تفسير سورة النحل الصفحة 267 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 267 من المصحف


بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ أَتَىٰٓ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)


تفسير سورة النحل وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده . وقيل : هي مكية غير قوله - تعالى - : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به الآية ; نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد . وغير قوله - تعالى - : واصبر وما صبرك إلا بالله . وغير قوله : ثم إن ربك للذين هاجروا الآية . وأما قوله : والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا فمكي ، في شأن هجرة الحبشة . وقال ابن عباس : هي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة بعد قتل حمزة ، وهي قوله : ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إلى قوله بأحسن ما كانوا يعملون .أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركونقوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه قيل : أتى بمعنى يأتي ; فهو كقولك : إن أكرمتني أكرمتك . وقد تقدم أن إخبار الله - تعالى - في الماضي والمستقبل سواء ; لأنه آت لا محالة ، كقوله : ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار . و أمر الله عقابه لمن أقام على الشرك وتكذيب رسوله . قال الحسن وابن جريج والضحاك : إنه ما جاء به القرآن من فرائضه وأحكامه . وفيه بعد ; لأنه لم ينقل أن أحدا من الصحابة استعجل فرائض الله من قبل أن تفرض عليهم ، وأما مستعجلو العذاب والعقاب فذلك منقول عن كثير من كفار قريش وغيرهم ، حتى قال النضر بن الحارث : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية ، فاستعجل العذاب .قلت : قد يستدل الضحاك بقول عمر - رضي الله عنه - : وافقت ربي في ثلاث : في مقام إبراهيم ، وفي الحجاب ، وفي أسارى بدر ; خرجه مسلم والبخاري . وقد تقدم في سورة البقرة . وقال الزجاج : هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم ، وهو كقوله : حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور . وقيل : هو يوم القيامة أو ما يدل على قربها من أشراطها . قال ابن عباس : لما نزلت اقتربت الساعة وانشق القمر قال الكفار : إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت ، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون ، فأمسكوا وانتظروا فلم يروا شيئا ، فقالوا : ما نرى شيئا فنزلت اقترب للناس حسابهم الآية . فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة ، فامتدت الأيام فقالوا : ما نرى شيئا فنزلت أتى أمر الله فوثب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون وخافوا ; فنزلت فلا تستعجلوه فاطمأنوا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه : السبابة والتي تليها . يقول : إن كادت لتسبقني فسبقتها . وقال ابن عباس : كان بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من أشراط الساعة ، وأن جبريل لما مر بأهل السماوات مبعوثا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا الله أكبر ، قد قامت الساعة .قوله تعالى : سبحانه وتعالى عما يشركون أي تنزيها له عما يصفونه به من أنه لا يقدر على قيام الساعة ، وذلك أنهم يقولون : لا يقدر أحد على بعث الأموات ، فوصفوه بالعجز الذي لا يوصف به إلا المخلوق ، وذلك شرك . وقيل : عما يشركون أي عن إشراكهم . وقيل : ما بمعنى الذي أي ارتفع عن الذين أشركوا به .

يُنَزِّلُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦٓ أَنْ أَنذِرُوٓا۟ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ (2)


قوله تعالى : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون قرأ المفضل عن عاصم تنزل الملائكة والأصل تتنزل ، فالفعل مسند إلى الملائكة . وقرأ الكسائي عن أبي بكر عن عاصم باختلاف عنه والأعمش " تنزل الملائكة " غير مسمى الفاعل . وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم " ننزل الملائكة " بالنون مسمى الفاعل ، الباقون " ينزل " بالياء مسمى الفاعل ، والضمير فيه لاسم الله - عز وجل - . وروي عن قتادة " تنزل الملائكة " بالنون والتخفيف . وقرأ الأعمش " تنزل بفتح التاء وكسر الزاي ، من النزول . الملائكة " رفعا مثل " تنزل الملائكة "بالروح أي بالوحي وهو النبوة ; قاله ابن عباس . نظيره يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده . الربيع بن أنس : بكلام الله وهو القرآن . وقيل : هو بيان الحق الذي يجب اتباعه . وقيل أرواح الخلق ; قاله مجاهد ، لا ينزل ملك إلا ومعه روح . وكذا روي عن ابن عباس أن الروح خلق من خلق الله - عز وجل - كصور ابن آدم ، لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم . وقيل بالرحمة ; قاله الحسن وقتادة . وقيل بالهداية ; لأنها تحيا بها القلوب كما تحيا بالأرواح الأبدان ، وهو معنى قول الزجاج . قال الزجاج : الروح ما كان فيه من أمر الله حياة بالإرشاد إلى أمره . وقال أبو عبيدة : الروح هنا جبريل . والباء في قوله : بالروح بمعنى مع ، كقولك : خرج بثيابه ، أي مع ثيابه .من أمره أي بأمره .على من يشاء من عباده أي على الذين اختارهم الله للنبوة . وهذا رد لقولهم : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم .أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون تحذير من عبادة الأوثان ، ولذلك جاء الإنذار ; لأن أصله التحذير مما يخاف منه . ودل على ذلك قوله : فاتقون . وأن في موضع نصب بنزع الخافض ، أي بأن أنذروا أهل الكفر بأنه لا إله إلا الله ، " فأن " في محل نصب بسقوط الخافض أو بوقوع الإنذار عليه .

خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)


قوله تعالى : خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون قوله تعالى : خلق السماوات والأرض بالحق أي للزوال والفناء . وقيل : بالحق أي للدلالة على قدرته ، وأن له أن يتعبد العباد بالطاعة وأن يحيي الخلق بعد الموت .تعالى عما يشركون أي من هذه الأصنام التي لا تقدر على خلق شيء .

خَلَقَ ٱلْإِنسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4)


قوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين قوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة لما ذكر الدليل على توحيده ذكر بعده الإنسان ومناكدته وتعدي طوره . والإنسان اسم للجنس . وروي أن المراد به أبي بن خلف الجمحي ، جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعظم رميم فقال : أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رم . وفي هذا أيضا نزل أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين أي خلق الإنسان من ماء يخرج من بين الصلب والترائب ، فنقله أطوارا إلى أن ولد ونشأ بحيث يخاصم في الأمور . فمعنى الكلام التعجب من الإنسان وضرب لنا مثلا ونسي خلقهفإذا هو خصيم أي مخاصم ، كالنسيب بمعنى المناسب . أي يخاصم الله - عز وجل - في قدرته .مبين أي ظاهر الخصومة . وقيل : يبين عن نفسه الخصومة بالباطل . والمبين : هو المفصح عما في ضميره بمنطقه .

وَٱلْأَنْعَٰمَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَٰفِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)


قوله تعالى : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون فيه ثلاث مسائل :الأولى : قوله تعالى : والأنعام خلقها لكم لما ذكر الإنسان ذكر ما من به عليه . والأنعام : الإبل والبقر والغنم . وأكثر ما يقال : نعم وأنعام للإبل ، ويقال للمجموع ولا يقال للغنم مفردة . قال حسان :عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء ديار من بني الحسحاس قفرتعفيها الروامس والسماء وكانت لا يزال بها أنيسخلال مروجها نعم وشاءفالنعم هنا الإبل خاصة . وقال الجوهري : والنعم واحد الأنعام وهي المال الراعية ، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل . قال الفراء : هو ذكر لا يؤنث ، يقولون : هذا نعم وارد ، ويجمع على نعمان مثل حمل وحملان . والأنعام تذكر وتؤنث ; قال الله - تعالى - : مما في بطونه . وفي موضع مما في بطونها . وانتصب الأنعام عطفا على الإنسان ، أو بفعل مقدر ، وهو أوجه .الثانية : قوله تعالى : دفء الدفء : السخانة ، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، ملابس ولحف وقطف . وروي عن ابن عباس : دفؤها نسلها ; والله أعلم قال الجوهري في الصحاح : الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها ; قال الله - تعالى - : لكم فيها دفء . وفي الحديث ( لنا من دفئهم ما سلموا بالميثاق ) . والدفء أيضا السخونة ، تقول منه : دفئ الرجل دفاءة مثل كره كراهة . وكذلك دفئ دفأ مثل ظمئ ظمأ . والاسم الدفء بالكسر وهو الشيء الذي يدفئك ، والجمع الأدفاء . تقول : ما عليه دفء ; لأنه اسم . ولا تقول : ما عليك دفاءة ; لأنه مصدر . وتقول : اقعد في دفء هذا الحائط أي كنه . ورجل دفئ على فعل إذا لبس ما يدفئه . وكذلك رجل دفآن وامرأة دفأى . وقد أدفأه الثوب وتدفأ هو بالثوب واستدفأ به ، وأدفأ به وهو افتعل ; أي لبس ما يدفئه . ودفؤت ليلتنا ، ويوم دفيء على فعيل وليلة دفيئة ، وكذلك الثوب والبيت . والمدفئة الإبل الكثيرة ; لأن بعضها يدفئ بعضا بأنفاسها ، وقد يشدد . والمدفأة الإبل الكثيرة الأوبار والشحوم ; عن الأصمعي . وأنشد الشماخ :وكيف يضيع صاحب مدفآت على أثباجهن من الصقيعقوله تعالى : ومنافع قال ابن عباس : المنافع نسل كل دابة . مجاهد : الركوب والحمل والألبان واللحوم والسمن .ومنها تأكلون أفرد منفعة الأكل بالذكر لأنها معظم المنافع . وقيل : المعنى ومن لحومها تأكلون عند الذبح .الثالثة : دلت هذه الآية على لباس الصوف ، وقد لبسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء قبله كموسى وغيره . وفي حديث المغيرة : فغسل وجهه وعليه جبة من صوف شامية ضيقة الكمين . . . الحديث ، خرجه مسلم وغيره . قال ابن العربي : وهو شعار المتقين ولباس الصالحين وشارة الصحابة والتابعين ، واختيار الزهاد والعارفين ، وهو يلبس لينا وخشنا وجيدا ومقاربا ورديئا ، وإليه نسب جماعة من الناس الصوفية ; لأنه لباسهم في الغالب ، فالياء للنسب والهاء للتأنيث . وقد أنشدني بعض أشياخهم بالبيت المقدس طهره الله :تشاجر الناس في الصوفي واختلفوا فيه وظنوه مشتقا من الصوفولست أنحل هذا الاسم غير فتى صافى فصوفي حتى سمي الصوفي

وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)


قوله تعالى : ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون الجمال ما يتجمل به ويتزين . والجمال : الحسن . وقد جمل الرجل - بالضم - جمالا فهو جميل ، والمرأة جميلة ، وجملاء أيضا ; عن الكسائي . وأنشد :فهي جملاء كبدر طالع بزت الخلق جميعا بالجمالوقول أبي ذؤيب :جمالك أيها القلب القريحيريد : الزم تجملك وحياءك ولا تجزع جزعا قبيحا . قال علماؤنا : فالجمال يكون في الصورة وتركيب الخلقة ، ويكون في الأخلاق الباطنة ، ويكون في الأفعال . فأما جمال الخلقة فهو أمر يدركه البصر ويلقيه إلى القلب متلائما ، فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك ولا نسبته لأحد من البشر . وأما جمال الأخلاق فكونها على الصفات المحمودة من العلم والحكمة والعدل والعفة ، وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل أحد . وأما جمال الأفعال فهو وجودها ملائمة لمصالح الخلق وقاضية لجلب المنافع فيهم وصرف الشر عنهم . وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة ، وهو مرئي بالأبصار موافق للبصائر . ومن جمالها كثرتها وقول الناس إذا رأوها هذه نعم فلان ; قاله السدي . ولأنها إذا راحت توفر حسنها وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها ; لأنها إذ ذاك أعظم ما تكون أسنمة وضروعا ; قاله قتادة . ولهذا المعنى قدم الرواح على السراح لتكامل درها وسرور النفس بها إذ ذاك . والله أعلم . وروى أشهب عن مالك قال : يقول الله - عز وجل - ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وذلك في المواشي حين تروح إلى المرعى وتسرح عليه . والرواح رجوعها بالعشي من المرعى ، والسراح بالغداة ; تقول : سرحت الإبل أسرحها سرحا وسروحا إذا غدوت بها إلى المرعى فخليتها ، وسرحت هي . المتعدي واللازم واحد .

الصفحة التالية