تفسير سورة مريم الصفحة 308 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 308 من المصحف


وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ ٱلْأَمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)


قوله تعالى : وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما من أحد يدخل النار إلا وله بيت في الجنة فيتحسر عليه . وقيل : تقع الحسرة إذا أعطي كتابه بشماله . إذ قضي الأمر أي فرغ من الحساب ، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار . وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت - قال - ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت - قال - فيؤمر به فيذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت - ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون خرجه البخاري بمعناه عن ابن عمر ، وابن ماجه من حديث أبي هريرة والترمذي عن أبي سعيد يرفعه وقال فيه حديث حسن صحيح . وقد ذكرنا ذلك في كتاب ( التذكرة ) وبينا هناك أن الكفار مخلدون بهذه الأحاديث والآي ردا على من قال : إن صفة الغضب تنقطع ، وإن إبليس ومن تبعه من الكفرة كفرعون وهامان وقارون وأشباههم يدخلون الجنة .

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)


قوله تعالى : إنا نحن نرث الأرض ومن عليها أي نميت سكانها فنرثها . وإلينا يرجعون يوم القيامة فنجازي كلا بعمله ، وقد تقدم هذا في ( الحجر ) وغيرها .

وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَٰبِ إِبْرَٰهِيمَ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41)


قوله تعالى : واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا المعنى : واذكر في الكتاب الذي أنزل عليك وهو القرآن قصة إبراهيم وخبره . وقد تقدم معنى الصديق في ( النساء ) واشتقاق الصدق في ( البقرة ) فلا معنى للإعادة ومعنى الآية : اقرأ عليهم يا محمد في القرآن أمر إبراهيم فقد عرفوا أنهم من ولده ، فإنه كان حنيفا مسلما وما كان يتخذ الأنداد ، فهؤلاء لم يتخذون الأنداد ؟ ! وهو كما قال : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَٰٓأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِى عَنكَ شَيْـًٔا (42)


قوله تعالى : إذ قال لأبيه وهو آزر . وقد تقدم . يا أبت قد تقدم القول فيه في ( يوسف ) لم تعبد أي لأي شيء تعبد : ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يريد الأصنام .

يَٰٓأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِىٓ أَهْدِكَ صِرَٰطًا سَوِيًّا (43)


ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك أي من اليقين والمعرفة بالله وما يكون بعد الموت ، وأن من عبد غير الله عذب . فاتبعني إلى ما أدعوك إليه . أهدك صراطا سويا أي أرشدك إلى دين مستقيم فيه النجاة .

يَٰٓأَبَتِ لَا تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَٰنَ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44)


يا أبت لا تعبد الشيطان أي لا تطعه فيما يأمرك به من الكفر ، ومن أطاع شيئا في معصية فقد عبده .إن الشيطان كان للرحمن عصيا ( كان ) صلة زائدة ، وقيل : بمعنى صار . وقيل بمعنى الحال أي هو للرحمن . وعصيا وعاص بمعنى واحد قاله الكسائي .

يَٰٓأَبَتِ إِنِّىٓ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَٰنِ وَلِيًّا (45)


يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن أي إن مت على ما أنت عليه . ويكون أخاف بمعنى أعلم . ويجوز أن يكون أخاف على بابها فيكون المعنى : إني أخاف أن تموت على كفرك فيمسك العذاب . فتكون للشيطان وليا أي قرينا في النار .

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِى يَٰٓإِبْرَٰهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَٱهْجُرْنِى مَلِيًّا (46)


قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم أي أترغب عنها إلى غيرها . لئن لم تنته لأرجمنك قال الحسن : يعني بالحجارة . الضحاك : بالقول ؛ أي لأشتمنك . ابن عباس : لأضربنك . وقيل : لأظهرن أمرك . لأرجمنك واهجرني قال ابن عباس : أي اعتزلني سالم العرض لا يصيبك مني معرة ؛ واختاره الطبري ، فقوله : مليا على هذا حال من إبراهيم . وقال الحسن ومجاهد : مليا دهرا طويلا ؛ ومنه قول المهلهل :فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات ملياقال الكسائي : يقال هجرته مليا وملوة وملوة وملاوة وملاوة ، فهو على هذا القول ظرف ، وهو بمعنى الملاوة من الزمان ، وهو الطويل منه .

قَالَ سَلَٰمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّىٓ إِنَّهُۥ كَانَ بِى حَفِيًّا (47)


قوله تعالى : قال سلام عليك لم يعارضه إبراهيم - عليه السلام - بسوء الرد ؛ لأنه لم يؤمر بقتاله على كفره . والجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة لا التحية ؛ قال الطبري : معناه أمنة مني لك . وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام . وقال النقاش : حليم خاطب سفيها ؛ كما قال : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما . وقال بعضهم في معنى تسليمه : هو تحية مفارق ؛ وجوز تحية الكافر وأن يبدأ بها . قيل لابن عيينة : هل يجوز السلام على الكافر ؟ قال : نعم ؛ قال الله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين . وقال قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم الآية ؛ وقال إبراهيم لأبيه سلام عليك .قلت : الأظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة ؛ وفي الباب حديثان صحيحان : روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه خرجه البخاري ومسلم . وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية ، وأردف وراءه أسامة بن زيد ؛ وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج ، وذلك قبل وقعة بدر ، حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود ، وفيهم عبد الله بن أبي ابن سلول ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة ، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة ، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه ، ثم قال : لا تغبروا علينا ، فسلم عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ الحديث .فالأول يفيد ترك السلام عليهم ابتداء ؛ لأن ذلك إكرام ، والكافر ليس أهله . والحديث الثاني يجوز ذلك . قال الطبري : ولا يعارض ما رواه أسامة بحديث أبي هريرة فإنه ليس في أحدهما خلاف للآخر وذلك أن حديث أبي هريرة مخرجه العموم ، وخبر أسامة يبين أن معناه الخصوص . وقال النخعي : إذا كانت لك حاجة عند يهودي أو نصراني فابدأه بالسلام فبان بهذا أن حديث أبي هريرة لا تبدءوهم بالسلام إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدءوهم بالسلام ، من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم ، أو حق صحبة أو جوار أو سفر . قال الطبري : وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب . وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه ؛ قال علقمة : فقلت له يا أبا عبد الرحمن أليس يكره أن يبدءوا بالسلام ؟ ! قال : نعم ، ولكن حق الصحبة . وكان أبو أسامة إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه ؛ قيل له في ذلك فقال : أمرنا أن نفشي السلام . وسئل الأوزاعي عن مسلم مر بكافر فسلم عليه ، فقال : إن سلمت فقد سلم الصالحون قبلك ، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك . وروي عن الحسن البصري أنه قال : إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم .قلت : وقد احتج أهل المقالة الأولى بأن السلام الذي معناه التحية إنما خص به هذه الأمة ؛ لحديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله تعالى أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم : السلام وهي تحية أهل الجنة الحديث ؛ ذكره الترمذي الحكيم ؛ وقد مضى في الفاتحة بسنده . وقد مضى الكلام في معنى قوله : سأستغفر لك ربي وارتفع السلام بالابتداء ؛ وجاز ذلك مع نكرته لأنه نكرة مخصصة فقرنت المعرفة . قوله تعالى : إنه كان بي حفيا الحفي المبالغ في البر والإلطاف ؛ يقال : حفي به وتحفى إذا بره . وقال الكسائي يقال : حفي بي حفاوة وحفوة . وقال الفراء : إنه كان بي حفيا أي عالما لطيفا يجيبني إذا دعوته .

وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُوا۟ رَبِّى عَسَىٰٓ أَلَّآ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّا (48)


قوله تعالى : وأعتزلكم العزلة المفارقة وقد تقدم في ( الكهف ) بيانها . قوله : عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا قيل : أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلا وولدا يتقوى بهم ، حتى لا يستوحش بالاعتزال عن قومه . ولهذا قال :

فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُۥٓ إِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)


فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب أي آنسنا وحشته بولد ؛ عن ابن عباس وغيره . وقيل : عسى يدل على أن العبد لا يقطع بأنه يبقى على المعرفة أم لا في المستقبل . وقيل : دعا لأبيه بالهداية . ف " عسى " شك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا ؟ والأول أظهر .

وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)


وقوله : وجعلنا لهم لسان صدق عليا أي أثنينا عليهم ثناء حسنا ؛ لأن جميع الملل تحسن الثناء عليهم . واللسان يذكر ويؤنث ؛ وقد تقدم .

وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَٰبِ مُوسَىٰٓ إِنَّهُۥ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (51)


قوله تعالى : واذكر في الكتاب موسى أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى . إنه كان مخلصا في عبادته غير مراء . وقرأ أهل الكوفة بفتح اللام ؛ أي أخلصناه فجعلناه مختارا .

الصفحة السابقة الصفحة التالية