تفسير سورة الزخرف الصفحة 495 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 495 من المصحف


إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَٰلِدُونَ (74)


قوله تعالى : إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لما ذكر أحوال أهل الجنة ذكر أحوال أهل النار أيضا ليبين فضل المطيع على العاصي .

لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)


لا يفتر عنهم أي : لا يخفف عنهم ذلك العذاب . وهم فيه مبلسون أي : آيسون من الرحمة . وقيل : ساكتون سكوت يأس ، وقد مضى في ( الأنعام )

وَمَا ظَلَمْنَٰهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا۟ هُمُ ٱلظَّٰلِمِينَ (76)


وما ظلمناهم بالعذاب ولكن كانوا هم الظالمين أنفسهم بالشرك . ويجوز ( ولكن كانوا هم الظالمون ) بالرفع على الابتداء والخبر والجملة خبر كان .

وَنَادَوْا۟ يَٰمَٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ (77)


قوله تعالى : ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون .قوله تعالى : ونادوا يامالك وهو خازن جهنم ، خلقه لغضبه ، إذا زجر النار زجرة أكل بعضها بعضا . وقرأ علي وابن مسعود - رضي الله عنهما ( ونادوا يا مال ) وذلك خلاف المصحف . وقال أبو الدرداء وابن مسعود : قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ونادوا يا مال باللام خاصة ، يعني رخم الاسم وحذف الكاف . والترخيم الحذف ، ومنه ترخيم الاسم في النداء ، وهو أن يحذف من آخره حرف أو أكثر ، فتقول في مالك : يا مال ، وفي حارث : يا حار ، وفي فاطمة : يا فاطم ، وفي عائشة يا عائش وفي مروان : يا مرو ، وهكذا . قال :يا حار لا أرمين منكم بداهية لم يلقها سوقة قبلي ولا ملكوقال امرؤ القيس :أحار ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكللوقال أيضا :أفاطم مهلا بعض هذا التدلل وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجمليوقال آخر :يا مرو إن مطيتي محبوسة ترجو الحباء وربها لم ييأسوفي صحيح الحديث ( أي فل هلم ) . ولك في آخر الاسم المرخم وجهان : أحدهما : أن تبقيه على ما كان عليه قبل الحذف . والآخر : أن تبنيه على الضم ، مثل : يا زيد ، كأنك أنزلته منزلته ولم تراع المحذوف . وذكر أبو بكر الأنباري قال : حدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا محمد - وهو ابن سعدان - قال حدثنا حجاج عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن مجاهد قال : كنا لا ندري ما الزخرف حتى وجدناه في قراءة عبد الله " بيت من ذهب " ، وكنا لا ندري ، ( ونادوا يا مالك ) أو يا ملك ( بفتح اللام وكسرها ) حتى وجدناه في قراءة عبد الله ( ونادوا يا مال ) على الترخيم . قال أبو بكر : لا يعمل على هذا الحديث لأنه مقطوع لا يقبل مثله في الرواية عن الرسول - عليه السلام - ، وكتاب الله أحق بأن يحتاط له وينفى عنه الباطل .قلت : وفي صحيح البخاري عن صفوان بن يعلى عن أبيه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ على المنبر : ونادوا يامالك ليقض علينا ربك بإثبات الكاف . وقال محمد بن كعب القرظي : بلغني - أو ذكر لي - أن أهل النار استغاثوا بالخزنة فقال الله تعالى : وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب فسألوا يوما واحدا يخفف عنهم فيه العذاب ، فردت عليهم : أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال قال : فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا مالكا ، وهو عليهم وله مجلس في وسطها ، وجسور تمر عليها ملائكة العذاب ، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها فقالوا : يامالك ليقض علينا ربك سألوا الموت ، قال : فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة ، قال : والسنة ستون وثلاثمائة يوم ، والشهر ثلاثون يوما ، واليوم كألف سنة مما تعدون ، ثم لحظ إليهم بعد الثمانين فقال : ( إنكم ماكثون ) وذكر الحديث ، ذكره ابن المبارك . وفي حديث أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فيقولون ادعوا مالكا فيقولون ( يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون ) . قال الأعمش : نبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام ، خرجه الترمذي . وقال ابن عباس : يقولون ذلك فلا يجيبهم ألف سنة ، ثم يقول إنكم ماكثون . وقال مجاهد ونوف البكالي : بين ندائهم وإجابته إياهم مائة سنة . وقال عبد الله بن عمرو : أربعون سنة ، ذكره ابن المبارك .

لَقَدْ جِئْنَٰكُم بِٱلْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَٰرِهُونَ (78)


قوله تعالى : لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون .يحتمل أن يكون هذا من قول مالك لهم ، أي : إنكم ماكثون في النار لأنا جئناكم في الدنيا بالحق فلم تقبلوا . ويحتمل أن يكون من كلام الله لهم اليوم ، أي : بينا لكم الأدلة وأرسلنا إليكم الرسل . ( ولكن أكثركم ) قال ابن عباس : ( ولكن أكثركم ) أي : ولكن كلكم . وقيل : أراد بالكثرة الرؤساء والقادة منهم ، وأما الأتباع فما كان لهم أثر ، ( للحق ) أي : للإسلام ودين الله كارهون

أَمْ أَبْرَمُوٓا۟ أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)


قوله تعالى : أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون .قال مقاتل : نزلت في تدبيرهم المكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في دار الندوة ، حين استقر أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله فتضعف المطالبة بدمه ، فنزلت هذه الآية ، وقتل الله جميعهم ببدر . ( أبرموا ) أحكموا . والإبرام الإحكام . أبرمت الشيء أحكمته . وأبرم الفتال إذا أحكم الفتل ، وهو الفتل الثاني ، والأول سحيل ، كما قال [ زهير بن أبي سلمى ] :. . . من سحيل ومبرمفالمعنى : أم أحكموا كيدا فإنا محكمون لهم كيدا ، قاله ابن زيد ومجاهد . قتادة : أم أجمعوا على التكذيب فإنا مجمعون على الجزاء بالبعث . الكلبي : أم قضوا أمرا فإنا قاضون عليهم بالعذاب . و ( أم ) بمعنى بل . وقيل : ( أم أبرموا ) عطف على قوله : أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون . وقيل : أي : ولقد جئناكم بالحق فلم تسمعوا ، أم سمعوا فأعرضوا لأنهم في أنفسهم أبرموا أمرا أمنوا به العقاب .

أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَىٰهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)


قوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون .قوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم أي : ما يسرونه في أنفسهم ويتناجون به بينهم . بلى نسمع ونعلم . ورسلنا لديهم يكتبون أي : الحفظة عندهم يكتبون عليهم . وروي أن هذا نزل في ثلاثة نفر كانوا بين الكعبة وأستارها ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع كلامنا ؟ وقال الثاني : إذا جهرتم سمع ، وإذا أسررتم لم يسمع . وقال الثالث : إن كان يسمع إذا أعلنتم فهو يسمع إذا أسررتم . قاله محمد بن كعب القرظي : وقد مضى هذا المعنى عن ابن مسعود في سورة ( فصلت )

قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْعَٰبِدِينَ (81)


قوله تعالى : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدينقوله تعالى : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين اختلف في معناه ، فقال ابن عباس والحسن والسدي : المعنى ما كان للرحمن ولد ، ف ( إن ) بمعنى ما ، ويكون الكلام على هذا تاما ، ثم تبتدئ : ( فأنا أول العابدين ) أي : الموحدين من أهل مكة على أنه لا ولد له . والوقف على ( العابدين ) تام . وقيل : المعنى قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد ولده ، ولكن يستحيل أن يكون له ولد ، وهو كما تقول لمن تناظره : إن ثبت بالدليل فأنا أول من يعتقده ، وهذا مبالغة في الاستبعاد ، أي : لا سبيل إلى اعتقاده . وهذا ترقيق في الكلام ، كقوله : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين . والمعنى على هذا : ترقيق في الكلام ، كقوله : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين . والمعنى على هذا : فأنا أول العابدين لذلك الولد ، لأن تعظيم الولد تعظيم للوالد . وقال مجاهد : المعنى إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده وحده ، على أنه لا ولد له . وقال السدي أيضا : المعنى لو كان له ولد كنت أول من عبده على أن له ولدا ، ولكن لا ينبغي ذلك . قال المهدوي : فإن على هذه الأقوال للشرط ، وهو الأجود ، وهو اختيار الطبري ، لأن كونها بمعنى ما يتوهم معه أن المعنى لم يكن له فيما مضى . وقيل : إن معنى العابدين الآنفين . وقال بعض العلماء : لو كان كذلك لكان العبدين . وكذلك قرأ أبو عبد الرحمن واليماني فأنا أول العبدين بغير ألف ، يقال : عبد يعبد عبدا ( بالتحريك ) إذا أنف وغضب فهو عبد ، والاسم العبدة مثل الأنفة ، عن أبي زيد . قال الفرزدق :أولئك أجلاسي فجئني بمثلهم وأعبد أن أهجو كلبا بدارموينشد أيضا :أولئك ناس إن هجوني هجوتهم وأعبد أن يهجى كليب بدارمقال الجوهري : وقال أبو عمرو وقوله تعالى : ( فأنا أول العابدين ) من الأنف والغضب ، وقال الكسائي والقتبي ، حكاه الماوردي عنهما . وقال الهروي : وقوله تعالى : ( فأنا أول العابدين ) قيل هو من عبد يعبد ، أي : من الآنفين . وقال ابن عرفة : إنما يقال عبد يعبد فهو عبد ، وقلما يقال عابد ، والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ ، ولكن المعنى فأنا أول من يعبد الله - عز وجل - على أنه واحد لا ولد له . وروي أن امرأة دخلت على زوجها فولدت منه لستة أشهر ، فذكر ذلك لعثمان - رضي الله عنه - فأمر برجمها ، فقال له علي : قال الله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وقال في آية أخرى : وفصاله في عامين فوالله ما عبد عثمان أن بعث إليها ترد . قال عبد الله بن وهب : يعني ما استنكف ولا أنف . وقال ابن الأعرابي فأنا أول العابدين أي : الغضاب الآنفين . وقيل : فأنا أول العابدين أي : أنا أول من يعبده على الوحدانية مخالفا لكم . أبو عبيدة : معناه الجاحدين ، وحكى : عبدني حقي أي : جحدني . وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما ( ولد ) بضم الواو وإسكان اللام . الباقون وعاصم ( ولد ) وقد تقدم .

سُبْحَٰنَ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)


( سبحان رب السماوات والأرض ) أي تنزيها له وتقديسا . نزه نفسه عن كل ما يقتضي الحدوث ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتنزيه . ( عما يصفون ) أي عما يقولون من الكذب .

فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا۟ وَيَلْعَبُوا۟ حَتَّىٰ يُلَٰقُوا۟ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِى يُوعَدُونَ (83)


قوله تعالى : فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون .قوله تعالى : فذرهم يخوضوا ويلعبوا يعني كفار مكة حين كذبوا بعذاب الآخرة . أي : اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون إما العذاب في الدنيا أو في الآخرة . وقيل : إن هذا منسوخ بآية السيف . وقيل : هو محكم ، وإنما أخرج مخرج التهديد . وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد وابن القعقاع وابن السميقع ( حتى يلقوا ) بفتح الياء وإسكان اللام من غير ألف ، وفتح القاف هنا وفي ( الطور ) و ( المعارج ) الباقون ( يلاقوا ) .

وَهُوَ ٱلَّذِى فِى ٱلسَّمَآءِ إِلَٰهٌ وَفِى ٱلْأَرْضِ إِلَٰهٌ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ (84)


قوله تعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم .هذا تكذيب لهم في أن لله شريكا وولدا ، أي : هو المستحق للعبادة في السماء والأرض . وقال عمر - رضي الله عنه - وغيره : المعنى وهو الذي في السماء إله في الأرض ، وكذلك قرأ . والمعنى أنه يعبد فيهما . وروي أنه قرأ هو وابن مسعود وغيرهما ( وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله ) وهذا خلاف المصحف . وإله رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : وهو الذي في السماء هو إله ، قاله أبو علي . وحسن حذفه لطول الكلام . وقيل : ( في ) بمعنى على ، كقوله تعالى : ولأصلبنكم في جذوع النخل أي : على جذوع النخل ، أي : هو القادر على السماء والأرض . وهو الحكيم العليم ، تقدم . .

وَتَبَارَكَ ٱلَّذِى لَهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُۥ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)


قوله تعالى : وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون .( تبارك ) تفاعل من البركة . وقد تقدم . وعنده علم الساعة أي وقت قيامها . وإليه ترجعون قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ( وإليه يرجعون ) بالياء . الباقون بالتاء . وكان ابن محيصن وحميد ويعقوب وابن أبي إسحاق يفتحون أوله على أصولهم . وضم الباقون .

وَلَا يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَٰعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)


قوله تعالى : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون .فيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : إلا من شهد بالحق ( من ) في موضع الخفض . وأراد بالذين يدعون من دونه عيسى وعزيرا والملائكة . والمعنى ولا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة ، قاله سعيد بن جبير وغيره . قال : وشهادة الحق لا إله إلا الله . وقيل : من في محل رفع ، أي : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة ، يعني الآلهة - في قول قتادة - أي : لا يشفعون لعابديها إلا من شهد بالحق ، يعني عزيرا وعيسى والملائكة فإنهم يشهدون بالحق والوحدانية لله . وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به . قيل : إنها نزلت بسبب أن النضر بن الحارث ونفرا من قريش قالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نتولى الملائكة وهم أحق بالشفاعة لنا منه ، فأنزل الله : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق أي : اعتقدوا أن الملائكة أو الأصنام أو الجن أو الشياطين تشفع لهم ولا شفاعة لأحد يوم القيامة . إلا من شهد بالحق يعني المؤمنين إذا أذن لهم . قال ابن عباس : إلا من شهد بالحق أي : شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . وقيل : أي : لا يملك هؤلاء العابدون من دون الله أن يشفع لهم أحد إلا من شهد بالحق ، فإن من شهد بالحق يشفع له ولا يشفع لمشرك . ( وإلا ) بمعنى لكن ، أي : لا ينال المشركون الشفاعة لكن ينال الشفاعة من شهد بالحق ، فهو استئناء منقطع . ويجوز أن يكون متصلا ; لأن في جملة ( الذين يدعون من دونه ) الملائكة . ويقال : شفعته وشفعت له ، مثل كلته وكلت له . وقد مضى في ( البقرة ) معنى الشفاعة واشتقاقها فلا معنى لإعادتها ، وقيل : ( إلا من شهد بالحق ) إلا من تشهد له الملائكة بأنه كان على الحق في الدنيا ، مع علمهم بذلك منه بأن يكون الله أخبرهم به ، أو بأن شاهدوه على الإيمان . .الثانية : قوله تعالى : إلا من شهد بالحق وهم يعلمون يدل على معنيين : أحدهما : أن الشفاعة بالحق غير نافعة إلا مع العلم ، وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة . والثاني : أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها . ونحوه ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع . وقد مضى في ( البقرة )

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (87)


قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون .قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله أي لأقروا بأن الله خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئا . فأنى يؤفكون أي كيف ينقلبون عن عبادته وينصرفون حتى أشركوا به غيره رجاء شفاعتهم له . يقال : أفكه يأفكه أفكا ، أي : قلبه وصرفه عن الشيء . ومنه قوله تعالى : قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا . وقيل : أي : ولئن سألت الملائكة وعيسى من خلقهم ؟ لقالوا الله . فأنى يؤفكون أي : فأنى يؤفك هؤلاء في ادعائهم إياهم آلهة .

وَقِيلِهِۦ يَٰرَبِّ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ (88)


قوله تعالى : وقيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون .في قيله ثلاث قراءات : النصب ، والجر ، والرفع . فأما الجر فهي قراءة عاصم وحمزة . وبقية السبعة بالنصب . وأما الرفع فهي قراءة الأعرج وقتادة وابن هرمز ومسلم بن جندب . فمن جر حمله على معنى : وعنده علم الساعة وعلم قيله . ومن نصب فعلى معنى : وعنده علم الساعة ويعلم قيله ، وهذا اختيار الزجاج . وقال الفراء والأخفش : يجوز أن يكون قيله عطفا على قوله : ( أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ) قال ابن الأنباري : سألت أبا العباس محمد بن يزيد المبرد بأي شيء تنصب القيل ؟ فقال : أنصبه على ( وعنده علم الساعة ويعلم قيله ) فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على ( ترجعون ) ، ولا على ( يعلمون ) ويحسن الوقف على ( يكتبون ) وأجاز الفراء والأخفش أن ينصب القيل على معنى : لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله ، كما ذكرنا عنهما فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على ( يكتبون ) وأجاز الفراء والأخفش أيضا : أن ينصب على المصدر ، كأنه قال : وقال قيله ، وشكا شكواه إلى الله عز وجل ، كما قال كعب بن زهير :تمشي الوشاة جنابيها وقيلهم إنك يا ابن أبي سلمى لمقتولأراد : ويقولون قيلهم . ومن رفع ( قيله ) فالتقدير : وعنده قيله ، أو قيله مسموع ، أو قيله هذا القول . الزمخشري : والذي قالوه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم . وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه . والرفع على قولهم : أيمن الله وأمانة الله ويمين الله ولعمرك ، ويكون قوله : ( إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ) جواب القسم ، كأنه قال : وأقسم بقيله يا رب ، أو قيله يا رب قسمي ، إن هؤلاء قوم لا يؤمنون . وقال ابن الأنباري : ويجوز في العربية ( وقيله ) الرفع ، على أن ترفعه بإن هؤلاء قوم لا يؤمنون . المهدوي : أو يكون على تقدير وقيله قيله يا رب ، فحذف قيله الثاني الذي هو خبر ، وموضع يا رب نصب بالخبر المضمر ، ولا يمتنع ذلك من حيث امتنع حذف بعض الموصول وبقي بعضه ; لأن حذف القول قد كثر حتى صار بمنزلة المذكور .والهاء في ( قيله ) لعيسى ، وقيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقد جرى ذكره إذ قال : ( قل إن كان للرحمن ولد ) وقرأ أبو قلابة ( يا رب ) بفتح الباء . والقيل مصدر كالقول ، ومنه الخبر [ نهى عن قيل وقال ] . ويقال : قلت قولا وقيلا وقالا . وفي النساء ( ومن أصدق من الله قيلا ) .

فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَٰمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)


قوله تعالى : فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون .قال قتادة : أمر بالصفح عنهم ثم أمره بقتالهم ، فصار الصفح منسوخا بالسيف . ونحوه عن ابن عباس قال : فاصفح عنهم أعرض عنهم . وقل سلام أي : معروفا ، أي : قل للمشركين أهل مكة ( فسوف تعلمون ) ثم نسخ هذا في سورة ( براءة ) بقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية . وقيل : هي محكمة لم تنسخ . وقراءة العامة ( فسوف يعملون ) ( بالياء ) على أنه خبر من الله تعالى لنبيه بالتهديد . وقرأ نافع وابن عامر ( تعلمون ) ( بالتاء ) على أنه من خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين بالتهديد . و ( سلام ) رفع بإضمار عليكم ، قاله الفراء . ومعناه الأمر بتوديعهم بالسلام ، ولم يجعله تحية لهم ، حكاه النقاش . وروى شعيب بن الحبحاب أنه عرفه بذلك كيف السلام عليهم ؛ والله أعلم .

الصفحة السابقة