تفسير سورة الحج الصفحة 335 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 335 من المصحف


وَهُدُوٓا۟ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُوٓا۟ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلْحَمِيدِ (24)


قوله تعالى : وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميدقوله تعالى : وهدوا إلى الطيب من القول أي أرشدوا إلى ذلك . قال ابن عباس : يريد لا إله إلا الله والحمد لله . وقيل : القرآن ، ثم قيل : هذا في الدنيا ، هدوا إلى الشهادة ، وقراءة القرآن . وهدوا إلى صراط الحميد أي إلى صراط الله . وصراط الله : دينه وهو الإسلام . وقيل : هدوا في الآخرة إلى الطيب من القول ، وهو الحمد لله ؛ لأنهم يقولون غدا الحمد لله الذي هدانا لهذا ، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ؛ فليس في الجنة لغو ولا كذب فما يقولونه فهو طيب القول . وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله ، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله . وقيل : الطيب من القول ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة . وهدوا إلى صراط الحميد أي إلى طريق الجنة .

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِى جَعَلْنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍۭ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)


قوله تعالى : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادي ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليمفيه سبع مسائل :الأولى : قوله تعالى : إن الذين كفروا ويصدون أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسجد الحرام عام الحديبية ، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع ؛ إلا أن يريد صدهم لأفراد من الناس ، فقد وقع ذلك في صدر المبعث . والصد : المنع ؛ أي وهم يصدون . وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي . وقيل : الواو زائدة ( ويصدون ) خبر ( إن ) . وهذا مفسد للمعنى المقصود ، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله ( والباد ) تقديره : خسروا إذا هلكوا . وجاء ( ويصدون ) مستقبلا إذ هو فعل يديمونه ؛ كما جاء قوله تعالى : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ؛ فكأنه قال : إن الذين كفروا من شأنهم الصد . ولو قال إن الذين كفروا وصدوا لجاز . قال النحاس : وفي كتابي عن أبي إسحاق ، قال : وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر نذقه من عذاب أليم . قال أبو جعفر : وهذا غلط ، ولست أعرف ما الوجه فيه ؛ لأنه جاء بخبر ( إن ) جزما ، وأيضا فإنه جواب الشرط ، ولو كان خبر ( إن ) لبقي الشرط بلا جواب ، ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب .الثانية : والمسجد الحرام قيل : إنه المسجد نفسه ، وهو ظاهر القرآن ؛ لأنه لم يذكر غيره . وقيل : الحرم كله ؛ لأن المشركين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عنه عام الحديبية ، فنزل خارجا عنه ؛ قال الله تعالى : وصدوكم عن المسجد الحرام ، وقال : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام . وهذا صحيح ، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك .الثالثة : قوله تعالى : الذي جعلناه للناس أي للصلاة والطواف والعبادة ؛ وهو كقوله تعالى : إن أول بيت وضع للناس . سواء العاكف فيه والبادي العاكف : المقيم الملازم . والبادي : أهل البادية ومن يقدم عليهم . يقول : سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي يأتيه من البلاد ؛ فليس أهل مكة أحق من النازح إليه . وقيل : إن المساواة إنما هي في دوره ، ومنازله ، ليس المقيم فيها أولى من الطارئ عليها . وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله ؛ وهذا قول مجاهد ، ومالك ؛ رواه عنه ابن القاسم . وروي عن عمر ، وابن عباس ، وجماعة : إلا أن القادم له النزول حيث وجد ، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى . وقال ذلك سفيان الثوري ، وغيره ، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول ، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة ؛ فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال : أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله ؟ فقال : إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة ، فتركه فاتخذ الناس الأبواب . وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة ، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء ، وكانت الفساطيط تضرب في الدور . وروي عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد ؛ وهذا هو العمل اليوم . وقال بهذا جمهور من الأمة .وهذا الخلاف يبنى على أصلين : أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس . وللخلاف سببان : أحدهما هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة ، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم ؛ كما فعل عمر - رضي الله عنه - بأرض السواد وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانا إليهم دون سائر الكفار فتبقى على ذلك لا تباع ولا تكرى ، ومن سبق إلى موضع كان أولى به . وبهذا قال مالك ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي . أو كان فتحها صلحا - وإليه ذهب الشافعي - فتبقى ديارهم بأيديهم ، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاءوا . وروي عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجنا ، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام ، على ما تقدم بيانه في آية المحاربين من سورة ( المائدة ) . وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس في تهمة ، . وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول : لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة .قلت : الصحيح ما قاله مالك ؛ وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة . قال أبو عبيد : ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد . وروى الدارقطني ، عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر ، وعمر - رضي الله عنهما - وما تدعى رباع مكة إلا السوائب ؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن . وزاد في رواية : وعثمان . وروي أيضا عن علقمة بن نضلة الكناني قال : كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، وعمر - رضي الله عنهما - السوائب ، لا تباع ؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن . وروي أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها - وقال : من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا . قال الدارقطني : كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ، ووهم فيه ، ووهم أيضا في قوله : عبيد الله بن أبي يزيد ، وإنما هو ابن أبي زياد القداح ، والصحيح أنه موقوف ، وأسند الدارقطني أيضا عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها . وروى أبو داود ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت : يا رسول الله ؛ ألا أبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس ؟ فقال : لا ، إنما هو مناخ من سبق إليه . وتمسك الشافعي - رضي الله عنه - بقوله تعالى : الذين أخرجوا من ديارهم فأضافها إليهم . وقال : عليه السلام - يوم الفتح : من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن .الرابعة : قرأ جمهور الناس ( سواء ) بالرفع ، وهو على الابتداء ، و ( العاكف ) خبره . وقيل : الخبر ( سواء ) وهو مقدم ؛ أي العاكف فيه والبادي سواء ؛ وهو قول أبي علي ، والمعنى : الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا العاكف فيه والبادي سواء . وقرأ حفص ، عن عاصم سواء بالنصب ، وهي قراءة الأعمش . وذلك يحتمل أيضا وجهين : أحدهما : أن يكون مفعولا ثانيا لجعل ، ويرتفع ( العاكف ) به لأنه مصدر ، فأعمل عمل اسم الفاعل لأنه في معنى مستو . والوجه الثاني : أن يكون حالا من الضمير في جعلناه . وقرأت فرقة ( سواء ) بالنصب ( العاكف ) بالخفض ، و ( البادي ) عطفا على الناس ، التقدير : الذي جعلناه للناس العاكف والبادي . وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء ، ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل بالياء . وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف . وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام ، واختلفوا في مكة ؛ وقد ذكرناه .الخامسة : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم شرط ، وجوابه نذقه من عذاب أليم . والإلحاد في اللغة : الميل ؛ إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد . واختلف في الظلم ؛ فروىعلي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ومن يرد فيه بإلحاد بظلم قال : الشرك . وقال عطاء : الشرك والقتل . وقيل : معناه صيد حمامه ، وقطع شجره ؛ ودخول غير محرم . وقال ابن عمر : كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان : لا والله ! وبلى والله ! وكلا والله ! ولذلك كان له فسطاطان ، أحدهما في الحل والآخر في الحرم ؛ فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم ، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل صيانة للحرم عن قولهم : كلا والله ، وبلى والله ، حين عظم الله الذنب فيه . وكذلك كان لعبد الله بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل ، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم ، فقيل له في ذلك فقال : إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول : كلا والله ، وبلى والله ، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات ، فتكون المعصية معصيتين ، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام ؛ وهكذا الأشهر الحرم سواء . وقد تقدم . وروى أبو داود ، عن يعلى بن أمية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه . وهو قول عمر بن الخطاب . والعموم يأتي على هذا كله .السادسة : ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك ، وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله . وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود ، وابن عمر قالوا : لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو ( بعدن أبين ) لعذبه الله .قلت : هذا صحيح ، وقد جاء هذا المعنى في سورة ن والقلم مبينا ، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى .السابعة : الباء في ( بإلحاد ) زائدة كزيادتها في قوله تعالى : تنبت بالدهن ؛ وعليه حملوا قول الشاعر :نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرجأراد : نرجو الفرج . وقال الأعشى :ضمنت برزق عيالنا أرماحناأي رزق : وقال آخر [ قيس بن زهير العبسي ] :ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زيادأي ما لاقت ؛ والباء زائدة ، وهو كثير . وقال الفراء : سمعت أعرابيا وسألته عن شيء فقال : أرجو بذاك ، أي أرجو ذاك . وقال الشاعر :بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهانأي المرخ . وهو قول الأخفش ، والمعنى عنده : ومن يرد فيه إلحادا بظلم . وقال الكوفيون : دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد ، والباء مع أن تدخل وتحذف . ويجوز أن يكون التقدير : ومن يرد الناس فيه بإلحاد . وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر ؛ فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه . ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة . هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم . وقد ذكرناه آنفا .

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِى شَيْـًٔا وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ (26)


قوله تعالى : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجودفيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أي واذكر إذ بوأنا لإبراهيم ؛ يقال : بوأته منزلا وبوأت له . كما يقال : مكنتك ومكنت لك ؛ فاللام في قوله : لإبراهيم صلة للتأكيد ؛ كقوله : ردف لكم ، وهذا قول الفراء . وقيل : بوأنا لإبراهيم مكان البيت أي أريناه أصله ليبنيه ، وكان قد درس بالطوفان وغيره ، فلما جاءت مدة إبراهيم - عليه السلام - أمره الله ببنيانه ، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا ، فبعث الله ريحا فكشفت عن أساس آدم - عليه السلام - ؛ فرتب قواعده عليه ؛ حسبما تقدم بيانه في ( البقرة ) . وقيل : ( بوأنا ) نازلة منزلة فعل يتعدى باللام ؛ كنحو جعلنا ، أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت مبوأ . وقال الشاعر :كم من أخ لي ماجد بوأته بيدي لحداالثانية : أن لا تشرك هي مخاطبة لإبراهيم - عليه السلام - في قول الجمهور . وقرأ عكرمة ( أن لا يشرك ) بالياء ، على نقل معنى القول الذي قيل له . قال أبو حاتم : ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة ، بمعنى لئلا يشرك . وقيل : إن ( أن ) مخففة من الثقيلة . وقيل مفسرة . وقيل زائدة ؛ مثل فلما أن جاء البشير . وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت ؛ أي هذا كان الشرط على أبيكم ممن بعده وأنتم ، فلم تفوا بل أشركتم . وقالت فرقة : الخطاب من قول أن لا تشرك لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج . والجمهور على أن ذلك لإبراهيم ؛ وهو الأصح . وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء . وقيل : عنى به التطهير عن الأوثان ؛ كما قال تعالى : فاجتنبوا الرجس من الأوثان ؛ وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم - عليه السلام - . وقيل : المعنى نزه بيتي عن أن يعبد فيه صنم . وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه . وقد مضى ما للعلماء في تنزيه المسجد الحرام وغيره من المساجد بما فيه كفاية في سورة ( براءة ) . والقائمون هم المصلون . وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها ، وهو القيام والركوع والسجود .

وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)


قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميقفيه سبع مسائل :الأولى : قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج قرأ جمهور الناس وأذن بتشديد الذال . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن ( وآذن ) بتخفيف الذال ومد الألف . ابن عطية : وتصحف هذا على ابن جني ، فإنه حكى عنهما ( وآذن ) على أنه فعل ماض ، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا على بوأنا . والأذان الإعلام ، وقد تقدم في ( براءة ) .الثانية : لما فرغ إبراهيم - عليه السلام - من بناء البيت ، وقيل له : أذن في الناس بالحج ، قال : يا رب ! وما يبلغ صوتي ؟ قال : أذن وعلي الإبلاغ ؛ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح : يا أيها الناس ! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار ، فحجوا ؛ فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء : لبيك اللهم لبيك ! فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة ؛ إن أجاب مرة فمرة ، وإن أجاب مرتين فمرتين ؛ وجرت التلبية على ذلك ؛ قاله ابن عباس ، وابن جبير . وروي عن أبي الطفيل قال : قال لي ابن عباس : أتدري ما كان أصل التلبية ؟ قلت لا ! قال : لما أمر إبراهيم - عليه السلام - أن يؤذن في الناس بالحج خفضت الجبال رءوسها ورفعت له القرى ؛ فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شيء : لبيك اللهم لبيك . وقيل : إن الخطاب لإبراهيم - عليه السلام - تم عند قوله : ( السجود ) ، ثم خاطب الله - عز وجل - محمدا - عليه الصلاة والسلام - فقال وأذن في الناس بالحج أي أعلمهم أن عليهم الحج . وقول ثالث : إن الخطاب من قوله : أن لا تشرك مخاطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - . وهذا قول أهل النظر ؛ لأن القرآن أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك . وهاهنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أن لا تشرك بي بالتاء ، وهذا مخاطبة لمشاهد ، وإبراهيم - عليه السلام - غائب ، فالمعنى على هذا : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده . وقرأ جمهور الناس ( بالحج ) بفتح الحاء . وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها . وقيل : إن نداء إبراهيم من جملة ما أمر به من شرائع الدين . والله أعلم .الثالثة : قوله تعالى : يأتوك رجالا وعلى كل ضامر وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب ، وإنما قال ( يأتوك ) وإن كانوا يأتون الكعبة لأن المنادي إبراهيم ، فمن أتى الكعبة حاجا فكأنما أتى إبراهيم ؛ لأنه أجاب نداءه ، وفيه تشريف إبراهيم . ابن عطية : ( رجالا ) جمع راجل مثل تاجر وتجار ، وصاحب وصحاب . وقيل : الرجال جمع رجل ، والرجل جمع راجل ؛ مثل تجار وتجر وتاجر ، وصحاب وصحب وصاحب . وقد يقال في الجمع : رجال ، بالتشديد ؛ مثل كافر وكفار . وقرأ ابن أبي إسحاق وعكرمة ( رجالا ) بضم الراء وتخفيف الجيم ، وهو قليل في أبنية الجمع ، ورويت عن مجاهد . وقرأ مجاهد ( رجالى ) على وزن فعالى ؛ فهو مثل كسالى . قال النحاس : في جمع راجل خمسة أوجه ، ورجال مثل ركاب ، وهو الذي روي عن عكرمة ، ورجال مثل قيام ، ورجلة ، ورجل ، ورجالة . والذي روي عن مجاهد رجالا غير معروف ، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كسالى وسكارى ، ولو نون لكان على فعال ، وفعال في الجمع قليل . وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي . وعلى كل ضامر يأتين لأن معنى ( ضامر ) معنى ضوامر . قال الفراء : ويجوز يأتي على اللفظ . والضامر : البعير المهزول الذي أتعبه السفر ؛ يقال : ضمر يضمر ضمورا ؛ فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة . وذكر سبب الضمور فقال : يأتين من كل فج عميق أي أثر فيها طول السفر . ورد الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها ؛ كما قال : والعاديات ضبحا في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله .الرابعة : قال بعضهم : إنما قال ( رجالا ) لأن الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث ؛ فقول ( رجالا ) من قولك : هذا رجل ؛ وهذا فيه بعد ؛ لقوله : وعلى كل ضامر يعني الركبان ، فدخل فيه الرجال والنساء . ولما قال تعالى : ( رجالا ) وبدأ بهم دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب . قال ابن عباس : ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيا ، فإني سمعت الله - عز وجل - يقول : يأتوك رجالا . وقال ابن أبي نجيح : حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين . وقرأ أصحاب ابن مسعود ( يأتون ) وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك ، والضمير للناس .الخامسة : لا خلاف في جواز الركوب والمشي ، واختلفوا في الأفضل منهما ؛ فذهب مالك ، والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل ، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكثرة النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب . وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من المشقة على النفس ، ولحديث أبي سعيد قال : حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة ، وقال : اربطوا أوساطكم بأزركم ومشى خلط الهرولة ؛ خرجه ابن ماجه في سننه . ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل ؛ للاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم .السادسة : استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط . قال مالك في الموازية : لا أسمع للبحر ذكرا ، وهذا تأنس ، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه ؛ وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن ؛ ولا بد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلا وإما على ضامر ؛ فإنما ذكرت حالتا الوصول ؛ وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوي . فأما إذا اقترن به عدو وخوف ، أو هول شديد ، أو مرض يلحق شخصا ، فمالك ، والشافعي ، وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار ، وأنه ليس بسبيل يستطاع . قال ابن عطية : وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاما . ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الأعذار ؛ وهذا ضعيف .قلت : وأضعف من ضعيف ، وقد مضى في ( البقرة ) بيانه . والفج : الطريق الواسعة ، والجمع فجاج . وقد مضى في ( الأنبياء ) . والعميق معناه البعيد . وقراءة الجماعة يأتين . وقرأ أصحاب عبد الله ( يأتون ) وهذا للركبان ويأتين للجمال ؛ كأنه قال : وعلى إبل ضامرة يأتين من كل فج عميق أي بعيد ؛ ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر ؛ ومنه : [ قول رؤبة بن العجاج ] : وقال آخر : [ قيس بن زهير العبسي ] :وقائم الأعماق خاوي المخترق [ مشتبه الأعلام لماع الخفق ]السابعة : واختلفوا في الواصل إلى البيت ، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا ؟ فروى أبو داود قال : سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال : ما كنت أرى أن أحدا يفعل هذا إلا اليهود ، وقد حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم نكن نفعله . وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ترفع الأيدي في سبع مواطن : افتتاح الصلاة ، واستقبال البيت ، والصفا ، والمروة ، والموقفين ، والجمرتين ، . وإلى حديث ابن عباس هذا ذهب الثوري ، وابن المبارك ، وأحمد ، وإسحاق وضعفوا حديث جابر ؛ لأن مهاجرا المكي راويه مجهول . وكان ابن عمر يرفع يديه عند رؤية البيت . وعن ابن عباس مثله .

لِّيَشْهَدُوا۟ مَنَٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا۟ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىٓ أَيَّامٍ مَّعْلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلْأَنْعَٰمِ فَكُلُوا۟ مِنْهَا وَأَطْعِمُوا۟ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ (28)


قوله تعالى : ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقيرفيه تسعة عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : ليشهدوا أي أذن بالحج يأتوك رجالا وركبانا ليشهدوا ؛ أي ليحضروا . والشهود الحضور . منافع لهم أي المناسك ، كعرفات والمشعر الحرام . وقيل : المغفرة . وقيل التجارة . وقيل : هو عموم ؛ أي ليحضروا منافع لهم ، أي ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة ؛ قال مجاهد ، وعطاء ، واختاره ابن العربي : فإنه يجمع ذلك كله من نسك ، وتجارة ، ومغفرة ، ومنفعة دنيا وأخرى . ولا خلاف في أن المراد بقوله : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم التجارة .الثانية : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام قد مضى في ( البقرة ) الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات . والمراد بذكر اسم الله ذكر التسمية عند الذبح والنحر ؛ مثل قولك : باسم الله والله أكبر ، اللهم منك ولك . ومثل قولك عند الذبح إن صلاتي ونسكي الآية . وكان الكفار يذبحون على أسماء أصنامهم ، فبين الرب أن الواجب الذبح على اسم الله ؛ وقد مضى في ( الأنعام ) .الثالثة : واختلف العلماء في وقت الذبح يوم النحر ؛ فقال مالك - رضي الله عنه - : بعد صلاة الإمام وذبحه ؛ إلا أن يؤخر تأخيرا يتعدى فيه فيسقط الاقتداء به . وراعى أبو حنيفة الفراغ من الصلاة دون ذبح . والشافعي : دخول وقت الصلاة ومقدار ما توقع فيه مع الخطبتين ؛ فاعتبر الوقت دون الصلاة ، هذه رواية المزني عنه ، وهو قول الطبري . وذكر الربيع عن البويطي قال : قال الشافعي : ولا يذبح أحد حتى يذبح الإمام إلا أن يكون ممن لا يذبح ، فإذا صلى وفرغ من الخطبة حل الذبح . وهذا كقول مالك . وقال أحمد : إذا انصرف الإمام فاذبح . وهو قول إبراهيم . وأصح هذه الأقوال قول مالك ؛ لحديث جابر بن عبد الله قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر بالمدينة ، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نحر ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان نحر أن يعيد بنحر آخر ، ولا ينحروا حتى ينحر النبي - صلى الله عليه وسلم - خرجه مسلم ، والترمذي ، وقال : وفي الباب عن جابر ، وجندب ، وأنس ، وعويمر بن أشقر ، وابن عمر ، وأبي زيد الأنصاري ، وهذا حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم ألا يضحى بالمصر حتى يصلي الإمام . وقد احتج أبو حنيفة بحديث البراء ، وفيه : ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين . خرجه مسلم أيضا . فعلق الذبح على الصلاة ولم يذكر الذبح ، وحديث جابر يقيده . وكذلك حديث البراء أيضا ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا الحديث . وقال أبو عمر بن عبد البر : لا أعلم خلافا بين العلماء أن من ذبح قبل الصلاة وكان من أهل المصر أنه غير مضح ؛ لقوله - عليه السلام - : من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم .الرابعة : وأما أهل البوادي ومن لا إمام له فمشهور مذهب مالك يتحرى وقت ذبح الإمام ، أو أقرب الأئمة إليه . وقال ربيعة ، وعطاء فيمن لا إمام له : إن ذبح قبل طلوع الشمس لم يجزه ، ويجزيه إن ذبح بعده . وقال أهل الرأي : يجزيهم من بعد الفجر . وهو قول ابن المبارك ، ذكره عنه الترمذي . وتمسكوا بقوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، فأضاف النحر إلى اليوم . وهل اليوم من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس ، قولان . ولا خلاف أنه لا يجزي ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر من يوم النحر .الخامسة : واختلفوا كم أيام النحر ؟ فقال مالك : ثلاثة ، يوم النحر ويومان بعده . وبه قال أبو حنيفة ، والثوري ، وأحمد بن حنبل ، وروي ذلك عن أبي هريرة ، وأنس بن مالك من غير اختلاف عنهما . وقال الشافعي : أربعة ، يوم النحر وثلاثة بعده . وبه قال الأوزاعي ، وروي ذلك عن علي - رضي الله عنه - وابن عباس ، وابن عمر - رضي الله عنهم - ، وروي عنهم أيضا مثل قول مالك ، وأحمد . وقيل : هو يوم النحر خاصة وهو العاشر من ذي الحجة ؛ وروي عن ابن سيرين ، وعن سعيد بن جبير ، وجابر بن زيد أنهما قالا : النحر في الأمصار يوم واحد وفي منى ثلاثة أيام . وعن الحسن البصري في ذلك ثلاث روايات : إحداها كما قال مالك ، والثانية كما قال الشافعي ، والثالثة إلى آخر يوم من ذي الحجة ؛ فإذا أهل هلال المحرم فلا أضحى .قلت : وهو قول سليمان بن يسار ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، ورويا حديثا مرسلا مرفوعا خرجه الدارقطني : الضحايا إلى هلال ذي الحجة ؛ ولم يصح ، ودليلنا قوله تعالى : في أيام معلومات الآية ، وهذا جمع قلة ؛ لكن المتيقن منه الثلاثة ، وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به . قال أبو عمر بن عبد البر : أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى ، وأجمعوا أن لا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة ، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان : أحدهما : قول مالك والكوفيين . والآخر : قول الشافعي ، والشاميين ؛ وهذان القولان مرويان عن الصحابة فلا معنى للاشتغال بما خالفهما ؛ لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ولا في قول الصحابة ، وما خرج عن هذين فمتروك لهما . وقد روي عن قتادة قول سادس ، وهو أن الأضحى يوم النحر وستة أيام بعده ؛ وهذا أيضا خارج عن قول الصحابة فلا معنى له .السادسة : واختلفوا في ليالي النحر هل تدخل مع الأيام فيجوز فيها الذبح أو لا ؟ فروي عن مالك في المشهور أنها لا تدخل فلا يجوز الذبح بالليل . وعليه جمهور أصحابه وأصحاب الرأي ؛ لقوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام فذكر الأيام ، وذكر الأيام دليل على أن الذبح في الليل لا يجوز . وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور : الليالي داخلة في الأيام ويجزي الذبح فيها . وروي عن مالك ، وأشهب نحوه ، ولأشهب تفريق بين الهدي والضحية ، فأجاز الهدي ليلا ولم يجز الضحية ليلا .السابعة : قوله تعالى : على ما رزقهم أي على ذبح ما رزقهم . من بهيمة الأنعام والأنعام هنا الإبل والبقر والغنم . وبهيمة الأنعام هي الأنعام ، فهو كقولك : صلاة الأولى ، ومسجد الجامع .الثامنة : فكلوا منها أمر معناه الندب عند الجمهور . ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق بالأكثر ، مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل . وشذت طائفة فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية . ولقوله - عليه السلام - : فكلوا وادخروا وتصدقوا . قال الكيا : قوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه ولا التصدق بجميعه .التاسعة : دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها . ومشهور مذهب مالك - رضي الله عنه - أنه لا يأكل من ثلاث : جزاء الصيد ، ونذر المساكين ، وفدية الأذى ، ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محله واجبا كان أو تطوعا ، ووافقه على ذلك جماعة من السلف ، وفقهاء الأمصار .العاشرة : فإن أكل مما منع منه فهل يغرم قدر ما أكل أو يغرم هديا كاملا ؛ قولان في مذهبنا ، وبالأول قال ابن الماجشون . قال ابن العربي : وهو الحق ، لا شيء عليه غيره . وكذلك لو نذر هديا للمساكين فيأكل منه بعد أن بلغ محله لا يغرم إلا ما أكل - خلافا للمدونة - لأن النحر قد وقع ، والتعدي إنما هو على اللحم ، فيغرم قدر ما تعدى فيه .قوله تعالى : وليوفوا نذورهم يدل على وجوب إخراج النذر إن كان دما أو هديا أو غيره ، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاء بالنذر ، وكذلك جزاء الصيد وفدية الأذى ؛ لأن المطلوب أن يأتي به كاملا من غير نقص لحم ولا غيره ، فإن أكل من ذلك كان عليه هدي كامل . والله أعلم .الحادية عشرة : هل يغرم قيمة اللحم أو يغرم طعاما ؛ ففي كتاب محمد ، عن عبد الملك أنه يغرم طعاما . والأول أصح ؛ لأن الطعام إنما هو في مقابلة الهدي كله عند تعذره عبادة ، وليس حكم التعدي حكم العبادة .الثانية عشرة : فإن عطب من هذا الهدي المضمون الذي هو جزاء الصيد ، وفدية الأذى ، ونذر المساكين شيء قبل محله أكل منه صاحبه ، وأطعم منه الأغنياء ، والفقراء ، ومن أحب ، ولا يبيع من لحمه ، ولا جلده ، ولا من قلائده شيئا . قال إسماعيل بن إسحاق : لأن الهدي المضمون إذا عطب قبل أن يبلغ محله كان عليه بدله ، ولذلك جاز أن يأكل منه صاحبه ويطعم . فإذا عطب الهدي التطوع قبل أن يبلغ محله لم يجز أن يأكل منه ولا يطعم ؛ لأنه لما لم يكن عليه بدله خيف أن يفعل ذلك بالهدي وينحر من غير أن يعطب ، فاحتيط على الناس ، وبذلك مضى العمل . وروى أبو داود ، عن ناجية الأسلمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معه بهدي ، وقال : إن عطب منها شيء فانحره ، ثم اصبغ نعله في دمه ، ثم خل بينه وبين الناس . وبهذا الحديث قال مالك ، والشافعي في أحد قوليه ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ومن اتبعهم في الهدي التطوع : لا يأكل منها سائقها شيئا ، ويخلى بينها وبين الناس يأكلونها . وفي صحيح مسلم : ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك . وبظاهر هذا النهي قال ابن عباس ، والشافعي في قوله الآخر ، واختاره ابن المنذر ، فقالا : لا يأكل منها ولا أحد من أهل رفقته . قال أبو عمر : قوله - عليه السلام - : ولا يأكل منها أحد ولا أحد من أهل رفقتك لا يوجد إلا في حديث ابن عباس . وليس ذلك في حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ناجية . وهو عندنا أصح من حديث ابن عباس ، وعليه العمل عند الفقهاء . ويدخل في قوله - عليه السلام - : خل بينها وبين الناس أهل رفقته ، وغيرهم . وقال الشافعي ، وأبو ثور : ما كان من الهدي أصله واجبا فلا يأكل منه ، وما كان تطوعا ونسكا أكل منه ، وأهدى ، وادخر ، وتصدق . والمتعة والقران عنده نسك . ونحوه مذهب الأوزاعي . وقال أبو حنيفة وأصحابه : يأكل من هدي المتعة والتطوع ، ولا يأكل مما سوى ذلك مما وجب بحكم الإحرام . وحكي عن مالك : لا يأكل من دم الفساد . وعلى قياس هذا لا يأكل من دم الجبر ؛ كقول الشافعي ، والأوزاعي ، . تمسك مالك بأن جزاء الصيد جعله الله للمساكين بقوله تعالى : أو كفارة طعام مساكين . وقال في فدية الأذى : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك . وقال : صلى الله عليه وسلم - لكعب بن عجرة : أطعم ستة مساكين مدين لكل مسكين ، أو صم ثلاثة أيام ، أو انسك شاة . ونذر المساكين مصرح به ، وأما غير ذلك من الهدايا فهو باق على أصل قوله : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله إلى قوله : فكلوا منها . وقد أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي - رضي الله عنه - من الهدي الذي جاء به وشربا من مرقه . وكان - عليه السلام - قارنا في أصح الأقوال والروايات ؛ فكان هديه على هذا واجبا ، فما تعلق به أبو حنيفة غير صحيح . والله أعلم .وإنما أذن الله سبحانه من الأكل من الهدايا لأجل أن العرب كانت لا ترى أن تأكل من نسكها ، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بمخالفتهم ؛ فلا جرم كذلك شرع وبلغ ، وكذلك فعل حين أهدى وأحرم - صلى الله عليه وسلم - .الثالثة عشرة : فكلوا منها قال بعض العلماء : قوله تعالى : فكلوا منها ناسخ لفعلهم ، لأنهم كانوا يحرمون لحوم الضحايا على أنفسهم ولا يأكلون منها - كما قلناه في الهدايا - فنسخ الله ذلك بقوله : فكلوا منها وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : من ضحى فليأكل من أضحيته ولأنه - عليه السلام - أكل من أضحيته وهديه . وقال الزهري : من السنة أن تأكل أولا من الكبد .الرابعة عشرة : ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث ، ويطعم الثلث ، ويأكل هو وأهله الثلث . وقال ابن القاسم ، عن مالك : ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم موصوف . قال مالك في حديثه : وبلغني عن ابن مسعود ، وليس عليه العمل . روى الصحيح وأبو داود قال : ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة ثم قال : يا ثوبان ، أصلح لحم هذه الشاة قال : فما زلت أطعمه منها حتى قدم المدينة . وهذا نص في الفرض . واختلف قول الشافعي ؛ فمرة قال : يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير فذكر شخصين . وقال مرة : يأكل ثلثا ، ويهدي ثلثا ، ويطعم ثلثا ، لقوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر فذكر ثلاثة .الخامسة عشرة : المسافر يخاطب بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر ؛ إذ الأصل عموم الخطاب بها ، وهو قول كافة العلماء . وخالف في ذلك أبو حنيفة ، والنخعي ، وروي عن علي ؛ والحديث حجة عليهم . واستثنى مالك من المسافرين الحاج بمنى ، فلم ير عليه أضحية ، وبه قال النخعي . وروي ذلك عن الخليفتين أبي بكر ، وعمر ، وجماعة من السلف - رضي الله عنهم - ؛ لأن الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي . فإذا أراد أن يضحي جعله هديا ، والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية ليتشبهوا بأهل منى فيحصل لهم حظ من أجرهم .السادسة عشرة : اختلف العلماء في الادخار على أربعة أقوال . روي عن علي ، وابن عمر - رضي الله عنهما - من وجه صحيح أنه لا يدخر من الضحايا بعد ثلاث . وروياه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسيأتي . وقالت جماعة : ما روي من النهي عن الادخار منسوخ ؛ فيدخر إلى أي وقت أحب . وبه قال أبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي ، وقالت فرقة : يجوز الأكل منها مطلقا . وقالت طائفة : إن كانت بالناس حاجة إليها فلا يدخر ، لأن النهي إنما كان لعلة وهي قوله - عليه السلام - : إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت ولما ارتفعت ارتفع المنع المتقدم لارتفاع موجبه ، لا لأنه منسوخ . وتنشأ هنا مسألة أصولية وهي :السابعة عشرة : وهي الفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه لارتفاع علته . اعلم أن المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدا ، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلة ؛ فلو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى ؛ ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - .الثامنة عشرة : الأحاديث الواردة في هذا الباب بالمنع والإباحة صحاح ثابتة . وقد جاء المنع ، والإباحة معا ؛ كما هو منصوص في حديث عائشة ، وسلمة بن الأكوع ، وأبي سعيد الخدري رواها الصحيح . وروى الصحيح عن أبي عبيد مولى ابن أزهر أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب قال : ثم صليت العيد مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ؛ قال : فصلى لنا قبل الخطبة ثم خطب الناس فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوها . وروي عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث . قال سالم : فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث . وروى أبو داود ، عن نبيشة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنا كنا نهيناكم عن لحومها فوق ثلاث لكي تسعكم جاء الله بالسعة فكلوا ، وادخروا ، واتجروا إلا أن هذه الأيام أيام أكل ، وشرب ، وذكر لله - عز وجل - . قال أبو جعفر النحاس : وهذا القول أحسن ما قيل في هذا حتى تتفق الأحاديث ولا تتضاد ، ويكون قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وعثمان محصور ، لأن الناس كانوا في شدة محتاجين ، ففعل كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدمت الدافة . والدليل على هذا ما حدثنا إبراهيم بن شريك ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا ليث ، قال : حدثني الحارث بن يعقوب ، عن يزيد بن أبي يزيد ، عن امرأته أنها سألت عائشة - رضي الله عنها - عن لحوم الأضاحي ، فقالت : قدم علينا علي بن أبي طالب من سفر فقدمنا إليه منه ، فأبى أن يأكل حتى يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسأله فقال : كل من ذي الحجة إلى ذي الحجة . وقال الشافعي : من قال بالنهي عن الادخار بعد ثلاث لم يسمع الرخصة . ومن قال بالرخصة مطلقا لم يسمع النهي عن الادخار . ومن قال بالنهي والرخصة سمعهما جميعا فعمل بمقتضاهما . والله أعلم . وسيأتي في سورة ( الكوثر ) الاختلاف في وجوب الأضحية ، وندبيتها ، وأنها ناسخة لكل ذبح تقدم ، إن شاء الله تعالى .التاسعة عشرة : قوله تعالى : وأطعموا البائس الفقير الفقير من صفة البائس ، وهو الذي ناله البؤس وشدة الفقر ؛ يقال : بئس يبأس بأسا إذا افتقر ؛ فهو بائس . وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم يكن فقيرا ؛ ومنه قوله - عليه السلام - : ( لكن البائس سعد بن خولة ) . ويقال : رجل بئيس أي شديد . وقد بؤس يبؤس بأسا إذا اشتد ؛ ومنه قوله تعالى : وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس أي شديد . وكلما كان التصدق بلحم الأضحية أكثر كان الأجر أوفر . وفي القدر الذي يجوز أكله خلاف قد ذكرناه ؛ فقيل النصف ؛ لقوله : ( فكلوا ) ، ( وأطعموا ) وقيل الثلثان ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ألا فكلوا ، وادخروا ، واتجروا أي اطلبوا الأجر بالإطعام . واختلف في الأكل والإطعام ؛ فقيل واجبان . وقيل مستحبان . وقيل بالفرق بين الأكل والإطعام ؛ فالأكل مستحب والإطعام واجب ؛ وهو قول الشافعي .

ثُمَّ لْيَقْضُوا۟ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا۟ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا۟ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ (29)


قوله تعالى : ثم ليقضوا تفثهم أي ثم ليقضوا بعد نحر الضحايا والهدايا ما بقي عليهم من أمر الحج ؛ كالحلق ، ورمي الجمار ، وإزالة شعث ، ونحوه . قال ابن عرفة : أي ليزيلوا عنهم أدرانهم . وقال الأزهري : التفث الأخذ من الشارب ، وقص الأظفار ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ؛ وهذا عند الخروج من الإحرام . وقال النضر بن شميل : التفث في كلام العرب إذهاب الشعث وسمعت الأزهري يقول : التفث في كلام العرب لا يعرف إلا من قول ابن عباس ، وأهل التفسير . وقال الحسن : هو إزالة قشف الإحرام . وقيل : التفث مناسك الحج كلها ، رواه ابن عمر ، وابن عباس . قال ابن العربي : لو صح عنهما لكان حجة لشرف الصحبة والإحاطة باللغة ، قال : وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها شعرا ولا أحاطوا بها خبرا ؛ لكني تتبعت التفث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال : إنه قص الأظفار وأخذ الشارب ، وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح . قال : ولم يجيء فيه شعر يحتج به . وقال صاحب العين : التفث هو الرمي ، والحلق ، والتقصير ، والذبح ، وقص الأظفار ، والشارب ، والإبط . وذكر الزجاج ، والفراء نحوه ، ولا أراه أخذوه إلا من قول العلماء . وقال قطرب : تفث الرجل إذا كثر وسخه . قال أمية بن أبي الصلت :حفوا رءوسهم لم يحلقوا تفثا ولم يسلوا لهم قملا وصئباناوما أشار إليه قطرب هو الذي قال ابن وهب ، عن مالك ، وهو الصحيح في التفث . وهذه صورة إلقاء التفث لغة ، وأما حقيقته الشرعية فإذا نحر الحاج ، أو المعتمر هديه ، وحلق رأسه ، وأزال وسخه ، وتطهر ، وتنقى ، ولبس فقد أزال تفثه ، ووفى نذره ؛ والنذر ما لزم الإنسان والتزمه .قلت : ما حكاه عن قطرب وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره الماوردي وذكر بيتا آخر فقال :قضوا تفثا ونحبا ثم ساروا إلى نجد وما انتظروا علياوقال الثعلبي : وأصل التفث في اللغة الوسخ ؛ تقول العرب للرجل تستقذره : ما أتفثك ؛ أي ما أوسخك وأقذرك . قال أمية بن أبي الصلت :ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا وينزعوا عنهم قملا وصئباناالماوردي : قيل لبعض الصلحاء ما المعنى في شعث المحرم ؟ قال : ليشهد الله تعالى منك الإعراض عن العناية بنفسك فيعلم صدقك في بذلها لطاعته .وليوفوا نذورهم أمروا بوفاء النذر مطلقا إلا ما كان معصية ؛ لقوله - عليه السلام - : لا وفاء لنذر في معصية الله ، وقوله : من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه وليطوفوا بالبيت العتيق الطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج . قال الطبري : لا خلاف بين المتأولين في ذلك .للحج ثلاثة أطواف : طواف القدوم ، وطواف الإفاضة ، وطواف الوداع . قال إسماعيل بن إسحاق : طواف القدوم سنة ، وهو ساقط عن المراهق ، وعن المكي ، وعن كل من يحرم بالحج من مكة . قال : والطواف الواجب الذي لا يسقط بوجه من الوجوه ، وهو طواف الإفاضة الذي يكون بعد عرفة ؛ قال الله تعالى : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق . قال : فهذا هو الطواف المفترض في كتاب الله - عز وجل - ، وهو الذي يحل به الحاج من إحرامه كله . قال الحافظ أبو عمر : ما ذكره إسماعيل في طواف الإفاضة هو قول مالك عند أهل المدينة ، وهي رواية ابن وهب ، وابن نافع ، وأشهب عنه . وهو قول جمهور أهل العلم من فقهاء أهل الحجاز ، والعراق . وقد روى ابن القاسم ، وابن عبد الحكم عن مالك أن طواف القدوم واجب . وقال ابن القاسم في غير موضع من المدونة ورواه أيضا عن مالك : الطواف الواجب طواف القادم مكة . وقال : من نسي الطواف في حين دخوله مكة أو نسي شوطا منه ، أو نسي السعي أو شوطا منه حتى رجع إلى بلده ، ثم ذكره ، فإن لم يكن أصاب النساء رجع إلى مكة حتى يطوف بالبيت ، ويركع ، ويسعى بين الصفا والمروة ، ثم يهدي . وإن أصاب النساء رجع ، فطاف وسعى ، ثم اعتمر وأهدى . وهذا كقوله فيمن نسي طواف الإفاضة سواء . فعلى هذه الرواية الطوافان جميعا واجبان ، والسعي أيضا . وأما طواف الصدر وهو المسمى بطواف الوداع فروى ابن القاسم ، وغيره عن مالك فيمن طاف طواف الإفاضة على غير وضوء : أنه يرجع من بلده فيفيض إلا أن يكون تطوع بعد ذلك . وهذا مما أجمع عليه مالك وأصحابه ، وأنه يجزيه تطوعه عن الواجب المفترض عليه من طوافه . وكذلك أجمعوا أن من فعل في حجه شيئا تطوع به من عمل الحج ، وذلك الشيء واجب في الحج قد جاز وقته ، فإن تطوعه ذلك يصير للواجب لا للتطوع ؛ بخلاف الصلاة . فإذا كان التطوع ينوب عن الفرض في الحج كان الطواف لدخول مكة أحرى أن ينوب عن طواف الإفاضة ، إلا ما كان من الطواف بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر أو بعده للوداع . ورواية ابن عبد الحكم عن مالك بخلاف ذلك ؛ لأن فيها أن طواف الدخول مع السعي ينوب عن طواف الإفاضة لمن رجع إلى بلده مع الهدي ، كما ينوب طواف الإفاضة مع السعي لمن لم يطف ولم يسع حين دخوله مكة مع الهدي أيضا عن طواف القدوم . ومن قال هذا قال : إنما قيل لطواف الدخول واجب ولطواف الإفاضة واجب لأن بعضهما ينوب عن بعض ، ولأنه قد روي عن مالك أنه يرجع من نسي أحدهما من بلده على ما ذكرنا ، ولأن الله - عز وجل - لم يفترض على الحاج إلا طوافا واحدا بقوله : وأذن في الناس بالحج ، وقال في سياق الآية : وليطوفوا بالبيت العتيق والواو عندهم في هذه الآية وغيرها لا توجب رتبة إلا بتوقيف . وأسند الطبري ، عن عمرو بن أبي سلمة قال : سألت زهيرا عن قوله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق فقال : هو طواف الوداع . وهذا يدل على أنه واجب ، وهو أحد قولي الشافعي ؛ لأنه - عليه السلام - رخص للحائض أن تنفر دون أن تطوفه ، ولا يرخص إلا في الواجب .اختلف المتأولون في وجه صفة البيت بالعتيق ؛ فقال مجاهد ، والحسن : العتيق القديم . يقال : سيف عتيق ، وقد عتق أي قدم ؛ وهذا قول يعضده النظر . وفي الصحيح أنه أول مسجد وضع في الأرض . وقيل عتيقا لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار بالهوان إلى انقضاء الزمان ؛ قال معناه ابن الزبير ، ومجاهد . وفي الترمذي ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار قال : هذا حديث حسن صحيح ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا . فإن ذكر ذاكر الحجاج بن يوسف ونصبه المنجنيق على الكعبة حتى كسرها قيل له : إنما أعتقها عن كفار الجبابرة ؛ لأنهم إذا أتوا بأنفسهم متمردين ولحرمة البيت غير معتقدين ، وقصدوا الكعبة بالسوء فعصمت منهم ولم تنلها أيديهم ، كان ذلك دلالة على أن الله - عز وجل - صرفهم عنها قسرا . فأما المسلمون الذين اعتقدوا حرمتها فإنهم إن كفوا عنها لم يكن في ذلك من الدلالة على منزلتها عند الله مثل ما يكون منها في كف الأعداء ؛ فقصر الله تعالى هذه الطائفة عن الكف بالنهي والوعيد ، ولم يتجاوزه إلى الصرف بالإلجاء والاضطرار ، وجعل الساعة موعدهم ، والساعة أدهى وأمر . وقالت طائفة : سمي عتيقا لأنه لم يملك موضعه قط . وقالت فرقة : سمي عتيقا لأن الله - عز وجل - يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب . وقيل : سمي عتيقا لأنه أعتق من غرق الطوفان ؛ قال ابن جبير . وقيل : العتيق الكريم . والعتق الكرم . قال طرفة يصف أذن الفرس :مؤللتان تعرف العتق فيهما كسامعتي مذعورة وسط ربربوعتق الرقيق : الخروج من ذل الرق إلى كرم الحرية . ويحتمل أن يكون العتيق صفة مدح تقتضي جودة الشيء ؛ كما قال عمر : حملت على فرس عتيق ؛ الحديث . والقول الأول أصح للنظر والحديث الصحيح . قال مجاهد : خلق الله البيت قبل الأرض بألفي عام ، وسمي عتيقا لهذا ؛ والله أعلم .

ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلْأَنْعَٰمُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱجْتَنِبُوا۟ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلْأَوْثَٰنِ وَٱجْتَنِبُوا۟ قَوْلَ ٱلزُّورِ (30)


قوله تعالى : ( ذلك ) يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير : فرضكم ذلك ، أو الواجب ذلك . ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير : امتثلوا ذلك ؛ ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير :هذا وليس كمن يعيا بخطته وسط الندي إذا ما قائل نطقاوالحرمات المقصودة هنا هي أفعال الحج المشار إليها في قوله : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم ويدخل في ذلك تعظيم المواضع ؛ قاله ابن زيد وغيره . ويجمع ذلك أن تقول : الحرمات امتثال الأمر من فرائضه وسننه . فهو خير له عند ربه أي التعظيم خير له عند ربه من التهاون بشيء منها . وقيل : ذلك التعظيم خير من خيراته ينتفع به ، وليست للتفضيل وإنما هي عدة بخير .قوله تعالى : وأحلت لكم الأنعام أن تأكلوها ؛ وهي الإبل والبقر والغنم . إلا ما يتلى عليكم أي في الكتاب من المحرمات ؛ وهي الميتة والموقوذة وأخواتها . ولهذا اتصال بأمر الحج ؛ فإن في الحج الذبح ، فبين ما يحل ذبحه وأكل لحمه . وقيل : إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم .قوله تعالى : فاجتنبوا الرجس من الأوثان الرجس : الشيء القذر . الوثن : التمثال من خشب ، أو حديد ، أو ذهب ، أو فضة ، ونحوها ، وكانت العرب تنصبها وتعبدها . والنصارى تنصب الصليب وتعبده وتعظمه فهو كالتمثال أيضا . وقال عدي بن حاتم : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب فقال : ألق هذا الوثن عنك أي الصليب ؛ وأصله من وثن الشيء أي أقام في مقامه . وسمي الصنم وثنا لأنه ينصب ويركز في مكان فلا يبرح عنه . يريد اجتنبوا عبادة الأوثان ، روي عن ابن عباس ، وابن جريج . وسماها رجسا لأنها سبب الرجز وهو العذاب . وقيل : وصفها بالرجس ، والرجس النجس فهي نجسة حكما . وليست النجاسة وصفا ذاتيا للأعيان وإنما هي وصف شرعي من أحكام الإيمان ، فلا تزال إلا بالإيمان كما لا تجوز الطهارة إلا بالماء .( من ) في قوله : من الأوثان قيل : إنها لبيان الجنس ، فيقع نهيه عن رجس الأوثان فقط ، ويبقى سائر الأرجاس نهيها في غير هذا الموضع . ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية ؛ فكأنه نهاهم عن الرجس عاما ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم ؛ إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس . ومن قال إن ( من ) للتبعيض قلب معنى الآية وأفسده .قوله تعالى : واجتنبوا قول الزور والزور : الباطل والكذب . وسمي زورا لأنه أميل عن الحق ؛ ومنه تزاور عن كهفهم ، ، ومدينة زوراء ؛ أي مائلة . وكل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزور . وفي الخبر أنه - عليه السلام - قام خطيبا فقال : عدلت شهادة الزور الشرك بالله قالها مرتين أو ثلاثا . يعني أنها قد جمعت مع عبادة الوثن في النهي عنها .هذه الآية تضمنت الوعيد على الشهادة بالزور ، وينبغي للحاكم إذا عثر على الشاهد بالزور أن يعزره وينادي عليه ليعرف لئلا يغتر بشهادته أحد . ويختلف الحكم في شهادته إذا تاب ؛ فإن كان من أهل العدالة المشهور بها المبرز فيها لم تقبل ؛ لأنه لا سبيل إلى علم حاله في التوبة ؛ إذ لا يستطيع أن يفعل من القربات أكثر مما هو عليه . وإن كان دون ذلك فشمر في العبادة وزادت حاله في التقى قبل شهادته . وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن من أكبر الكبائر الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور ، وقول الزور . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت .

الصفحة السابقة الصفحة التالية