ولا جعل الله لكم على عبادتها حجة ولا دليلا ; ولهذا قال : ( ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين )وهذا تهديد ووعيد من الرسول لقومه ; ولهذا عقب بقوله :

فَأَنجَيْنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔايَٰتِنَا وَمَا كَانُوا۟ مُؤْمِنِينَ (72)


( فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين )وقد ذكر الله ، سبحانه ، صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن ، بأنه أرسل عليهم الريح العقيم ، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ، كما قال في الآية الأخرى : ( وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ) [ الحاقة : 6 - 8 ] لما تمردوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية ، فكانت تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتثلغ رأسه حتى تبينه من جثته ; ولهذا قال : ( كأنهم أعجاز نخل خاوية )وقال محمد بن إسحاق : كانوا يسكنون باليمن من عمان وحضرموت ، وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض وقهروا أهلها ، بفضل قوتهم التي آتاهم الله ، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله ، فبعث الله إليهم هودا ، عليه السلام ، وهو من أوسطهم نسبا ، وأفضلهم موضعا ، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره ، وأن يكفوا عن ظلم الناس ، فأبوا عليه وكذبوه ، وقالوا : من أشد منا قوة ؟ واتبعه منهم ناس ، وهم يسير مكتتمون بإيمانهم ، فلما عتت عاد على الله وكذبوا نبيه ، وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا ، وبنوا بكل ريع آية عبثا بغير نفع ، كلمهمهود فقال : ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون ) [ الشعراء : 128 - 131 ] ( قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين . إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ) أي : بجنون ( قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ) [ هود : 53 - 56 ]قال محمد بن إسحاق : فلما أبوا إلا الكفر به ، أمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين ، فيما يزعمون ، حتى جهدهم ذلك ، قال : وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان ، فطلبوا من الله الفرج فيه ، إنما يطلبونه بحرمة ومكان بيته ، وكان معروفا عند الملل وبه العماليق مقيمون ، وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ، وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له : " معاوية بن بكر " ، وكانت له أم من قوم عاد ، واسمها كلهدة ابنة الخيبري ، قال : فبعثت عاد وفدا قريبا من سبعين رجلا إلى الحرم ، ليستسقوا لهم عند الحرم ، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه ، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان - قينتان لمعاوية - وكانوا قد وصلوا إليه في شهر ، فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه ، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف ، عمل شعرا يعرض لهم بالانصراف ، وأمر القينتين أن تغنياهم به ، فقال :ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما فيسقي أرض عاد إن عاداقد امسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد فليس نرجوبه الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخيرفقد أمست نساؤهم عيامى وإن الوحش تأتيهم جهاراولا تخشى لعادي سهاما وأنتم هاهنا فيما اشتهيتمنهاركم وليلكم التماما فقبح وفدكم من وفد قومولا لقوا التحية والسلاماقال : فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له ، فنهضوا إلى الحرم ، ودعوا لقومهم فدعا داعيهم ، وهو : " قيل بن عنز " فأنشأ الله سحابات ثلاثا : بيضاء ، وسوداء ، وحمراء ، ثم ناداه مناد من السماء : " اختر لنفسك - أو : - لقومك من هذا السحاب " ، فقال : " اخترت هذه السحابة السوداء ، فإنها أكثر السحاب ماء " فناداه مناد : اخترت رمادا رمددا ، لا تبقي من عاد أحدا ، لا والدا تترك ولا ولدا ، إلا جعلته همدا ، إلا بني اللوذية المهندا قال : وبنو اللوذية : بطن من عاد مقيمون بمكة ، فلم يصبهم ما أصاب قومهم - قال : وهم من بقي من أنسالهم وذراريهم عاد الآخرة - قال : وساق الله السحابة السوداء ، فيما يذكرون ، التي اختارها " قيل بن عنز " بما فيها من النقمة إلى عاد ، حتى تخرج عليهم من واد يقال له : " المغيث " ، فلما رأوها استبشروا ، وقالوا : ( هذا عارض ممطرنا ) يقول : ( بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها ) [ الأحقاف : 24 ، 25 ] أي : تهلك كل شيء مرت به ، فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح ، فيما يذكرون ، امرأة من عاد يقال لها : مهدد فلما تبينت ما فيها صاحت ، ثم صعقت . فلما أفاقت قالوا : ما رأيت يا مهدد ؟ قالت ريحا فيها شهب النار ، أمامها رجال يقودونها . فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ، كما قال الله . و " الحسوم " : الدائمة - فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك واعتزل هود ، عليه السلام ، فيما ذكر لي ، ومن معه من المؤمنين في حظيرة ، ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود ، وتلتذ الأنفس ، وإنها لتمر على عاد بالطعن ما بين السماء والأرض ، وتدمغهم بالحجارة .وذكر تمام القصة بطولها ، وهو سياق غريب فيه فوائد كثيرة ، وقد قال الله تعالى : ( ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ) [ هود : 58 ]وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده قريب مما أورده محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله .قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي ، حدثنا عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن الحارث البكري قال : خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها ، فقالت لي : يا عبد الله ، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة ، فهل أنت مبلغي إليه ؟ قال : فحملتها فأتيت المدينة ، فإذا المسجد غاص بأهله ، وإذا راية سوداء تخفق ، وإذا بلال متقلد بسيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ما شأن الناس ؟ فقالوا : يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها . قال : فجلست ، فدخل منزله - أو قال رحله فاستأذنت عليه ، فأذن لي ، فدخلت فسلمت ، قال : هل بينكم وبين تميم شيء ؟ قلت : نعم ، وكانت لنا الدبرة عليهم ، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها ، فسألتني أن أحملها إليك ، وها هي بالباب . فأذن لها ، فدخلت ، فقلت : يا رسول الله ، إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا ، فاجعل الدهناء . فحميت العجوز واستوفزت ، فقالت : يا رسول الله ، فإلى أين يضطر مضطرك ؟ قال : قلت : إن مثلي مثل ما قال الأول : " معزى حملت حتفها " ، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما ، أعوذ بالله وبرسوله أن أكون كوافد عاد ! قال : هيه ، وما وافد عاد ؟ - وهو أعلم بالحديث منه ، ولكن يستطعمه - قلت : إن عادا قحطوا فبعثوا وافدا لهم يقال له : " قيل " ، فمر بمعاوية بن بكر ، فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان ، يقال لهما : " الجرادتان " ، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة ، فقال : اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ، ولا إلى أسير فأفاديه . اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه ، فمرت به سحابات سود ، فنودي : منها " اختر " . فأومأ إلى سحابة منها سوداء ، فنودي منها : " خذها رمادا رمددا ، لا تبقي من عاد أحدا " . قال : فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا ، حتى ، هلكوا - قال أبو وائل : وصدق - قال : وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا : " لا تكن كوافد عاد " .هكذا رواه الإمام أحمد في المسند ، ورواه الترمذي ، عن عبد بن حميد ، عن زيد بن الحباب ، به نحوه : ورواه النسائي من حديث سلام بن أبي المنذر . عن عاصم - وهو ابن بهدلة - ومن طريقه رواه ابن ماجه أيضا ، عن أبي وائل ، عن الحارث بن حسان البكري ، به . ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن زيد بن حباب ، به . ووقع عنده : " عن الحارث بن يزيد البكري " فذكره ، ورواه أيضا عن أبي كريب ، عن أبي بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن الحارث بن يزيد البكري ، فذكره ولم أر في النسخة " أبا وائل " ، والله أعلم .

وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَٰلِحًا قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِىٓ أَرْضِ ٱللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)


قال علماء التفسير والنسب : ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح ، وهو أخو جديس بن عاثر ، وكذلك قبيلة طسم ، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، وكانت ثمود بعد عاد ، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله ، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراهم ومساكنهم ، وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع .قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا صخر بن جويرية ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك ، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود ، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، فعجنوا منها ونصبوا منها القدور . فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور ، وعلفوا العجين الإبل ، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال : " إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم "وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم ، حدثنا عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر : " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين ، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم "وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين من غير وجهوقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا المسعودي ، عن إسماعيل بن أوسط ، عن محمد بن أبي كبشة الأنماري ، عن أبيه قال : لما كان في غزوة تبوك ، تسارع الناس إلى أهل الحجر ، يدخلون عليهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنادى في الناس : " الصلاة جامعة " . قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره وهو يقول : " ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم " ؟ فناداه رجل منهم : نعجب منهم يا رسول الله . قال : " أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك : رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم ، وبما هو كائن بعدكم ، فاستقيموا وسددوا ، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا ، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا "لم يخرجه أحد من أصحاب السنن وأبو كبشة اسمه : عمر بن سعد ، ويقال : عامر بن سعد ، والله أعلم .وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق : حدثنا معمر ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : " لا تسألوا الآيات ، فقد سألها قوم صالح فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفج ، وتصدر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها ، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما ، فعقروها ، فأخذتهم صيحة ، أهمد الله من تحت أديم السماء منهم ، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله " . فقالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : " أبو رغال . فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه "وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة ، وهو على شرط مسلم .فقوله تعالى : ( وإلى ثمود أخاهم صالحا ) أي : ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا ، ( قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) جميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] وقال [ تعالى ] ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل : 36 ] .وقوله : ( قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية ) أي : قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به . وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية ، واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم ، وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر ، يقال لها : الكاتبة ، فطلبوا منه أن يخرج لهم منها ناقة عشراء تمخض ، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه ؟ فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم ، قام صالح ، عليه السلام ، إلى صلاته ودعا الله ، عز وجل ، فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها ، كما سألوا ، فعند ذلك آمن رئيس القوم وهو : " جندع بن عمرو " ومن كان معه على أمره وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم " ذؤاب بن عمرو بن لبيد " " والحباب " صاحب أوثانهم ، ورباب بن صمعر بن جلهس ، وكان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له : " شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن حراس " ، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها ، فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط ، فأطاعهم ، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود ، يقال له مهوس بن عنمة بن الدميل ، رحمه الله :وكانت عصبة من آل عمرو إلى دين النبي دعوا شهابا عزيز ثمود كلهم جميعافهم بأن يجيب فلو أجابا لأصبح صالح فينا عزيزاوما عدلوا بصاحبهم ذؤابا ولكن الغواة من آل حجرتولوا بعد رشدهم ذئابافأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة ، تشرب ماء بئرها يوما ، وتدعه لهم يوما ، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها ، يحتلبونها فيملئون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم ، كما قال في الآية الأخرى : ( ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر ) [ القمر : 28 ] وقال تعالى : ( هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ) [ الشعراء : 155 ] وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد من فج وتصدر من غيره ليسعها ; لأنها كانت تتضلع من الماء ، وكانت - على ما ذكر - خلقا هائلا ومنظرا رائعا ، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها . فلما طال عليهم واشتد تكذيبهم لصالح النبي ، عليه السلام ، عزموا على قتلها ، ليستأثروا بالماء كل يوم ، فيقال : إنهم اتفقوا كلهم على قتلهاقال قتادة : بلغني أن الذي قتل الناقة طاف عليهم كلهم ، أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن ، وعلى الصبيان أيضاقلت : وهذا هو الظاهر ; لأن الله تعالى يقول : ( فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ) [ الشمس : 14 ] وقال : ( وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها ) [ الإسراء : 59 ] وقال : ( فعقروا الناقة ) فأسند ذلك على مجموع القبيلة ، فدل على رضا جميعهم بذلك ، والله أعلم .وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، وغيره من علماء التفسير في سبب قتل الناقة : أن امرأة منهم يقال لها : " عنيزة ابنة غنم بن مجلز " وتكنى أم غنم كانت عجوزا كافرة ، وكانت من أشد الناس عداوة لصالح ، عليه السلام ، وكانت لها بنات حسان ومال جزيل ، وكان زوجها ذؤاب بن عمرو أحد رؤساء ثمود ، وامرأة أخرى يقال لها : " صدوف بنت المحيا بن دهر بن المحيا " ذات حسب ومال وجمال ، وكانت تحت رجل مسلم من ثمود ، ففارقته ، فكانتا تجعلان لمن التزم لهما بقتل الناقة ، فدعت " صدوف " رجلا يقال له : " الحباب " وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة ، فأبى عليها . فدعت ابن عم لها يقال له : " مصدع بن مهرج بن المحيا " ، فأجابها إلى ذلك - ودعت " عنيزة بنت غنم " قدار بن سالف بن جندع وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا ، يزعمون أنه كان ولد زنية ، وأنه لم يكن من أبيه الذي ينسب إليه ، وهو سالف ، وإنما هو من رجل يقال له : " صهياد " ولكن ولد على فراش " سالف " ، وقالت له : أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة ! فعند ذلك ، انطلق " قدار بن سالف " " ومصدع بن مهرج " ، فاستفزا غواة من ثمود ، فاتبعهما سبعة نفر ، فصاروا تسعة رهط ، وهم الذين قال الله تعالى : ( وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) [ النمل : 48 ] وكانوا رؤساء في قومهم ، فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها ، فطاوعتهم على ذلك ، فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء ، وقد كمن لها " قدار " في أصل صخرة على طريقها ، وكمن لها " مصدع " في أصل أخرى ، فمرت على " مصدع " فرماها بسهم ، فانتظم به عضلة ساقها وخرجت " أم غنم عنيزة " ، وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس وجها ، فسفرت عن وجهها لقدار وذمرته فشد على الناقة بالسيف ، فكسف عرقوبها ، فخرت ساقطة إلى الأرض ، ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها ، ثم طعن في لبتها فنحرها ، وانطلق سقبها - وهو فصيلها - حتى أتى جبلا منيعا ، فصعد أعلى صخرة فيه ورغا - فروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عمن سمع الحسن البصري أنه قال : يا رب أين أمي ؟ ويقال : إنه رغا ثلاث مرات . وإنه دخل في صخرة فغاب فيها ، ويقال : بل اتبعوه فعقروه مع أمه ، فالله أعلمفلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة ، بلغ الخبر صالحا ، عليه السلام ، فجاءهم وهم مجتمعون ، فلما رأى الناقة بكى وقال : ( تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ) [ هود : 65 ] وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء ، فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح عليه السلام وقالوا : إن كان صادقا عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذبا ألحقناه بناقته ! ( قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ) الآية . [ النمل : 49 - 52 ]فلما عزموا على ذلك ، وتواطئوا عليه ، وجاءوا من الليل ليفتكوا بنبي الله صالح ، أرسل الله ، سبحانه وتعالى ، وله العزة ولرسوله ، عليهم حجارة فرضختهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم ، وأصبح ثمود يوم الخميس ، وهو اليوم الأول من أيام النظرة ، ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح ، عليه السلام ، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل ، وهو يوم الجمعة ، ووجوههم محمرة ، وأصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع وهو يوم السبت ، ووجوههم مسودة ، فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحنطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه ، عياذا بالله من ذلك ، لا يدرون ماذا يفعل بهم ، ولا كيف يأتيهم العذاب ؟ وقد أشرقت الشمس ، جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم ، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة

الصفحة السابقة الصفحة التالية