تفسير سورة المنافقون الصفحة 554 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 554 من المصحف


بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَٰفِقُونَ قَالُوا۟ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ (1)


سورة المنافقون .مدنية في قول الجميع ، وهي إحدى عشرة آيةبسم الله الرحمن الرحيمإذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبونقوله تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله روى البخاري عن زيد بن أرقم قال : كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي ابن سلول يقول : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا . وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكر عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ; فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا ; فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني . فأصابني هم لم يصبني مثله ، فجلست في بيتي فأنزل الله عز وجل : إذا جاءك المنافقون إلى قوله : هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله إلى قوله : ليخرجن الأعز منها الأذل فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : " إن الله قد صدقك " خرجه الترمذي قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي الترمذي عن زيد بن أرقم قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبدر الماء ، وكان الأعراب يسبقونا إليه فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوله حجارة ، ويجعل النطع عليه حتى تجيء أصحابه . قال : فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه ، فانتزع حجرا فغاض الماء ; فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه ، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره - وكان من أصحابه - فغضب عبد الله بن أبي ثم قال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله - يعني الأعراب - وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام ; فقال عبد الله : إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدا بالطعام ، فليأكل هو ومن عنده . ثم قال لأصحابه : لئن رجعتم إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . قال زيد : وأنا ردف عمي فسمعت عبد الله بن أبي فأخبرت عمي ، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد . قال : فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني . قال : فجاء عمي إلي فقال : ما أردت إلى أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك والمنافقون . قال : فوقع علي من جرأتهم ما لم يقع على أحد . قال : فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قد خففت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ; فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا . ثم إن أبا بكر لحقني فقال : ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : ما قال شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي ; فقال : أبشر ! ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر . فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . وسئل حذيفة بن اليمان عن المنافق ، فقال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به . وهو اليوم شر منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأنهم كانوا يكتمونه وهم اليوم يظهرونه . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " . وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " . أخبر عليه السلام أن من جمع هذه الخصال كان منافقا ، وخبره صدق . وروي عن الحسن أنه ذكر له هذا الحديث فقال : إن بني يعقوب حدثوا فكذبوا ، ووعدوا فأخلفوا ، واؤتمنوا فخانوا . إنما هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين ، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال ; شفقا أن تقضي بهم إلى النفاق . وليس المعنى : أن من بدرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق . وقد مضى في سورة " التوبة " القول في هذا مستوفى والحمد لله .وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المؤمن إذا حدث صدق ، وإذا وعد أنجز ، وإذا اؤتمن وفى " . والمعنى : المؤمن الكامل إذا حدث صدق . والله أعلم .قوله تعالى : قالوا نشهد إنك لرسول الله قيل : معنى نشهد نحلف . فعبر عن الحلف بالشهادة ; لأن كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيب ; ومنه قول قيس بن ذريح .وأشهد عند الله أني أحبها فهذا لها عندي فما عندها لياويحتمل أن يكون ذلك محمولا على ظاهره أنهم يشهدون أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترافا بالإيمان ونفيا للنفاق عن أنفسهم ، وهو الأشبه .والله يعلم إنك لرسوله كما قالوه بألسنتهم .والله يشهد إن المنافقين لكاذبون أي فيما أظهروا من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم .وقال الفراء : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون بضمائرهم ، فالتكذيب راجع إلى الضمائر . وهذا يدل على أن الإيمان تصديق القلب ، وعلى أن الكلام الحقيقي كلام القلب . ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب . وقد مضى هذا المعنى في أول " البقرة " مستوفى وقيل : أكذبهم الله في أيمانهم وهو قوله تعالى : يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم .

ٱتَّخَذُوٓا۟ أَيْمَٰنَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا۟ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ (2)


قوله تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملونفيه ثلاث مسائل :الأولى : قوله تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة أي سترة . وليس يرجع إلى قوله : نشهد إنك لرسول الله وإنما يرجع إلى سبب الآية التي نزلت عليه ، حسب ما ذكره البخاري والترمذي عن ابن أبي أنه حلف ما قال وقد قال . وقال الضحاك : يعني حلفهم بالله إنهم لمنكم . وقيل : يعني بأيمانهم ما أخبر الرب عنهم في سورة " التوبة " إذ قال : يحلفون بالله ما قالوا .الثانية : من قال : أقسم بالله أو أشهد بالله أو أعزم بالله أو أحلف بالله ، أو أقسمت بالله أو أشهدت بالله أو أعزمت بالله أو أحلفت بالله ، فقال في ذلك كله " بالله " فلا خلاف أنها يمين . وكذلك عند مالك وأصحابه إن قال : أقسم أو أشهد أو أعزم أو أحلف ، ولم يقل " بالله " ، إذا أراد " بالله " . وإن لم يرد " بالله " فليس بيمين . وحكاه الكيا عن الشافعي ، قال الشافعي : إذا قال : أشهد بالله ، ونوى اليمين كان يمينا . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لو قال : أشهد بالله ، لقد كان كذا ، كان يمينا ، ولو قال : أشهد لقد كان كذا ، دون النية كان يمينا لهذه الآية ، لأن الله تعالى ذكر منهم الشهادة ثم قال : اتخذوا أيمانهم جنة .وعند الشافعي لا يكون ذلك يمينا وإن نوى اليمين ، لأن قوله تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة ليس يرجع إلى قوله : " قالوا نشهد " وإنما يرجع إلى ما في " التوبة " من قوله تعالى : يحلفون بالله ما قالوا .الثالثة : قوله تعالى : فصدوا عن سبيل الله أي أعرضوا ، وهو من الصدود . أو صرفوا المؤمنين عن إقامة حكم الله عليهم من القتل والسبي وأخذ الأموال ، فهو من الصد ، أو منعوا الناس عن الجهاد بأن يتخلفوا ويقتدي بهم غيرهم . وقيل : فصدوا اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام ، بأن يقولوا ها نحن كافرون بهم ، ولو كان محمد حقا لعرف هذا منا ، ولجعلنا نكالا . فبين الله أن حالهم لا يخفى عليه ، ولكن حكمه أن من أظهر الإيمان أجري عليه في الظاهر حكم الإيمان .إنهم ساء ما كانوا يعملون أي بئست أعمالهم الخبيثة - من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة وصدهم عن سبيل الله - أعمالا .

ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُوا۟ ثُمَّ كَفَرُوا۟ فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)


قوله تعالى : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهونهذا إعلام من الله تعالى بأن المنافق كافر . أي أقروا باللسان ثم كفروا بالقلب . وقيل : نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدوافطبع على قلوبهم أي ختم عليها بالكفرفهم لا يفقهون الإيمان ولا الخير . وقرأ زيد بن علي " فطبع الله على قلوبهم " .

وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا۟ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (4)


قوله تعالى : وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكونقوله تعالى : وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم أي هيئاتهم ومناظرهم .وإن يقولوا تسمع لقولهم يعني عبد الله بن أبي . قال ابن عباس : كان عبد الله بن أبي وسيما جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان ، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته . وصفه الله بتمام الصورة وحسن الإبانة . وقال الكلبي : المراد ابن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قشير ، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة . وفي صحيح مسلم : وقوله كأنهم خشب مسندة قال : كانوا رجالا أجمل شيء كأنهم خشب مسندة ، شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون ، أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام . وقيل : شبههم بالخشب التي قد تآكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها . وقرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي " خشب " بإسكان الشين . وهي قراءة البراء بن عازب واختيار أبي عبيد ، لأن واحدتها خشبة . كما تقول : بدنة وبدن ، وليس في اللغة فعلة يجمع على فعل . ويلزم من ثقلها أن تقول : البدن ، فتقرأ " والبدن " . وذكر اليزيدي أنه جماع الخشباء ، كقوله عز وجل : وحدائق غلبا واحدتها حديقة غلباء . وقرأ الباقون بالتثقيل وهي رواية البزي عن ابن كثير وعياش عن أبي عمرو ، وأكثر الروايات عن عاصم . واختاره أبو حاتم ، كأنه جمع خشاب وخشب ، نحو ثمرة وثمار وثمر . وإن شئت جمعت خشبة على خشب كما قالوا : بدنة وبدن وبدن . وقد روي عن ابن المسيب فتح الخاء والشين في " خشب " . قال سيبويه : خشبة وخشب ، مثل بدنة وبدن ، قال : ومثله بغير هاء أسد وأسد ، ووثن ووثن وتقرأ خشب ، وهو جمع الجمع ، خشبة وخشاب وخشب ، مثل ثمرة وثمار وثمر . والإسناد الإمالة ، تقول : أسندت الشيء أي أملته . و " مسندة " للتكثير ; أي استندوا إلى الأيمان بحقن دمائهم .قوله تعالى : يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو أي كل أهل صيحة عليهم هم العدو . ف " هم العدو " في موضع المفعول الثاني على أن الكلام لا ضمير فيه . يصفهم بالجبن والخور . قال مقاتل والسدي : أي إذا نادى مناد في العسكر أن انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون ; لما في قلوبهم من الرعب . كما قال الشاعر وهو الأخطل :ما زلت تحسب كل شيء بعدهم خيلا تكر عليهم ورجالاوقيل : يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو كلام ضميره فيه لا يفتقر إلى ما بعد ; وتقديره : يحسبون كل صيحة عليهم أنهم قد فطن بهم وعلم بنفاقهم ; لأن للريبة خوفا . ثم استأنف الله خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : " هم العدو " وهذا معنى قول الضحاك وقيل : يحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم ; فهم أبدا وجلون من أن ينزل الله فيهم أمرا يبيح به دماءهم ، ويهتك به أستارهم . وفي هذا المعنى قول الشاعر :فلو أنها عصفورة لحسبتها مسومة تدعو عبيدا وأزنمابطن من بني يربوع .ثم وصفهم الله بقوله : هم العدو فاحذرهم حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم . وفي قوله تعالى : فاحذرهم وجهان : أحدهما : فاحذر أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم .الثاني : فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك ." قاتلهم الله " أي لعنهم الله قاله ابن عباس وأبو مالك . وهي كلمة ذم وتوبيخ . وقد تقول العرب : قاتله الله ما أشعره ! يضعونه موضع التعجب . وقيل : معنى قاتلهم الله أي أحلهم محل من قاتله عدو قاهر ; لأن الله تعالى قاهر لكل معاند . حكاه ابن عيسى ." أنى يؤفكون " أي يكذبون ; قاله ابن عباس . قتادة : معناه يعدلون عن الحق . الحسن : معناه يصرفون عن الرشد . وقيل : معناه كيف تضل عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل ; وهو من الإفك وهو الصرف . و " أنى " بمعنى كيف ; وقد تقدم .

الصفحة التالية