تفسير سورة السجدة الصفحة 417 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 417 من المصحف


وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)


قوله تعالى : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون .قوله تعالى : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى قال الحسن وأبو العالية والضحاك وأبي بن كعب وإبراهيم النخعي : العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها مما يبتلى به العبيد حتى يتوبوا ; وقاله ابن عباس . وعنه أيضا أنه الحدود . وقال ابن مسعود والحسين بن علي وعبد الله بن الحارث : هو القتل بالسيف يوم بدر . وقال مقاتل : الجوع سبع سنين بمكة حتى أكلوا الجيف ; وقاله مجاهد . وعنه أيضا : العذاب الأدنى عذاب القبر ; وقاله البراء بن عازب . قالوا : والأكبر عذاب يوم القيامة . قال القشيري : وقيل عذاب القبر . وفيه نظر ; لقوله : لعلهم يرجعون . قال : ومن حمل العذاب على القتل قال : لعلهم يرجعون ؛ أي يرجع من بقي منهم . ولا خلاف أن العذاب الأكبر عذاب جهنم ; إلا ما روي عن جعفر بن محمد أنه خروج المهدي بالسيف . والأدنى غلاء السعر . وقد قيل : إن معنى قوله : لعلهم يرجعون . على قول مجاهد والبراء : أي لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه كقوله : فارجعنا نعمل صالحا . وسميت إرادة الرجوع رجوعا كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة . ويدل عليه قراءة من قرأ : ( يرجعون ) على البناء للمفعول ; ذكره الزمخشري .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22)


قوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون .قوله تعالى : ومن أظلم أي لا أحد أظلم لنفسه . ممن ذكر بآيات ربه أي بحججه وعلاماته . ثم أعرض عنها بترك القبول . إنا من المجرمين منتقمون لتكذيبهم وإعراضهم .

وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَٰبَ فَلَا تَكُن فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِۦ وَجَعَلْنَٰهُ هُدًى لِّبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ (23)


قوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه أي فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى ; قاله ابن عباس . وقد لقيه ليلة الإسراء . قتادة : المعنى فلا تكن في شك من أنك لقيته ليلة الإسراء . والمعنى واحد . وقيل : فلا تكن في شك من لقاء موسى في القيامة ، وستلقاه فيها . وقيل : فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب بالقبول ; قاله مجاهد والزجاج . وعن الحسن أنه قال في معناه : ولقد آتينا موسى الكتاب فأوذي وكذب ، فلا تكن في شك من أنه سيلقاك ما لقيه من التكذيب والأذى ; فالهاء عائدة على مخذوف ، والمعنى من لقاء ما لاقى . النحاس : وهذا قول غريب ، إلا أنه من رواية عمرو بن عبيد . وقيل في الكلام تقديم وتأخير ; والمعنى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم فلا تكن في مرية من لقائه ; فجاء معترضا بين ولقد آتينا موسى الكتاب وبين وجعلناه هدى لبني إسرائيل . والضمير في وجعلناه فيه وجهان : أحدهما : جعلنا موسى ; قاله قتادة . الثاني : جعلنا الكتاب ; قاله الحسن .

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا۟ وَكَانُوا۟ بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ (24)


وجعلنا منهم أئمة أي قادة وقدوة يقتدى بهم في دينهم . والكوفيون يقرءون ( أئمة ) النحاس : وهو لحن عند جميع النحويين ; لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة ، وهو من دقيق النحو .وشرحه : أن الأصل ( أأممة ) ثم ألقيت حركة الميم على الهمزة وأدغمت الميم ، وخففت الهمزة الثانية لئلا يجتمع همزتان ، والجمع بين همزتين في حرفين بعيد ; فأما في حرف واحد فلا يجوز إلا تخفيف الثانية نحو قولك : آدم وآخر . ويقال : هذا أوم من هذا وأيم ; بالواو والياء . وقد مضى هذا في ( براءة ) والله تعالى أعلم . يهدون بأمرنا أي يدعون الخلق إلى طاعتنا . بأمرنا أي أمرناهم بذلك . وقيل : بأمرنا أي لأمرنا ; أي يهدون الناس لديننا . ثم قيل : المراد الأنبياء عليهم السلام ; قاله قتادة . وقيل : المراد الفقهاء والعلماء . لما صبروا قراءة العامة ( لما ) بفتح اللام وتشديد الميم وفتحها ; أي حين صبروا . وقرأ يحيى وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب : ( لما صبروا ) أي لصبرهم جعلناهم أئمة . واختاره أبو عبيد اعتبارا بقراءة ابن مسعود ( بما صبروا ) بالباء . وهذا الصبر صبر على الدين وعلى البلاء . وقيل : صبروا عن الدنيا .

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُوا۟ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)


إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة أي يقضي ويحكم بين المؤمنين والكفار ، فيجازي كلا بما يستحق . وقيل : يقضي بين الأنبياء وبين قومهم ; حكاه النقاش .

أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَٰكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)


قوله تعالى : أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون .قوله تعالى : أولم يهد لهم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وقتادة وأبو زيد عن يعقوب ( نهد لهم ) بالنون ; فهذه قراءة بينة . النحاس : وبالياء فيها إشكال ; لأنه يقال : الفعل لا يخلو من فاعل ، فأين الفاعل ل ( يهد ) ؟ فتكلم النحويون في هذا ; فقال الفراء : كم في موضع رفع ب ( يهد ) وهذا نقض لأصول النحويين في قولهم : إن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ولا في كم بوجه ; أعني ما قبلها . ومذهب أبي العباس أن يهد يدل على الهدى ; والمعنى أو لم يهد لهم الهدى . وقيل : المعنى أو لم يهد الله لهم ; فيكون معنى الياء والنون واحدا ; أي أو لم نبين لهم إهلاكنا القرون الكافرة من قبلهم . وقال الزجاج : كم في موضع نصب ب ( أهلكنا ) . يمشون في مساكنهم يحتمل الضمير في يمشون أن يعود على الماشين في مساكن المهلكين ; أي وهؤلاء يمشون ولا يعتبرون . ويحتمل أن يعود على المهلكين فيكون حالا ; والمعنى : أهلكناهم ماشين في مساكنهم . إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون آيات الله وعظاته فيتعظون .

أَوَلَمْ يَرَوْا۟ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِۦ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَٰمُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)


قوله تعالى : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون .قوله تعالى : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز أي أولم يعلموا كمال قدرتنا بسوقنا الماء إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها لنحييها . الزمخشري : الجرز الأرض التي جرز نباتها ، أي قطع ; إما لعدم الماء وإما لأنه رعي وأزيل . ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز ; ويدل عليه قوله تعالى : فنخرج به زرعا قال ابن عباس : هي أرض باليمن . وقال مجاهد : هي أبين . وقال عكرمة : هي الأرض الظمأى . وقال الضحاك : هي الأرض الميتة العطشى . وقال الفراء : هي الأرض التي لا نبات فيها . وقال الأصمعي : هي الأرض التي لا تنبت شيئا . وقال محمد بن يزيد : يبعد أن تكون لأرض بعينها لدخول الألف واللام ; إلا أنه يجوز على قول من قال : العباس والضحاك . والإسناد عن ابن عباس صحيح لا مطعن فيه . وهذا إنما هو نعت والنعت للمعرفة يكون بالألف واللام ; وهو مشتق من قولهم : رجل جروز إذا كان لا يبقي شيئا إلا أكله . قال الراجز :خب جروز وإذا جاع بكى ويأكل التمر ولا يلقي النوىوكذلك ناقة جروز : إذا كانت تأكل كل شيء تجده . وسيف جراز : أي قاطع ماض . وجرزت الجراد الزرع : إذا استأصلته بالأكل . وحكى الفراء وغيره أنه يقال : أرض جرز وجرز وجرز وجرز . وكذلك بخل ورغب ورهب ; في الأربعة أربع لغات . وقد روي أن هذه الأرض لا أنهار فيها ، وهي بعيدة من البحر ، وإنما يأتيها في كل عام ودان فيزرعون ثلاث مرات في كل عام . وعن مجاهد أيضا : أنها أرض النيل . فنخرج به أي بالماء . زرعا تأكل منه أنعامهم من الكلأ والحشيش . وأنفسهم من الحب والخضر والفواكه . أفلا يبصرون هذا فيعلمون أنا نقدر على إعادتهم . و ( فنخرج ) يكون معطوفا على ( نسوق ) أو منقطعا مما قبله . تأكل منه أنعامهم في موضع نصب على النعت .

وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ (28)


قوله تعالى : ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين متى في موضع رفع ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الظرف . قال قتادة : الفتح القضاء . وقال الفراء والقتبي : يعني فتح مكة . وأولى من هذا ما قاله مجاهد ، قال : يعني يوم القيامة . ويروى أن المؤمنين قالوا : سيحكم الله عز وجل بيننا يوم القيامة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء . فقال الكفار على التهزئ . متى يوم الفتح ؟ أي هذا الحكم . ويقال للحاكم : فاتح وفتاح ; لأن الأشياء تنفتح على يديه وتنفصل . وفي القرآن : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وقد مضى هذا في ( البقرة ) وغيرها .

قُلْ يَوْمَ ٱلْفَتْحِ لَا يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ إِيمَٰنُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (29)


قل يوم الفتح على الظرف . وأجاز الفراء الرفع . لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون أي يؤخرون ويمهلون للتوبة ; إن كان يوم الفتح يوم بدر أو فتح مكة . ففي بدر قتلوا ، ويوم الفتح هربوا فلحقهم خالد بن الوليد فقتلهم .

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَٱنتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ (30)


قوله تعالى : فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون .قوله تعالى : فأعرض عنهم معناه فأعرض عن سفههم ولا تجبهم إلا بما أمرت به . وانتظر إنهم منتظرون أي انتظر يوم الفتح ، يوم يحكم الله لك عليهم . ابن عباس : فأعرض عنهم أي عن مشركي قريش مكة ، وأن هذا منسوخ بالسيف في ( براءة ) في قوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . وانتظر أي موعدي لك . قيل : يعني يوم بدر . إنهم منتظرون أي ينتظرون بكم حوادث الزمان . وقيل : الآية غير منسوخة ; إذ قد يقع الإعراض مع الأمر بالقتال كالهدنة وغيرها . وقيل : أعرض عنهم بعدما بلغت الحجة ، وانتظر إنهم منتظرون . إن قيل : كيف ينتظرون القيامة وهم لا يؤمنون ؟ ففي هذا جوابان : أحدهما : أن يكون المعنى أنهم منتظرون الموت وهو من أسباب القيامة ; فيكون هذا مجازا . والآخر : أن فيهم من يشك وفيهم من يؤمن بالقيامة ; فيكون هذا جوابا لهذين الصنفين . والله أعلم . وقرأ ابن السميقع : ( إنهم منتظرون ) بفتح الظاء . ورويت عن مجاهد وابن محيصن . قال الفراء : لا يصح هذا إلا بإضمار ، مجازه : إنهم منتظرون بهم . قال أبو حاتم : الصحيح الكسر ; أي انتظر عذابهم إنهم منتظرون هلاكك . وقد قيل : إن قراءة ابن السميقع ( بفتح الظاء ) معناها : وانتظر هلاكهم فإنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم ; يعني : إنهم هالكون لا محالة ، وانتظر ذلك فإن الملائكة في السماء ينتظرونه ; ذكره الزمخشري . وهو معنى قول الفراء . والله أعلم .

الصفحة السابقة