تفسير سورة القصص الصفحة 389 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 389 من المصحف


فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِۦٓ ءَانَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ ٱمْكُثُوٓا۟ إِنِّىٓ ءَانَسْتُ نَارًا لَّعَلِّىٓ ءَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)


قوله تعالى : فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون .فيه ثلاث مسائل :الأولى : قوله تعالى : فلما قضى موسى الأجل قال سعيد بن جبير : سألني رجل من النصارى أي الأجلين قضى موسى فقلت : لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله - يعني ابن عباس - فقدمت عليه فسألته ; فقال : قضى أكملهما وأوفاهما . فأعلمت النصراني فقال : صدق والله هذا العالم وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل في ذلك جبريل فأخبره أنه قضى عشر سنين وحكى الطبري عن مجاهد أنه قضى عشرا وعشرا بعدها ; رواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال ابن عطية : وهذا ضعيف .الثانية : قوله تعالى : وسار بأهله قيل : فيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء ، لما له عليها من فضل القوامية وزيادة الدرجة إلا أن يلتزم لها أمرا ، فالمؤمنون عند شروطهم ، وأحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج .الثالثة : قوله تعالى : آنس من جانب الطور نارا الآية . تقدم القول في ذلك في ( طه ) . والجذوة بكسر الجيم قراءة العامة ، وضمها حمزة ويحيى ، وفتحها عاصم والسلمي وزر بن حبيش قال الجوهري : الجذوة والجذوة والجذوة : الجمرة الملتهبة والجمع جذا وجذا وجذا . قال مجاهد في قوله تعالى : أو جذوة من النار أي قطعة من الجمر ; قال : وهي بلغة جميع العرب ، وقال أبو عبيدة : والجذوة مثل الجذمة وهي القطعة الغليظة من الخشب كان في طرفها نار أو لم يكن . قال ابن مقبل :باتت حواطب ليلى يلتمسن لها جزل الجذا غير خوار ولا دعروقال :وألقى على قيس من النار جذوة شديدا عليها حميها ولهيبها

فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِىَ مِن شَٰطِئِ ٱلْوَادِ ٱلْأَيْمَنِ فِى ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَٰرَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّىٓ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ (30)


قوله تعالى : فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين .قوله تعالى : فلما أتاها يعني الشجرة قدم ضميرها عليها نودي من شاطئ الوادي ( من ) الأولى والثانية لابتداء الغاية ، أي أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة و ( من الشجرة ) بدل من قوله : من شاطئ الوادي بدل الاشتمال ، لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ ، وشاطئ الوادي وشطه : جانبه ، والجمع شطان وشواطئ ، وذكره القشيري ، وقال الجوهري : ويقال شاطئ الأودية ، ولا يجمع ، وشاطأت الرجل إذا مشيت على شاطئ ومشى هو على شاطئ آخر ( الأيمن ) أي عن يمين موسى وقيل : عن يمين الجبل ( في البقعة المباركة ) من الشجرة وقرأ الأشهب العقيلي : ( في البقعة ) بفتح الباء وقولهم ( بقاع ) يدل على بقعة ، كما يقال جفنة وجفان ومن قال : بقعة ، قال : بقع ، مثل غرفة وغرف . من الشجرة أي من ناحية الشجرة . قيل : كانت شجرة العليق . وقيل : سمرة . وقيل : عوسج ومنها كانت عصاه ، ذكره الزمخشري وقيل : عناب ، والعوسج إذا عظم يقال له : الغرقد .وفي الحديث : إنه من شجر اليهود فإذا نزل عيسى وقتل اليهود الذين مع الدجال فلا يختفي أحد منهم خلف شجرة إلا نطقت وقالت : يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود فلا ينطق خرجه مسلم قال المهدوي : وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء ولا يجوز أن يوصف الحق تعالى بالانتقال والزوال وشبه ذلك من صفات المخلوقين قال أبو المعالي : وأهل المعاني وأهل الحق يقولون : من كلمه الله تعالى وخصه بالرتبة العليا والغاية القصوى ، فيدرك كلامه القديم المتقدم عن مشابهة الحروف والأصوات والعبارات والنغمات وضروب اللغات ، كما أن من خصه الله بمنازل الكرامات وأكمل عليه نعمته ، ورزقه رؤيته يرى الله سبحانه منزها عن مماثلة الأجسام وأحكام الحوادث ، ولا مثل له سبحانه في ذاته وصفاته ، وأجمعت الأمة على أن الرب تعالى خصص موسى عليه السلام وغيره من المصطفين من الملائكة بكلامه قال الأستاذ أبو إسحاق : اتفق أهل الحق على أن الله تعالى خلق في موسى عليه السلام معنى من المعاني أدرك به كلامه كان اختصاصه في سماعه ، وأنه قادر على مثله في جميع خلقه . واختلفوا في نبينا عليه السلام هل سمع ليلة الإسراء كلام الله ، وهل سمع جبريل كلامه على قولين ; وطريق أحدهما النقل المقطوع به ، وذلك مفقود ، واتفقوا على أن سماع الخلق له عند قراءة القرآن على معنى أنهم سمعوا العبارة التي عرفوا بها معناه دون سماعه له في عينه . وقال عبد الله بن سعد بن كلاب : إن موسى عليه السلام فهم كلام الله القديم من أصوات مخلوقة أثبتها الله تعالى في بعض الأجسام . قال أبو المعالي : وهذا مردود ; بل يجب اختصاص موسى عليه السلام بإدراك كلام الله تعالى خرقا للعادة ، ولو لم يقل ذلك لم يكن لموسى عليه السلام اختصاص بتكليم الله إياه ، والرب تعالى أسمعه كلامه العزيز ، وخلق له علما ضروريا ، حتى علم أن ما سمعه كلام الله ، وأن الذي كلمه وناداه هو الله رب العالمين ، وقد ورد في الأقاصيص أن موسى عليه السلام قال : سمعت كلام ربي بجميع جوارحي ، ولم أسمعه من جهة واحدة من جهاتي وقد مضى هذا المعنى في ( البقرة ) مستوفى أن يا موسى ( أن ) في موضع نصب بحذف حرف الجر أي ب ( أن يا موسى ) . إني أنا الله رب العالمين نفي لربوبية غيره سبحانه ، وصار بهذا الكلام من أصفياء الله عز وجل لا من رسله ; لأنه لا يصير رسولا إلا بعد أمره بالرسالة ، والأمر بها إنما كان بعد هذا الكلام .

وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَٰمُوسَىٰٓ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلْءَامِنِينَ (31)


قوله تعالى : وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين .قوله تعالى : وأن ألق عصاك عطف على ( أن يا موسى ) وتقدم الكلام في هذا في ( النمل ) و ( طه ) . و ( مدبرا ) نصب على الحال وكذلك موضع قوله : ( ولم يعقب ) نصب على الحال أيضا . يا موسى أقبل ولا تخف . قال وهب : قيل له ارجع إلى حيث كنت فرجع فلف دراعته على يده ، فقال له الملك : أرأيت إن أراد الله أن يصيبك بما تحاذر أينفعك لفك يدك ؟ قال : لا ولكني ضعيف خلقت من ضعف . وكشف يده فأدخلها في فم الحية فعادت عصا إنك من الآمنين أي مما تحاذر .

ٱسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوٓءٍ وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ فَذَٰنِكَ بُرْهَٰنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِي۟هِۦٓ إِنَّهُمْ كَانُوا۟ قَوْمًا فَٰسِقِينَ (32)


قوله تعالى : اسلك يدك في جيبك الآية . تقدم القول فيه . واضمم إليك جناحك من الرهب ( من ) متعلقة ب ( ولى ) أي ولى مدبرا من الرهب . وقرأ حفص والسلمي وعيسى بن عمرو وابن أبي إسحاق : من الرهب بفتح الراء وإسكان الهاء وقرأ ابن عامر والكوفيون إلا حفصا بضم الراء وجزم الهاء . الباقون بفتح الراء والهاء ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، لقوله تعالى : ويدعوننا رغبا ورهبا وكلها لغات وهو بمعنى الخوف . والمعنى إذا هالك أمر يدك وشعاعها فأدخلها في جيبك وارددها إليه تعد كما كانت . وقيل : أمره الله أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه خوف الحية ، عن مجاهد وغيره ورواه الضحاك عن ابن عباس ; قال : فقال ابن عباس : ليس من أحد يدخله رعب بعد موسى عليه السلام ، ثم يدخل يده فيضعها على صدره إلا ذهب عنه الرعب . ويحكى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله : أن كاتبا كان يكتب بين يديه فانفلتت منه فلتة ريح فخجل وانكسر ، فقام وضرب بقلمه الأرض فقال له عمر : خذ قلمك واضمم إليك جناحك ، وليفرخ روعك فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي ، وقيل : المعنى اضمم يدك إلى صدرك ليذهب الله ما في صدرك من الخوف وكان موسى يرتعد خوفا إما من آل فرعون وإما من الثعبان . وضم الجناح هو السكون ; كقوله تعالى : واخفض لهما جناح الذل من الرحمة يريد الرفق ، وكذلك قوله : ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ) أي ارفق بهم وقال الفراء : أراد بالجناح عصاه وقال بعض أهل المعاني : الرهب : الكم بلغة حمير وبني حنيفة قال مقاتل : سألتني أعرابية شيئا وأنا آكل فملأت الكف وأومأت إليها فقالت : هاهنا في رهبي . تريد : في كمي وقال الأصمعي : سمعت أعرابيا يقول لآخر : أعطني رهبك ، فسألته عن الرهب فقال : الكم ; فعلى هذا يكون معناه اضمم إليك يدك وأخرجها من الكم ; لأنه تناول العصا ويده في كمه وقوله : اسلك يدك في جيبك يدل على أنها اليد اليمنى ، لأن الجيب على اليسار ، ذكره القشيري .قلت : وما فسروه من ضم اليد إلى الصدر يدل على أن الجيب موضعه الصدر وقد مضى في سورة ( النور ) بيانه الزمخشري : ومن بدع التفاسير أن الرهب : الكم . بلغة حمير وأنهم يقولون أعطني مما في رهبك ، وليت شعري كيف صحته في اللغة ! وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترتضى عربيتهم ؟ ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية ، وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل ، على أن موسى صلوات الله عليه ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها . قال القشيري : وقوله : واضمم إليك جناحك يريد اليدين إن قلنا أراد الأمن من فزع الثعبان ، وقيل : واضمم إليك جناحك أي شمر واستعد لتحمل أعباء الرسالة .قلت : فعلى هذا قيل : ( إنك من الآمنين ) أي من المرسلين ; لقوله تعالى : إني لا يخاف لدي المرسلون قال ابن بحر : فصار على هذا التأويل رسولا بهذا القول وقيل : إنما صار رسولا بقوله : فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه والبرهانان اليد والعصا . وقرأ ابن كثير بتشديد النون وخففها الباقون وروى أبو عمارة عن أبي الفضل عن أبي بكر عن ابن كثير ، ( فذانيك ) بالتشديد والياء وعن أبي عمرو أيضا قال لغة هذيل : ( فذانيك ) بالتخفيف والياء ، ولغة قريش ( فذانك ) كما قرأ أبو عمرو وابن كثير وفي تعليله خمسة أقوال : قيل : شدد النون عوضا من الألف الساقطة في ( ذانك ) الذي هو تثنية ( ذا ) المرفوع ، وهو رفع بالابتداء ، وألف ( ذا ) محذوفة لدخول ألف التثنية عليها ، ولم يلتفت إلى التقاء الساكنين ; لأن أصله ( فذانك ) فحذف الألف الأولى عوضا من النون الشديدة وقيل : التشديد للتأكيد كما أدخلوا اللام في ذلك . مكي : وقيل إن من شدد إنما بناه على لغة من قال في الواحد ( ذلك ) فلما بنى أثبت اللام بعد نون التثنية ، ثم أدغم اللام في النون على حكم إدغام الثاني في الأول ، والأصل أن يدغم الأول أبدا في الثاني ، إلا أن يمنع من ذلك علة فيدغم الثاني في الأول ، والعلة التي منعت في هذا أن يدغم الأول في الثاني أنه لو فعل ذلك لصار في موضع النون التي تدل على التثنية لام مشددة فيتغير لفظ التثنية فأدغم الثاني في الأول لذلك ; فصار نونا مشددة وقد قيل : إنه لما تنافى ذلك أثبت اللام قبل النون ثم أدغم الأول في الثاني على أصول الإدغام فصار نونا مشددة وقيل : شددت فرقا بينها وبين الظاهر التي تسقط الإضافة نونه ، لأن ( ذان ) لا يضاف ، وقيل : للفرق بين الاسم المتمكن وبينها وكذلك العلة في تشديد النون في ( اللذان ) و ( هذان ) قال أبو عمرو : إنما اختص أبو عمرو هذا الحرف بالتشديد دون كل تثنية من جنسه لقلة حروفه فقرأ بالتثقيل ومن قرأ : ( فذانيك ) بياء مع تخفيف النون فالأصل عنده فذانك بالتشديد فأبدل من النون الثانية ياء كراهية التضعيف ، كما قالوا : لا أملاه . في : لا أمله . فأبدلوا اللام الثانية ألفا . ومن قرأ بياء بعد النون الشديدة فوجهه أنه أشبع كسرة النون فتولدت عنها الياء .

قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (33)


قال ابن عباس : قتل قبطيا كافرا .قال كعب : وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة .في صحيح مسلم : وكان قتله خطأ ; على ما يأتي

وَأَخِى هَٰرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِىٓ إِنِّىٓ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (34)



قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَٰنًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِـَٔايَٰتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَٰلِبُونَ (35)


ف ( قال ) الله عز وجل سنشد عضدك بأخيك أي نقويك به ; وهذا تمثيل ; لأن قوة اليد بالعضد . قال طرفة :بني لبينى لستم بيد إلا يدا ليست لها عضدويقال في دعاء الخير : شد الله عضدك . وفي ضده : فت الله في عضدك ( ونجعل لكما سلطانا ) أي حجة وبرهانا فلا يصلون إليكما بالأذى بآياتنا أي تمتنعان منهم بآياتنا فيجوز أن يوقف على ( إليكما ) ويكون في الكلام تقديم وتأخير . وقيل : التقدير أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا . قال الأخفش والطبري قال المهدوي : وفي هذا تقديم الصلة على الموصول ، إلا أن يقدر : أنتما غالبان بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون . وعنى بالآيات سائر معجزاته .

الصفحة السابقة الصفحة التالية