تفسير سورة النصر الصفحة 603 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 603 من المصحف


بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ (1)


تفسير سورة النصروهي مدنية بإجماعوتسمى سورة ( التوديع ) . وهي ثلاث آيات .وهي آخر سورة نزلت جميعا ؛ قاله ابن عباس في صحيح مسلمبسم الله الرحمن الرحيمإذا جاء نصر الله والفتحالنصر : العون مأخوذ من قولهم : قد نصر الغيث الأرض : إذا أعان على نباتها ، من قحطها . قال الشاعر :إذا انسلخ الشهر الحرام فودعي بلاد تميم وانصري أرض عامرويروى :إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي بلاد تميم وانصري أرض عامريقال : نصره على عدوه ينصره نصرا ؛ أي أعانه . والاسم النصرة ، واستنصره على عدوه : أي سأله أن ينصره عليه . وتناصروا : نصر بعضهم بعضا . ثم قيل : المراد بهذا النصر نصر الرسول على قريش ؛ الطبري . وقيل : نصره على من قاتله من الكفار ؛ فإن عاقبة النصر كانت له . وأما الفتح فهو فتح مكة ؛ عن الحسن ومجاهد وغيرهما . وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : هو فتح المدائن والقصور . وقيل : فتح سائر البلاد . وقيل : ما فتحه عليه من العلوم . و ( إذا ) بمعنى قد ؛ أي قد جاء نصر الله ؛ لأن نزولها بعد الفتح . ويمكن أن يكون معناه : إذا يجيئك .

وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجًا (2)


قوله تعالى : ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا قوله تعالى : ورأيت الناس أي العرب وغيرهم . يدخلون في دين الله أفواجا أي جماعات : فوجا بعد فوج . وذلك لما فتحت مكة قالت العرب : أما إذا ظفر محمد بأهل الحرم ، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل ، فليس لكم به يدان . فكانوا يسلمون أفواجا : أمة أمة . قال الضحاك : والأمة : أربعون رجلا . وقال عكرمة ومقاتل : أراد بالناس أهل اليمن . وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين ، بعضهم يؤذنون ، وبعضهم يقرءون القرآن ، وبعضهم يهللون ؛ فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، وبكى عمر وابن عباس . وروى عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ : إذا جاء نصر الله والفتح وجاء أهل اليمن رقيقة أفئدتهم ، لينة طباعهم ، سخية قلوبهم ، عظيمة خشيتهم ، فدخلوا في دين الله أفواجا . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتاكم أهل اليمن ، هم أضعف قلوبا ، وأرق أفئدة ، الفقه يمان ، والحكمة يمانية . وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن وفيه تأويلان : أحدهما : أنه الفرج ؛ لتتابع إسلامهم أفواجا . والثاني : معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأهل اليمن ، وهم الأنصار . وروى جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا ، وسيخرجون منه أفواجا ذكره الماوردي ، ولفظ الثعلبي : وقال أبو عمار حدثني جابر لجابر ، قال : سألني جابر عن حال الناس ، فأخبرته عن حال اختلافهم وفرقتهم ؛ فجعل يبكي ويقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا ، وسيخرجون من دين الله أفواجا .

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابًۢا (3)


قوله تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا قوله تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره أي إذا صليت فأكثر من ذلك . وقيل : معنى سبح : صل ؛ عن ابن عباس : بحمد ربك أي حامدا له على ما آتاك من الظفر والفتح . واستغفره أي : سل الله الغفران . وقيل : فسبح المراد به : التنزيه ؛ أي نزهه عما لا يجوز عليه مع شكرك له . واستغفره أي : سل الله الغفران مع مداومة الذكر . والأول أظهر . روى الأئمة ( واللفظ للبخاري ) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة بعد أن نزلت عليه سورة : إذا جاء نصر الله والفتح ، إلا يقول : سبحانك ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي وعنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي . يتأول القرآن .وفي غير الصحيح : وقالت أم سلمة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال : " سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه - قال - فإني أمرت بها - ثم قرأ - إذا جاء نصر الله والفتح إلى آخرها " . وقال أبو هريرة : اجتهد النبي بعد نزولها ، حتى تورمت قدماه . ونحل جسمه ، وقل تبسمه ، وكثر بكاؤه . وقال عكرمة : لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قط أشد اجتهادا في أمور الآخرة ما كان منه عند نزولها . وقال مقاتل : لما نزلت قرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص ، ففرحوا واستبشروا ، وبكى العباس ؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما يبكيك يا عم ؟ " قال : نعيت إليك نفسك . قال : " إنه لكما تقول " ؛ فعاش بعدها ستين يوما ، ما رئي فيها ضاحكا مستبشرا .وقيل : نزلت في منى بعد أيام التشريق ، في حجة الوداع ، فبكى عمر والعباس ، فقيل لهما : إن هذا يوم فرح ، فقالا : بل فيه نعي النبي - صلى الله عليه وسلم - . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " صدقتما ، نعيت إلي نفسي " . وفي البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان عمر بن الخطاب يأذن لأهل بدر ، ويأذن لي معهم . قال : فوجد بعضهم من ذلك ، فقالوا : يأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله ، فقال لهم عمر : إنه من قد علمتم . قال : فأذن لهم ذات يوم ، وأذن لي معهم ، فسألهم عن هذه السورة : إذا جاء نصر الله والفتح فقالوا : أمر الله جل وعز نبيه - صلى الله عليه وسلم - إذا فتح عليه أن يستغفره ، وأن يتوب إليه . فقال : ما تقول يا ابن عباس ؟ قلت : ليس كذلك ، ولكن أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - حضور أجله ، فقال : إذا جاء نصر الله والفتح ، فذلك علامة موتك . فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا . فقال عمر - رضي الله عنه - : تلومونني عليه ؟ وفي البخاري فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول . ورواه الترمذي ، قال : كان عمر يسألني مع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : أتسأله ولنا بنون مثله ؟ فقال له عمر : إنه من حيث نعلم . فسأله عن هذه الآية : إذا جاء نصر الله والفتح . فقلت : إنما هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أعلمه إياه ؛ وقرأ السورة إلى آخرها . فقال له عمر : والله ما أعلم منها إلا ما تعلم . قال : هذا حديث حسن صحيح . فإن قيل : فماذا يغفر للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يؤمر بالاستغفار ؟ قيل له : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه : رب اغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري كله ، وما أنت أعلم به مني . اللهم اغفر لي خطئي وعمدي ، وجهلي وهزلي ، وكل ذلك عندي . اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أعلنت وما أسررت ، أنت المقدم وأنت المؤخر ، إنك على كل شيء قدير . فكان - صلى الله عليه وسلم - يستقصر نفسه لعظم ما أنعم الله به عليه ، ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبا . ويحتمل أن يكون بمعنى : كن متعلقا به ، سائلا راغبا ، متضرعا على رؤية التقصير في أداء الحقوق ؛ لئلا ينقطع إلى رؤية الأعمال . وقيل : الاستغفار تعبد يجب إتيانه ، لا للمغفرة ، بل تعبدا . وقيل : ذلك تنبيه لأمته ، لكيلا يأمنوا ويتركوا الاستغفار . وقيل : واستغفره أي استغفر لأمتك .إنه كان توابا أي على المسبحين والمستغفرين ، يتوب عليهم ويرحمهم ، ويقبل توبتهم . وإذا كان - عليه السلام - وهو معصوم يؤمر بالاستغفار ، فما الظن بغيره ؟ روى مسلم عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قول : سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه . فقال : " خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي ، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتها : إذا جاء نصر الله والفتح - فتح مكة - ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " .وقال ابن عمر : نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ؛ ثم نزلت اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي فعاش بعدهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانين يوما . ثم نزلت آية الكلالة ، فعاش بعدها خمسين يوما . ثم نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما . ثم نزل واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما . وقال مقاتل سبعة أيام . وقيل غير هذا مما تقدم في ( البقرة ) بيانه والحمد لله .