تفسير سورة الحج الصفحة 339 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 339 من المصحف


ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فِى جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ (56)


قوله تعالى : الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيمقوله تعالى : الملك يومئذ لله يحكم بينهم يعني يوم القيامة هو لله وحده لا منازع له فيه ولا مدافع . والملك هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور . ثم بين حكمه فقال : فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين .قلت : وقد يحتمل أن تكون الإشارة ب ( يومئذ ) ليوم بدر ، وقد حكم فيه بإهلاك الكافر وسعادة المؤمن ؛ وقد قال : عليه السلام - لعمر : وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .

وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَكَذَّبُوا۟ بِـَٔايَٰتِنَا فَأُو۟لَٰٓئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (57)



وَٱلَّذِينَ هَاجَرُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوٓا۟ أَوْ مَاتُوا۟ لَيَرْزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ (58)


قوله تعالى : والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقينأفرد ذكر المهاجرين الذين ماتوا وقتلوا تفضيلا لهم وتشريفا على سائر الموتى .وسبب نزول هذه الآية أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون ، وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس : من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه ؛ فنزلت هذه الآية مسوية بينهم ، وأن الله يرزق جميعهم رزقا حسنا . وظاهر الشريعة يدل على أن المقتول أفضل . وقد قال بعض أهل العلم : إن المقتول في سبيل الله والميت في سبيل الله شهيد ؛ ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله . وقال بعضهم : هما سواء ، واحتج بالآية ، وبقوله تعالى : ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ، وبحديث أم حرام ؛ فإنها صرعت عن دابتها فماتت ولم تقتل فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنت من الأولين ، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عتيك : من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله فخر عن دابته فمات ، أو لدغته حية فمات ، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله ، ومن مات قعصا فقد استوجب المآب . وذكر ابن المبارك ، عن فضالة بن عبيد في حديث ذكر فيه رجلين أحدهما أصيب في غزاة بمنجنيق فمات ، والآخر مات هناك ؛ فجلس فضالة عند الميت ، فقيل له : تركت الشهيد ولم تجلس عنده ؟ فقال : ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت ؛ ثم تلا قوله تعالى : والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا الآية كلها . وقال سليمان بن عامر : كان فضالة برودس أميرا على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل والآخر متوفى ؛ فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته ؛ فقال : أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل ! فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت ، اقرءوا قوله تعالى : والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا . كذا ذكره الثعلبي في تفسيره ، وهو معنى ما ذكره ابن المبارك . واحتج من قال : إن للمقتول زيادة فضل بما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي الجهاد أفضل ؟ قال : من أهريق دمه وعقر جواده . وإذا كان من أهريق دمه وعقر جواده أفضل الشهداء علم أنه من لم يكن بتلك الصفة مفضول . قرأ ابن عامر ، وأهل الشام ( قتلوا ) بالتشديد على التكثير . الباقون بالتخفيف .

لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُۥ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)


ليدخلنهم مدخلا يرضونه أي الجنان . قراءة أهل المدينة ( مدخلا ) بفتح الميم ؛ أي دخولا . وضمها الباقون ، وقد مضى في ( سبحان ) . وإن الله لعليم حليم قال ابن عباس : عليم بنياتهم ، حليم عن عقابهم .

ذَٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِۦ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)


قوله تعالى : ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفورقوله تعالى : ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ( ذلك ) في موضع رفع ؛ أي ذلك الأمر الذي قصصنا عليك . قال مقاتل : نزلت في قوم من مشركي مكة لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا : إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم ؛ فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام ؛ فأبى المشركون إلا القتال ، فحملوا عليهم فثبت المسلمون ونصرهم الله على المشركين ؛ وحصل في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام شيء ؛ فنزلت هذه الآية . وقيل : نزلت في قوم من المشركين ، مثلوا بقوم من المسلمين قتلوهم يوم أحد فعاقبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثله . فمعنى من عاقب بمثل ما عوقب به أي من جازى الظالم بمثل ما ظلمه ؛ فسمى جزاء العقوبة عقوبة لاستواء الفعلين في الصورة ؛ فهو مثل وجزاء سيئة سيئة مثلها . ومثل فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم . وقد تقدم . ثم بغي عليه أي بالكلام والإزعاج من وطنه ؛ وذلك أن المشركين كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به وأخرجوه وأخرجوهم من مكة ، وظاهروا على إخراجهم . لينصرنه الله أي لينصرن الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ؛ فإن الكفار بغوا عليهم . إن الله لعفو غفور أي عفا عن المؤمنين ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام وستر .

ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌۢ بَصِيرٌ (61)


قوله تعالى : ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصيرقوله تعالى : ذلك بأن الله يولج الليل في النهار أي ذلك الذي قصصت عليك من نصر المظلوم هو بأني أنا الذي أولج الليل في النهار فلا يقدر أحد على ما أقدر عليه ؛ أي من قدر على هذا قدر على أن ينصر عبده . وقد مضى في ( آل عمران ) معنى يولج الليل في النهار .وأن الله سميع بصير يسمع الأقوال ويبصر الأفعال ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة ولا دبيب نملة إلا يعلمها ويسمعها ويبصرها .

ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِۦ هُوَ ٱلْبَٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ (62)


قوله تعالى : ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير ذلك بأن الله هو الحق أي ذو الحق ؛ فدينه الحق وعبادته حق . والمؤمنون يستحقون منه النصر بحكم وعده الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل أي الأصنام التي لا استحقاق لها في العبادات . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو بكر ( وأن ما تدعون ) بالتاء على الخطاب ، واختاره أبو حاتم . الباقون بالياء على الخبر هنا وفي لقمان ، واختاره أبو عبيد . وأن الله هو العلي أي العالي على كل شيء بقدرته ، والعالي عن الأشباه والأنداد ، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله . ( الكبير ) أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن . وقيل : الكبير ذو الكبرياء . والكبرياء عبارة عن كمال الذات ؛ أي له الوجود المطلق أبدا وأزلا ، فهو الأول القديم ، والآخر الباقي بعد فناء خلقه .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ ٱلْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)


قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبيرقوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة دليل على كمال قدرته ؛ أي من قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت ؛ كما قال الله - عز وجل - : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . ومثله كثير . ( فتصبح ) ليس بجواب فيكون منصوبا ، وإنما هو خبر عند الخليل وسيبويه . قال الخليل : المعنى انتبه ! أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا ؛ كما قال [ جميل بن عبد الله ] :ألم تسأل الربع القواء فينطق وهل تخبرنك اليوم بيداء سملقمعناه قد سألته فنطق . وقيل استفهام تحقيق ؛ أي قد رأيت ، فتأمل كيف تصبح ! أو عطف لأن المعنى ألم تر أن الله ينزل . وقال الفراء : ( ألم تر ) خبر ؛ كما تقول في الكلام : اعلم أن الله - عز وجل - ينزل من السماء ماء . فتصبح الأرض مخضرة أي ذات خضرة ؛ كما تقول : مبقلة ومسبعة ؛ أي ذات بقل وسباع . وهو عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة . قال ابن عطية : وروي عن عكرمة أنه قال : هذا لا يكون إلا بمكة وتهامة . ومعنى هذا : أنه أخذ قوله : ( فتصبح ) مقصودا به صباح ليلة المطر وذهب إلى أن ذلك الاخضرار يتأخر في سائر البلاد ، وقد شاهدت هذا السوس الأقصى نزل المطر ليلا بعد قحط أصبحت تلك الأرض الرملة التي نسفتها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف رقيق . إن الله لطيف خبير قال ابن عباس : ( خبير ) بما ينطوي عليه العبد من القنوط عند تأخير المطر . ( لطيف ) بأرزاق عباده . وقيل : لطيف باستخراج النبات من الأرض ، خبير بحاجتهم وفاقتهم .

لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ (64)


قوله تعالى : له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميدقوله تعالى : له ما في السماوات وما في الأرض خلقا وملكا ؛ وكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه . وإن الله لهو الغني الحميد فلا يحتاج إلى شيء ، وهو المحمود في كل حال .

الصفحة السابقة الصفحة التالية