تفسير سورة المطففين الصفحة 588 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 588 من المصحف


كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ (7)


يقول تعالى حقا" إن كتاب الفجار لفي سجين"أي أن مصيرهم ومأواهم لفي سجين فعيل من السجن وهو الضيق كما يقال فسيق وشريب وخمير وسكير ونحو ذلك.

وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا سِجِّينٌ (8)


ولهذا عظم أمره فقال ( وما أدراك ما سجين ) ؟ أي هو أمر عظيم وسجن مقيم وعذاب أليمثم قد قال قائلون هي تحت الأرض السابعة وقد تقدم في حديث البراء بن عازب في حديثه الطويل يقول الله عز وجل في روح الكافر اكتبوا كتابه في سجينوسجين هي تحت الأرض السابعة وقيل صخرة تحت السابعة خضراء وقيل بئر في جهنموقد روى ابن جرير في ذلك حديثا غريبا منكرا لا يصح فقال حدثنا إسحاق بن وهب الواسطي حدثنا مسعود بن موسى بن مشكان الواسطي حدثنا نصر بن خزيمة الواسطي عن شعيب بن صفوان عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الفلق جب في جهنم مغطى وأما سجين فمفتوح "والصحيح أن سجينا مأخوذ من السجن وهو الضيق فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما تعالى منها اتسع فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين كما قال تعالى ( ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) التين 5 ، 6 وقال هاهنا ( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين ) وهو يجمع الضيق والسفول كما قال ) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ) الفرقان : 13

كِتَٰبٌ مَّرْقُومٌ (9)


وقوله ( كتاب مرقوم ) ليس تفسيرا لقوله ( وما أدراك ما سجين ) وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين أي مرقوم مكتوب مفروغ منه لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد قاله محمد بن كعب القرظي

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10)


ثم قال ( ويل يومئذ للمكذبين ) أي إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أوعدهم الله من السجن والعذاب المهين وقد تقدم الكلام على قوله : ( ويل ) بما أغنى عن إعادته وأن المراد من ذلك الهلاك والدمار كما يقال ويل لفلان وكما جاء في المسند والسنن من رواية بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك الناس ويل له ويل له "

ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ (11)


أي لا يصدقون بوقوعه ولا يعتقدون كونه ويستبعدون أمره.

وَمَا يُكَذِّبُ بِهِۦٓ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)


أي معتد في أفعاله من تعاطي الحرام والمجاوزة في تناول المباح والأثيم في أقواله إن حدث كذب وإن وعد أخلف وإن خاصم فجر.

إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ (13)


وقوله ( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) أي إذا سمع كلام الله من الرسول يكذب به ويظن به ظن السوء فيعتقد أنه مفتعل مجموع من كتب الأوائل كما قال تعالى ( وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ) النحل 24 وقال ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) الفرقان : 5

كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا۟ يَكْسِبُونَ (14)


( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) أي ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا إن هذا القرآن أساطير الأولين بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا ولهذا قال تعالى ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) والرين يعتري قلوب الكافرين والغيم للأبرار والغين للمقربينوقد روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت فذلك قول الله ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) .وقال الترمذي حسن صحيح ولفظ النسائي إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فهو الران الذي قال الله ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )وقال أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى أخبرنا ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه فإن زاد زادت حتى تعلو قلبه وذاك الران الذي ذكر الله في القرآن ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) " .وقال الحسن البصري : هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت وكذا قال مجاهد بن جبر وقتادة وابن زيد وغيرهم .

كَلَّآ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)


وقوله ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) أي لهم يوم القيامة منزل ونزل سجين ثم هم يوم القيامة مع ذلك محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهمقال الإمام أبو عبد الله الشافعي في هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ .وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمه الله في غاية الحسن وهو استدلال بمفهوم هذه الآية كما دل عليه منطوق قوله ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) القيامة 22 ، 23 وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة وفي روضات الجنان الفاخرةوقد قال ابن جرير محمد بن عمار الرازي : حدثنا أبو معمر المنقري حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) قال يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون ثم يحجب عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية أو كلاما هذا معناه

ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا۟ ٱلْجَحِيمِ (16)


قوله ( ثم إنهم لصالو الجحيم ) أي ثم هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن من أهل النيران

ثُمَّ يُقَالُ هَٰذَا ٱلَّذِى كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ (17)


( ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ) أي يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ والتصغير والتحقير .

كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلْأَبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ (18)


يقول تعالى حقا ( إن كتاب الأبرار ) وهم بخلاف الفجار ( لفي عليين ) أي مصيرهم إلى عليين وهو بخلاف سجينقال الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال : سأل ابن عباس كعبا وأنا حاضر عن سجين قال هي الأرض السابعة وفيها أرواح الكفار وسأله عن عليين فقال هي السماء السابعة وفيها أرواح المؤمنين وهكذا قال غير واحد إنها السماء السابعةوقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ) يعني الجنةوفي رواية العوفي عنه أعمالهم في السماء عند الله وكذا قال الضحاكوقال قتادة عليون ساق العرش اليمنى وقال غيره عليون عند سدرة المنتهىوالظاهر أن عليين مأخوذ من العلو وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع

وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)


ولهذا قال معظما أمره ومفخما شأنه ( وما أدراك ما عليون )

كِتَٰبٌ مَّرْقُومٌ (20)


ثم قال مؤكدا لما كتب لهم ( كتاب مرقوم )

يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ (21)


يشهده المقربون ) وهم الملائكة قاله قتادةوقال العوفي عن ابن عباس يشهده من كل سماء مقربوها .

إِنَّ ٱلْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ (22)


أي يوم القيامة هم في نعيم مقيم وجنات فيها فضل عميم.

عَلَى ٱلْأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ (23)


( على الأرائك ) وهي السرر تحت الحجال ، ( ينظرون ) قيل : معناه ينظرون في ملكهم وما أعطاهم الله من الخير والفضل الذي لا ينقضي ولا يبيد وقيل معناه ( على الأرائك ينظرون ) إلى الله عز وجل وهذا مقابلة لما وصف به أولئك الفجار ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) فذكر عن هؤلاء أنهم يباحون النظر إلى الله عز وجل وهم على سررهم وفرشهم كما تقدم في حديث ابن عمر إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه وإن أعلاه لمن ينظر إلى الله في اليوم مرتين "

تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ (24)


أي تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم نضرة النعيم أي صفة الترافة والحشمة والسرور والدعة والرياسة مما هم فيه من النعيم العظيم.

يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25)


وقوله ( يسقون من رحيق مختوم ) أي يسقون من خمر من الجنة والرحيق من أسماء الخمر قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وابن زيدقال الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا زهير عن سعد أبي المجاهد الطائي عن عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري أراه قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال أيما مؤمن سقى مؤمنا شربة على ظمأ سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم وأيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة وأيما مؤمن كسا مؤمنا ثوبا على عري كساه الله من خضر الجنة "

خِتَٰمُهُۥ مِسْكٌ وَفِى ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَٰفِسُونَ (26)


وقال ابن مسعود في قوله ( ختامه مسك ) أي خلطه مسكوقال العوفي عن ابن عباس طيب الله لهم الخمر فكان آخر شيء جعل فيها مسك ختم بمسك وكذا قال قتادة والضحاكوقال إبراهيم والحسن ( ختامه مسك ) أي عاقبته مسكوقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا أبو حمزة عن جابر عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي الدرداء ( ختامه مسك ) قال شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد طيبها .وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد ( ختامه مسك ) قال طيبه مسكوقوله ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) أي وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون ، وليتباه ويكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون كقوله ( لمثل هذا فليعمل العاملون ) الصافات : 61

وَمِزَاجُهُۥ مِن تَسْنِيمٍ (27)


أي ومزاج هذا الرحيق الموصوف من تسنيم أي من شراب يقال له تسنيم وهو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه قاله أبو صالح والضحاك.

عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ (28)


أي يشربها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين مزجا قاله ابن مسعود وابن عباس ومسروق وقتادة وغيرهم.

إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُوا۟ كَانُوا۟ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ يَضْحَكُونَ (29)


يخبر تعالى عن المجرمين أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين أي يستهزئون بهم ويحتقرونهم.

وَإِذَا مَرُّوا۟ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)


وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم أي محتقرين لهم.

وَإِذَا ٱنقَلَبُوٓا۟ إِلَىٰٓ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُوا۟ فَكِهِينَ (31)


أي وإذا انقلب أى رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم انقلبوا إليها فكهين أي مهما طلبوا وجدوا ومع هذا ما شكروا نعمة الله عليهم بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحقرونهم ويحسدونهم.

وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوٓا۟ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ لَضَآلُّونَ (32)


أي لكونهم على غير دينهم.

وَمَآ أُرْسِلُوا۟ عَلَيْهِمْ حَٰفِظِينَ (33)


( وما أرسلوا عليهم حافظين ) أي وما بعث هؤلاء المجرمون حافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر من أعمالهم وأقوالهم ولا كلفوا بهم فلم اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم كما قال تعالى ( قال اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ) المؤمنون 108 - 111

فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)


"فاليوم" يعني يوم القيامة "الذين آمنوا من الكفار يضحكون" أي في مقابلة ما ضحك بهم أولئك.

الصفحة السابقة الصفحة التالية