تفسير سورة النمل الصفحة 377 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 377 من المصحف


بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ طسٓ تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ (1)


مكية كلها في قول الجميع ، وهي ثلاث وتسعون آية . وقيل : أربع وتسعون آية .قوله تعالى : طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين مضى الكلام في الحروف المقطعة في ( البقرة ) وغيرها . و ( تلك ) بمعنى هذه ; أي هذه السورة آيات القرآن وآيات كتاب مبين . وذكر القرآن بلفظ المعرفة ، وقال : وكتاب مبين بلفظ النكرة وهما في معنى المعرفة ; كما تقول : فلان رجل عاقل وفلان الرجل العاقل . والكتاب هو القرآن ، فجمع له بين الصفتين : بأنه قرآن وأنه كتاب ; لأنه ما يظهر بالكتابة ، ويظهر بالقراءة . وقد مضى اشتقاقهما في ( البقرة ) . وقال في سورة الحجر : الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين فأخرج الكتاب بلفظ المعرفة والقرآن بلفظ النكرة ; وذلك لأن القرآن والكتاب اسمان يصلح لكل واحد منهما أن يجعل معرفة ، وأن يجعل صفة . ووصفه بالمبين لأنه بين فيه أمره ونهيه وحلاله وحرامه ووعده ووعيده ; وقد تقدم .

هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (2)


قوله تعالى : هدى وبشرى للمؤمنين ( هدى ) في موضع نصب على الحال من " الكتاب " أي تلك آيات الكتاب هادية ومبشرة . ويجوز فيه الرفع على الابتداء ; أي هو هدى . وإن شئت على حذف حرف الصفة ; أي فيه هدى . ويجوز أن يكون الخبر : " للمؤمنين "

ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلْءَاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)


ثم وصفهم فقال :الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون وقد مضى في أول ( البقرة ) بيان هذا .

إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْءَاخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَٰلَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)


قوله تعالى : إن الذين لا يؤمنون بالآخرة أي لا يصدقون بالبعث . زينا لهم أعمالهم قيل : أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة . وقيل : زينا لهم أعمالهم الحسنة فلم يعملوها . وقال الزجاج : جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه . فهم يعمهون أي يترددون في أعمالهم الخبيثة ، وفي ضلالتهم . عن ابن عباس . أبو العالية : يتمادون . قتادة : يلعبون . الحسن : يتحيرون ; قال الراجز [ رؤبة ] :ومهمه أطرافه في مهمه وعمى الهدى بالحائرين العمه

أُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَهُمْ سُوٓءُ ٱلْعَذَابِ وَهُمْ فِى ٱلْءَاخِرَةِ هُمُ ٱلْأَخْسَرُونَ (5)


قوله تعالى : أولئك الذين لهم سوء العذاب وهو جهنم . وهم في الآخرة هم الأخسرون في الآخرة تبيين وليس بمتعلق بالأخسرين فإن من الناس من خسر الدنيا وربح الآخرة ، وهؤلاء خسروا الآخرة بكفرهم فهم أخسر كل خاسر .

وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْءَانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)


قوله تعالى : وإنك لتلقى القرآن أي يلقى عليك فتلقاه وتعلمه وتأخذه . من لدن حكيم عليم " لدن " بمعنى " عند " إلا أنها مبنية غير معربة ، لأنها لا تتمكن ، وفيها لغات ذكرت في ( الكهف ) . وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص ، وما في ذلك من لطائف حكمته ، ودقائق علمه .

إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهْلِهِۦٓ إِنِّىٓ ءَانَسْتُ نَارًا سَـَٔاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ ءَاتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)


قوله تعالى : إذ قال موسى لأهله ( إذ ) منصوب بمضمر وهو " اذكر " كأنه قال على أثر قوله . وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم : خذ يا محمد من آثار حكمته وعلمه قصة موسى إذ قال لأهله . إني آنست نارا أي أبصرتها من بعد . قال الحرث بن حلزة :آنست نبأة وأفزعها القن ناص عصرا وقد دنا الإمساءسآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون قرأ عاصم وحمزة والكسائي : بشهاب قبس بتنوين " شهاب " . والباقون بغير تنوين على الإضافة ; أي بشعلة نار ; واختاره أبو عبيد وأبو حاتم . وزعم الفراء في ترك التنوين أنه بمنزلة قولهم : ولدار الآخرة ، ومسجد الجامع ، وصلاة الأولى ; يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلفت أسماؤه . قال النحاس : إضافة الشيء إلى نفسه محال عند البصريين ، لأن معنى الإضافة في اللغة ضم شيء إلى شيء فمحال أن يضم الشيء إلى نفسه ، وإنما يضاف الشيء إلى الشيء ليتبين به معنى الملك أو النوع ، فمحال أن يتبين أنه مالك نفسه أو من نوعها . و " شهاب قبس " إضافة النوع والجنس ، كما تقول : هذا ثوب خز ، وخاتم حديد وشبهه . والشهاب كل ذي نور ; نحو الكوكب والعود الموقد . والقبس اسم لما يقتبس من جمر وما أشبهه ; فالمعنى بشهاب من قبس . يقال . أقبست قبسا ; والاسم قبس . كما تقول : قبضت قبضا . والاسم القبض . ومن قرأ : بشهاب قبس جعله بدلا منه . المهدوي : أو صفة له ; لأن القبس يجوز أن يكون اسما غير صفة ، ويجوز أن يكون صفة ; فأما كونه غير صفة فلأنهم قالوا قبسته أقبسه قبسا والقبس المقبوس ; وإذا كان صفة فالأحسن أن يكون نعتا . والإضافة فيه إذا كان غير صفة أحسن . وهي إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة وشبهه . ولو قرئ بنصب " قبس " على البيان أو الحال كان أحسن . ويجوز في غير القرآن " بشهاب قبسا " على أنه مصدر أو بيان أو حال . لعلكم تصطلون أصل الطاء تاء فأبدل منها هنا طاء ; لأن الطاء مطبقة والصاد مطبقة فكان الجمع بينهما حسنا ، ومعناه يستدفئون من البرد . يقال : اصطلى يصطلي : إذا استدفأ . قال الشاعر :النار فاكهة الشتاء فمن يرد أكل الفواكه شاتيا فليصطلالزجاج : كل أبيض ذي نور فهو شهاب . أبو عبيدة : الشهاب النار . قال أبو النجم :كأنما كان شهابا واقدا أضاء ضوءا ثم صار خامداأحمد بن يحيى : أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة والآخر لا نار فيه ; وقول النحاس فيه حسن ، والشهاب الشعاع المضيء ومنه الكوكب الذي يمد ضوءه في السماء . وقال الشاعر :في كفه صعدة مثقفة فيها سنان كشعلة القبس

فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِىَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِى ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ (8)


قوله تعالى : فلما جاءها نودي أي فلما جاء موسى الذي ظن أنه نار وهي نور ; قاله وهب بن منبه . فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها ، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق ، لا تزداد النار إلا عظما وتضرما ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا ; فعجب منها وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها ; فمالت إليه ; فخافها فتأخر عنها ; ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضح أمرها على أنها مأمورة لا يدري من أمرها ، إلى أن نودي أن بورك من في النار ومن حولها . وقد مضى هذا المعنى في ( طه ) . ( نودي ) أي ناداه الله ; كما قال : وناديناه من جانب الطور الأيمن . أن بورك قال الزجاج : " أن " في موضع نصب ; أي : بأنه قال . ويجوز أن تكون في موضع رفع جعلها اسم ما لم يسم فاعله . وحكى أبو حاتم أن في قراءة أبي وابن عباس ومجاهد ( أن بوركت النار ومن حولها ) . قال النحاس : ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح ، ولو صح لكان على التفسير ، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها : الملائكة وموسى . وحكى الكسائي عن العرب : باركك الله ، وبارك فيك . الثعلبي : العرب تقول باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك ، أربع لغات . قال الشاعر :فبوركت مولودا وبوركت ناشئا وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيبالطبري : قال بورك من في النار ولم يقل بورك في من في النار على لغة من يقول باركك الله . ويقال باركه الله ، وبارك له ، وبارك عليه ، وبارك فيه بمعنى ; أي بورك على من في النار وهو موسى ، أو على من في قرب النار ; لا أنه كان في وسطها . وقال السدي : كان في النار ملائكة فالتبريك عائد إلى موسى والملائكة ; أي بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين هم حولها . وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له ، كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه ; قال : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت . وقول ثالث قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير : قدس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى ، عنى به نفسه تقدس وتعالى . قال ابن عباس ومحمد بن كعب : النار نور الله عز وجل ; نادى الله موسى وهو في النور ; وتأويل هذا أن موسى عليه السلام رأى نورا عظيما فظنه نارا ; وهذا لأن الله تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار لا أنه يتحيز في جهة وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله لا أنه يتحيز فيهما ، ولكن يظهر في كل فعل فيعلم به وجود الفاعل . وقيل على هذا : أي بورك من في النار سلطانه وقدرته . وقيل : أي بورك ما في النار من أمر الله تعالى الذي جعله علامة .قلت : ومما يدل على صحة قول ابن عباس ما خرجه مسلم في صحيحه ، وابن ماجه في سننه واللفظ له عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ، حجابه النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ثم قرأ أبو عبيدة : أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين أخرجه البيهقي أيضا . ولفظ مسلم عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات ; فقال : إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور - وفي رواية أبي بكر النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه قال أبو عبيد : يقال السبحات إنها جلال وجهه ، ومنها قيل : سبحان الله ، إنما هو تعظيم له وتنزيه . وقوله : ( لو كشفها ) يعني لو رفع الحجاب عن أعينهم ولم يثبتهم لرؤيته لاحترقوا وما استطاعوا لها . قال ابن جريج : النار حجاب من الحجب وهي سبعة حجب ; حجاب العزة ، وحجاب الملك ، وحجاب السلطان ، وحجاب النار ، وحجاب النور ، وحجاب الغمام ، وحجاب الماء . وبالحقيقة فالمخلوق المحجوب والله لا يحجبه شيء ; فكانت النار نورا وإنما ذكره بلفظ النار ; لأن موسى حسبه نارا ، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر . وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها فأسمعه تعالى كلامه من ناحيتها ، وأظهر له ربوبيته من جهتها . وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة : ( جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من جبال فاران ) . فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها ، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها ، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم ، وفاران مكة . وسيأتي في ( القصص ) بإسماعه سبحانه كلامه من الشجرة زيادة بيان إن شاء الله تعالى .قوله تعالى : وسبحان الله رب العالمين تنزيها وتقديسا لله رب العالمين . وقد تقدم في غير موضع ، والمعنى : أي يقول من حولها : وسبحان الله فحذف . وقيل : إن موسى عليه السلام قاله حين فرغ من سماع النداء ; استعانة بالله تعالى وتنزيها له ; قاله السدي . وقيل : هو من قول الله تعالى . ومعناه : وبورك فيمن سبح الله تعالى رب العالمين ; حكاه ابن شجرة .

يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّهُۥٓ أَنَا ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ (9)


قوله تعالى : يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم الهاء عماد وليست بكناية في قول الكوفيين . والصحيح أنها كناية عن الأمر والشأن . إنه أنا الله العزيز الغالب الذي ليس كمثله شيء ، الحكيم في أمره وفعله . وقيل : قال موسى يا رب من الذي نادى ؟ فقال له : " إنه " أي إني أنا المنادي لك أنا الله .

وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَٰمُوسَىٰ لَا تَخَفْ إِنِّى لَا يَخَافُ لَدَىَّ ٱلْمُرْسَلُونَ (10)


قوله تعالى : وألق عصاك قال وهب بن منبه : ظن موسى أن الله أمره أن يرفضها فرفضها وقيل : إنما قال له ذلك ليعلم موسى أن المكلم له هو الله ، وأن موسى رسوله ; وكل نبي لا بد له من آية في نفسه يعلم بها نبوته . وفي الآية حذف : أي وألق عصاك فألقاها من يده فصارت حية تهتز كأنها جان ، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم . وقال الكلبي : لا صغيرة ولا كبيرة . وقيل : إنها قلبت له أولا حية صغيرة فلما أنس منها قلبت حية كبيرة . وقيل : انقلبت مرة حية صغيرة ، ومرة حية تسعى وهي الأنثى ، ومرة ثعبانا وهو الذكر الكبير من الحيات . وقيل : المعنى انقلبت ثعبانا تهتز كأنها جان ، لها عظم الثعبان وخفة الجان واهتزازه ، وهي حية تسعى . وجمع الجان جنان ; ومنه الحديث ( نهى عن قتل الجنان التي في البيوت ) .ولى مدبرا خائفا على عادة البشر ولم يعقب أي لم يرجع ; قاله مجاهد . وقال قتادة : لم يلتفت . يا موسى لا تخف أي من الحية وضررها . إني لا يخاف لدي وتم الكلام

إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًۢا بَعْدَ سُوٓءٍ فَإِنِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ (11)


ثم استثنى استثناء منقطعا فقال : إلا من ظلم وقيل : إنه استثناء من محذوف ; والمعنى : إني لا يخاف لدي المرسلون وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنه لا يخاف ; قاله الفراء . قال النحاس : الاستثناء من محذوف محال ; لأنه استثناء من شيء لم يذكر ولو جاز هذا لجاز إني لأضرب القوم إلا زيدا بمعنى إني لا أضرب القوم وإنما أضرب غيرهم إلا زيدا ; وهذا ضد البيان ، والمجيء بما لا يعرف معناه . وزعم الفراء أيضا أن بعض النحويين يجعل " إلا " بمعنى الواو أي ولا من ظلم ; قال :وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدانقال النحاس : وكون ( إلا ) بمعنى الواو لا وجه له ولا يجوز في شيء من الكلام ، ومعنى ( إلا ) خلاف الواو ; لأنك إذا قلت : جاءني إخوتك إلا زيدا أخرجت زيدا مما دخل فيه الإخوة فلا نسبة بينهما ولا تقارب . وفي الآية قول آخر : وهو أن يكون الاستثناء متصلا ; والمعنى : إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد ، سوى ما روي عن يحيى بن زكريا عليه السلام ، وما ذكره الله تعالى في نبينا عليه السلام في قوله : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ذكره المهدوي واختاره النحاس ; وقال : علم الله من عصى منهم يسر الخيفة فاستثناه فقال : إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنه يخاف وإن كنت قد غفرت له .الضحاك : يعني آدم وداود عليهما السلام الزمخشري . كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف ، ومن موسى عليه السلام بوكزه القبطي . فإن قال قائل : فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة ؟ قيل له : هذه سبيل العلماء بالله عز وجل أن يكونوا خائفين من معاصيهم وجلين ، وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به ، فهم يخافون من المطالبة به . وقال الحسن وابن جريج : قال الله لموسى إني أخفتك لقتلك النفس . قال الحسن : وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب . قال الثعلبي والقشيري والماوردي وغيرهم : فالاستثناء على هذا صحيح ; أي إلا من ظلم نفسه من النبيين والمرسلين فيما فعل من صغيرة قبل النبوة . وكان موسى خاف من قتل القبطي وتاب منه . وقد قيل : إنهم بعد النبوة معصومون من الصغائر والكبائر . وقد مضى هذا في ( البقرة ) .قلت : والأول أصح لتنصلهم من ذلك في القيامة كما في حديث الشفاعة ، وإذا أحدث المقرب حدثا فهو ، وإن غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باق ، وما دام الأثر والتهمة قائمة فالخوف كائن ، لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة ، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة . وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني ، ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه ، ثم غفر له ، ثم قال بعد المغفرة : رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ثم ابتلي من الغد بالفرعوني الآخر وأراد أن يبطش به ، فصار حدثا آخر بهذه الإرادة . وإنما ابتلي من الغد لقوله : فلن أكون ظهيرا للمجرمين وتلك كلمة اقتدار من قوله لن أفعل ، فعوقب بالإرادة حين أراد أن يبطش ولم يفعل ، فسلط عليه الإسرائيلي حتى أفشى سره ; لأن الإسرائيلي لما رآه تشمر للبطش ظن أنه يريده ، فأفشى عليه ف قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس فهرب الفرعوني وأخبر فرعون بما أفشى الإسرائيلي على موسى ، وكان القتيل بالأمس مكتوما أمره لا يدرى من قتله ، فلما علم فرعون بذلك ، وجه في طلب موسى ليقتله ، واشتد الطلب وأخذوا مجامع الطرق ; جاء رجل يسعى ف قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك الآية . فخرج كما أخبر الله . فخوف موسى إنما كان من أجل هذا الحدث ; فهو وإن قربه ربه وأكرمه واصطفاه بالكلام فالتهمة الباقية ولت به ولم يعقب .

وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوٓءٍ فِى تِسْعِ ءَايَٰتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِۦٓ إِنَّهُمْ كَانُوا۟ قَوْمًا فَٰسِقِينَ (12)


قوله تعالى : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء تقدم في ( طه ) القول فيه . في تسع آيات قال النحاس أحسن ما قيل فيه أن المعنى : هذه الآية داخلة في تسع آيات . المهدوي : المعنى : ألق عصاك وأدخل يدك في جيبك فهما آيتان من تسع آيات . وقال القشيري معناه : كما تقول خرجت في عشرة نفر وأنت أحدهم . أي خرجت عاشر عشرة . ف ( في ) بمعنى ( من ) لقربها منها كما تقول خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان أي منها . وقال الأصمعي في قول امرئ القيس :وهل ينعمن من كان آخر عهده ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال" في " بمعنى " من " . وقيل : " في " بمعنى " مع " فالآيات عشرة منها اليد ، والتسع : الفلق والعصا والجراد والقمل والطوفان والدم والضفادع والسنين والطمس . وقد تقدم بيان جميعه . إلى فرعون وقومه قال الفراء : في الكلام إضمار لدلالة الكلام عليه ، أي إنك مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه . إنهم كانوا قوما فاسقين أي خارجين عن طاعة الله ; وقد تقدم .

فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَٰتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا۟ هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (13)


قوله تعالى : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة أي واضحة بينة . قال الأخفش : ويجوز " مبصرة " وهو مصدر كما يقال : الولد مجبنة . قالوا هذا سحر مبين جروا على عادتهم في التكذيب فلهذا قال :

الصفحة التالية