تفسير سورة الجاثية الصفحة 499 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 499 من المصحف


بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ حمٓ (1)


سورة الجاثية مكية كلها في قول الحسن وجابر وعكرمة .وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية , هي " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله " [ الجاثية : 14 ] نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب رضي الله عنه ; ذكره الماوردي .وقال المهدوي والنحاس عن ابن عباس : إنها نزلت في عمر رضي الله عنه , شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة .فأراد أن يبطش به , فأنزل الله عز وجل : " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله " [ الجاثية : 14 ] ثم نسخت بقوله : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [ التوبة : 5 ] .فالسورة كلها مكية على هذا من غير خلاف .وهي سبع وثلاثون آية .وقيل ست .اختلف في معناه ; فقال عكرمة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( " حم " اسم من أسماء الله تعالى وهي مفاتيح خزائن ربك ) قال ابن عباس : " حم " اسم الله الأعظم .وعنه : " الر " و " حم " و " ن " حروف الرحمن مقطعة .وعنه أيضا : اسم من أسماء الله تعالى أقسم به .وقال قتادة : إنه اسم من أسماء القرآن .مجاهد : فواتح السور .وقال عطاء الخراساني : الحاء افتتاح اسمه حميد وحنان وحليم وحكيم , والميم افتتاح اسمه ملك ومجيد ومنان ومتكبر ومصور ; يدل عليه ما روى أنس أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : ما " حم " فإنا لا نعرفها في لساننا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بدء أسماء وفواتح سور ) وقال الضحاك والكسائي : معناه قضي ما هو كائن .كأنه أراد الإشارة إلى تهجي " حم " ; لأنها تصير حم بضم الحاء وتشديد الميم ; أي قضي ووقع .وقال كعب بن مالك : فلما تلاقيناهم ودارت بنا الرحى وليس لأمر حمه الله مدفع وعنه أيضا : إن المعنى حم أمر الله أي قرب ; كما قال الشاعر : قد حم يومي فسر قوم قوم بهم غفلة ونوم ومنه سميت الحمى ; لأنها تقرب من المنية .والمعنى المراد قرب نصره لأوليائه , وانتقامه من أعدائه كيوم بدر .وقيل : حروف هجاء ; قال الجرمي : ولهذا تقرأ ساكنة الحروف فخرجت مخرج التهجي وإذا سميت سورة بشيء من هذه الحروف أعربت ; فتقول : قرأت " حم " فتنصب ; قال الشاعر : يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم وقرأ عيسى بن عمر الثقفي : " حم " بفتح الميم على معنى اقرأ حم أو لالتقاء الساكنين .ابن أبي إسحاق وأبو السمال بكسرها .والإمالة والكسر للالتقاء الساكنين , أو على وجه القسم .وقرأ أبو جعفر بقطع الحاء من الميم .الباقون بالوصل .وكذلك في " حم .عسق " .وقرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة والكسائي وخلف وابن ذكوان بالإمالة في الحاء .وروي عن أبي عمرو بين اللفظين وهي قراءة نافع وأبي جعفر وشيبة .الباقون بالفتح مشبعا .

تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ (2)


تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ" حم " مبتدأ و " تنزيل " خبره .وقال بعضهم : " حم " اسم السورة .و " تنزيل الكتاب " مبتدأ .وخبره " من الله " .والكتاب القرآن .الْعَزِيزِالمنيع .الْحَكِيمِالحكيم في فعله

إِنَّ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ لَءَايَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ (3)


أي في خلقهما

وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)


قوله تعالى : وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق يعني المطرفأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون تقدم جميعه مستوفى في ( البقرة ) وغيرها . وقراءة العامة وما يبث من دابة آيات ، وتصريف الرياح آيات بالرفع فيهما . وقرأ حمزة والكسائي بكسر التاء فيهما . ولا خلاف في الأول أنه بالنصب على اسم ( إن ) وخبرها في السماوات ووجه الكسر في ( آيات ) الثاني العطف على ما عملت فيه ، التقدير : إن في خلقكم وما يبث من دابة آيات . فأما الثالث فقيل : إن وجه النصب فيه تكرير ( آيات ) لما طال الكلام ، كما تقول : ضربت زيدا زيدا . وقيل : إنه على الحمل على ما عملت فيه ( إن ) على تقدير حذف ( في ) ، التقدير : وفي اختلاف الليل والنهار آيات . فحذفت " في " لتقدم ذكرها . وأنشد سيبويه في الحذف [ للشاعر أبي داود الأيادي ] :أكل امرئ تحسبين امرأ ونارا توقد بالليل نارافحذف ( كل ) المضاف إلى نار المجرورة لتقدم ذكرها . وقيل : هو من باب العطف على عاملين . ولم يجزه سيبويه ، وأجازه الأخفش وجماعة من الكوفيين ، فعطف واختلاف على قوله : وفي خلقكم ثم قال : وتصريف الرياح آيات فيحتاج إلى العطف على عاملين ، والعطف على عاملين قبيح من أجل أن حروف العطف تنوب مناب العامل ، فلم تقو أن تنوب مناب عاملين مختلفين ، إذ لو ناب مناب رافع وناصب لكان رافعا ناصبا في حال . وأما قراءة الرفع فحملا على موضع ( إن ) مع ما عملت فيه . وقد ألزم النحويون في ذلك أيضا العطف على عاملين ; لأنه عطف واختلاف على وفي خلقكم ، وعطف ( آيات ) على موضع ( آيات ) الأول ، ولكنه يقدر على تكرير ( في ) . ويجوز أن يرفع على القطع مما قبله فيرفع بالابتداء ، وما قبله خبره ، ويكون عطف جملة على جملة . وحكى الفراء رفع ( واختلاف ) و ( آيات ) جميعا ، وجعل الاختلاف هو الآيات .

وَٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)


واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق يعني المطرفأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون تقدم جميعه مستوفى في ( البقرة ) وغيرها . وقراءة العامة وما يبث من دابة آيات ، وتصريف الرياح آيات بالرفع فيهما . وقرأ حمزة والكسائي بكسر التاء فيهما . ولا خلاف في الأول أنه بالنصب على اسم ( إن ) وخبرها في السماوات ووجه الكسر في ( آيات ) الثاني العطف على ما عملت فيه ، التقدير : إن في خلقكم وما يبث من دابة آيات . فأما الثالث فقيل : إن وجه النصب فيه تكرير ( آيات ) لما طال الكلام ، كما تقول : ضربت زيدا زيدا . وقيل : إنه على الحمل على ما عملت فيه ( إن ) على تقدير حذف ( في ) ، التقدير : وفي اختلاف الليل والنهار آيات . فحذفت " في " لتقدم ذكرها . وأنشد سيبويه في الحذف [ للشاعر أبي داود الأيادي ] :أكل امرئ تحسبين امرأ ونارا توقد بالليل نارافحذف ( كل ) المضاف إلى نار المجرورة لتقدم ذكرها . وقيل : هو من باب العطف على عاملين . ولم يجزه سيبويه ، وأجازه الأخفش وجماعة من الكوفيين ، فعطف واختلاف على قوله : وفي خلقكم ثم قال : وتصريف الرياح آيات فيحتاج إلى العطف على عاملين ، والعطف على عاملين قبيح من أجل أن حروف العطف تنوب مناب العامل ، فلم تقو أن تنوب مناب عاملين مختلفين ، إذ لو ناب مناب رافع وناصب لكان رافعا ناصبا في حال . وأما قراءة الرفع فحملا على موضع ( إن ) مع ما عملت فيه . وقد ألزم النحويون في ذلك أيضا العطف على عاملين ; لأنه عطف واختلاف على وفي خلقكم ، وعطف ( آيات ) على موضع ( آيات ) الأول ، ولكنه يقدر على تكرير ( في ) . ويجوز أن يرفع على القطع مما قبله فيرفع بالابتداء ، وما قبله خبره ، ويكون عطف جملة على جملة . وحكى الفراء رفع ( واختلاف ) و ( آيات ) جميعا ، وجعل الاختلاف هو الآيات .

تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ فَبِأَىِّ حَدِيثٍۭ بَعْدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ يُؤْمِنُونَ (6)


قوله تعالى : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون .قوله تعالى : تلك آيات الله أي هذه آيات الله ؛ أي حججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وقدرته . ( نتلوها عليك بالحق ) أي بالصدق الذي لا باطل ولا كذب فيه . وقرئ ( يتلوها ) بالياء . فبأي حديث بعد الله أي بعد حديث الله وقيل بعد قرآنه ( وآياته يؤمنون ) وقراءة العامة بالياء على الخبر . وقرأ ابن محيصن وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي تؤمنون بالتاء على الخطاب .

وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7)


قوله تعالى : ويل لكل أفاك أثيمقوله تعالى : ويل لكل أفاك أثيم ويل واد في جهنم . توعد من ترك الاستدلال بآياته . والأفاك : الكذاب . والإفك الكذب . أثيم أي : مرتكب للإثم . والمراد فيما روى : النضر بن الحارث وعن ابن عباس أنه الحارث بن كلدة . وحكى الثعلبي أنه أبو جهل وأصحابه .

يَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)


يسمع آيات الله تتلى عليه يعني آيات القرآن . ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها أي يتمادى على كفره متعظما في نفسه عن الانقياد ، مأخوذ من صر الصرة إذا شدها . قال معناه ابن عباس وغيره . وقيل : أصله من إصرار الحمار على العانة وهو أن ينحني عليها صارا أذنيه . و أن من كأن مخففة من الثقيلة ، كأنه لم يسمعها ، والضمير ضمير الشأن ، كما في قوله : .كأن ظبية تعطو إلى ناظر السلمومحل الجملة النصب ، أي : يصر مثل غير السامع . وقد تقدم في أول ( لقمان ) القول في معنى هذه الآية وتقدم معنى فبشره بعذاب أليم في ( البقرة ) .

وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَٰتِنَا شَيْـًٔا ٱتَّخَذَهَا هُزُوًا أُو۟لَٰٓئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (9)


قوله تعالى : وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا نحو قوله في الزقوم : إنه الزبد والتمر ، وقوله في خزنة جهنم : إن كانوا تسعة عشر فأنا ألقاهم وحدي . أولئك لهم عذاب مهين مذل مخز .

مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُوا۟ شَيْـًٔا وَلَا مَا ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)


من ورائهم جهنم أي من وراء ما هم فيه من التعزز في الدنيا والتكبر عن الحق جهنم . وقال ابن عباس : من ورائهم جهنم أي : أمامهم ، نظيره : من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد أي : من أمامه . قال :أليس ورائي إن تراخت منيتي أدب مع الولدان أزحف كالنسرولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا أي من المال والولد ، نظيره : لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أي : من المال والولد . ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء يعني الأصنام . ولهم عذاب عظيم أي دائم مؤلم .

هَٰذَا هُدًى وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (11)


قوله تعالى : هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم .قوله تعالى : هذا هدى ابتداء وخبر ، يعني القرآن . وقال ابن عباس : يعني كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . والذين كفروا بآيات ربهم أي جحدوا دلائله . لهم عذاب من رجز أليم الرجز العذاب ، أي : لهم عذاب من عذاب أليم ، دليله قوله تعالى : فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء أي : عذابا . وقيل : الرجز القذر مثل الرجس ، وهو كقوله تعالى : ويسقى من ماء صديد أي : لهم عذاب من تجرع الشراب القذر . وضم الراء من الرجز ابن محيصن حيث وقع . وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحفص أليم بالرفع ، على معنى لهم عذاب أليم من رجز . الباقون بالخفض نعتا للرجز .

ٱللَّهُ ٱلَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِىَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِۦ وَلِتَبْتَغُوا۟ مِن فَضْلِهِۦ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)


قوله تعالى : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ذكر كمال قدرته وتمام نعمته على عباده ، وبين أنه خلق ما خلق لمنافعهم .

وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)


وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ؛ يعني أن ذلك فعله وخلقه وإحسان منه وإنعام . وقرأ ابن عباس والجحدري وغيرهما ( جميعا منة ) بكسر الميم وتشديد النون وتنوين الهاء ، منصوبا على المصدر . قال أبو عمرو : وكذلك سمعت مسلمة يقرؤها ( منة ) أي : تفضلا وكرما . وعن مسلمة بن محارب أيضا ( جميعا منه ) على إضافة المن إلى هاء الكناية . وهو عند أبي حاتم خبر ابتداء محذوف ، أي : ذلك ، أو هو منه . وقراءة الجماعة ظاهرة . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون

الصفحة التالية