تفسير سورة المعارج الصفحة 569 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 569 من المصحف


يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍۭ بِبَنِيهِ (11)


قوله تعالى : " يبصرونهم " أي يرونهم . وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس . فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه ; لاشتغالهم بأنفسهم . وقال ابن عباس : يتعارفون ساعة ثم لا يتعارفون بعد تلك الساعة . وفي بعض الأخبار أن أهل القيامة يفرون من المعارف مخافة المظالم . وقال ابن عباس أيضا : " يبصرونهم " يبصر بعضهم بعضا فيتعارفون ثم يفر بعضهم من بعض . فالضمير في " يبصرونهم " على هذا للكفار ، والميم للأقرباء . وقال مجاهد : المعنى يبصر الله المؤمنين الكفار في يوم القيامة ; فالضمير في " يبصرونهم " للمؤمنين ، والهاء والميم للكفار . ابن زيد : المعنى يبصر الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا ; فالضمير في " يبصرونهم " للتابعين ، والهاء والميم للمتبوعين . وقيل : إنه يبصر المظلوم ظالمه والمقتول قاتله . وقيل : " يبصرونهم " يرجع إلى الملائكة ; أي يعرفون أحوال الناس فيسوقون كل فريق إلى ما يليق بهم . وتم الكلام عند قوله : " يبصرونهم " . ثم قال :يود المجرم أي يتمنى الكافر .لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه يعني من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من أقاربه فلا يقدر .

وَصَٰحِبَتِهِۦ وَأَخِيهِ (12)


زوجته وعشيرته .

وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِى تُـْٔوِيهِ (13)


وفصيلته أي عشيرته .التي تؤويه تنصره ; قاله مجاهد وابن زيد . وقال مالك : أمه التي تربيه . حكاه الماوردي ورواه عنه أشهب . وقال أبو عبيدة : الفصيلة دون القبيلة . وقال ثعلب : هم آباؤه الأدنون . وقال المبرد : الفصيلة القطعة من أعضاء الجسد ، وهي دون القبيلة . وسميت عترة الرجل فصيلته تشبيها بالبعض منه . وقد مضى في سورة " الحجرات " القول في القبيلة وغيرها . وهنا مسألة ، وهي : إذا حبس على فصيلته أو أوصى لها فمن ادعى العموم حمله على العشيرة ، ومن ادعى الخصوص حمله على الآباء ; الأدنى فالأدنى . والأول أكثر في النطق ، والله أعلم . ومعنى : تؤويه تضمه وتؤمنه من خوف إن كان به .

وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14)


ومن في الأرض جميعا أي ويود لو فدي بهم لافتدى" ثم ينجيه " أي يخلصه ذلك الفداء . فلا بد من هذا الإضمار ، كقوله : وإنه لفسق أي وإن أكله لفسق . وقيل : يود المجرم يقتضي جوابا بالفاء ; كقوله : ودوا لو تدهن فيدهنون . والجواب في هذه الآية " ثم ينجيه " لأنها من حروف العطف ; أي يود المجرم لو يفتدي فينجيه الافتداء .

كَلَّآ إِنَّهَا لَظَىٰ (15)


قوله تعالى : " كلا " تقدم القول في " كلا " وأنها تكون بمعنى حقا ، وبمعنى لا . وهي هنا تحتمل الأمرين ; فإذا كانت بمعنى حقا كان تمام الكلام " ينجيه " . وإذا كانت بمعنى لا كان تمام الكلام عليها ; أي ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء ، ثم قال :إنها لظى أي هي جهنم ; أي تتلظى نيرانها ; كقوله تعالى : فأنذرتكم نارا تلظى واشتقاق لظى من التلظي . والتظاء النار التهابها ، وتلظيها تلهبها . وقيل : كان أصلها " لظظ " أي ما دامت لدوام عذابها ; فقلبت إحدى الظاءين ألفا فبقيت لظى . وقيل : هي الدركة الثانية من طبقات جهنم . وهي اسم مؤنث معرفة فلا ينصرف .

نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ (16)


نزاعة للشوى قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم في رواية أبي بكر عنه والأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي " نزاعة " بالرفع . وروى أبو عمرو عن عاصم " نزاعة " بالنصب . فمن رفع فله خمسة أوجه : أحدها أن تجعل " لظى " خبر إن وترفع " نزاعة " بإضمار هي ; فمن هذا الوجه يحسن الوقف على " لظى " . والوجه الثاني أن تكون " لظى " و " نزاعة " خبران لإن . كما تقول : إنه خلق مخاصم . والوجه الثالث أن تكون " نزاعة " بدلا من " لظى " و " لظى " خبر إن . والوجه الرابع أن تكون " لظى " بدلا من اسم إن و " نزاعة " خبر إن . والوجه الخامس : أن يكون الضمير في " إنها " للقصة ، " لظى " مبتدأ و " نزاعة " خبر الابتداء ، والجملة خبر إن ، والمعنى أن القصة والخبر " لظى نزاعة للشوى " ومن نصب " نزاعة " حسن له أن يقف على " لظى " وينصب " نزاعة " على القطع من " لظى " إذ كانت نكرة متصلة بمعرفة . ويجوز نصبها على الحال المؤكدة ; كما قال : وهو الحق مصدقا . ويجوز أن تنصب على معنى أنها تتلظى نزاعة ; أي في حال نزعها للشوى . والعامل فيها ما دل عليه الكلام من معنى التلظي . ويجوز أن يكون حالا ; على أنه حال للمكذبين بخبرها . ويجوز نصبها على القطع ; كما تقول : مررت بزيد العاقل الفاضل . فهذه خمسة أوجه للنصب أيضا . والشوى : جمع شواة وهي جلدة الرأس . قال الأعشى :قالت قتيلة ما له قد جللت شيبا شواتهوقال آخر :لأصبحت هدتك الحوادث هدة لها فشواة الرأس باد قتيرهاالقتير : الشيب . وفي الصحاح : " والشوى : جمع شواة وهي جلدة الرأس " . والشوى : اليدان والرجلان والرأس من الآدميين ، وكل ما ليس مقتلا . يقال : رماه فأشواه إذا لم يصب المقتل . قال الهذلي :فإن من القول التي لا شوى لها إذا زل عن ظهر اللسان انفلاتهايقول : إن من القول كلمة لا تشوي ، ولكن تقتل . قال الأعشى :قالت قتيلة ما له قد جللت شيبا شواتهقال أبو عبيد : أنشدها أبو الخطاب الأخفش أبا عمرو بن العلاء فقال له : " صحفت ! إنما هو سراته ; أي نواحيه ، فسكت أبو الخطاب ثم قال لنا : بل هو صحف ، إنما هو شواته " . وشوى الفرس : قوائمه ; لأنه يقال : عبل الشوى ، ولا يكون هذا للرأس ; لأنهم وصفوا الخيل بإسالة الخدين وعتق الوجه وهو رقته . والشوى : رذال المال . والشوى : هو الشيء الهين اليسير . وقال ثابت البناني والحسن : نزاعة للشوى أي لمكارم وجهه . أبو العالية : لمحاسن وجهه . قتادة : لمكارم خلقته وأطرافه . وقال الضحاك : تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا . وقال الكسائي : هي المفاصل . وقال بعض الأئمة : هي القوائم والجلود . قال امرؤ القيس :سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا له حجبات مشرفات على الفالوقال أبو صالح : أطراف اليدين والرجلين . قال الشاعر :إذا نظرت عرفت الفخر منها وعينيها ولم تعرف شواهايعني أطرافها . وقال الحسن أيضا : الشوى الهام .

تَدْعُوا۟ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ (17)


تدعو من أدبر وتولى أي تدعو لظى من أدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الإيمان . ودعاؤها أن تقول : إلي يا مشرك ، إلي يا كافر . وقال ابن عباس : تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح : إلي يا كافر ، إلي يا منافق ; ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب . وقال ثعلب : تدعو أي تهلك . تقول العرب : دعاك الله ; أي أهلكك الله . وقال الخليل : إنه ليس كالدعاء " تعالوا " ولكن دعوتها إياهم تمكنها من تعذيبهم . وقيل : الداعي خزنة جهنم ; أضيف دعاؤهم إليها . وقيل هو ضرب مثل ; أي إن مصير من أدبر وتولى إليها ; فكأنها الداعية لهم . ومثله قول الشاعر :ولقد هبطنا الواديين فواديا يدعو الأنيس به العضيض الأبكمالعضيض الأبكم : الذباب . وهو لا يدعو وإنما طنينه نبه عليه فدعا إليه .قلت : القول الأول هو الحقيقة ; حسب ما تقدم بيانه بآي القرآن والأخبار الصحيحة . القشيري : ودعاء لظى بخلق الحياة فيها حين تدعو ، وخوارق العادة غدا كثيرة .

وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰٓ (18)


وجمع فأوعى أي جمع المال فجعله في وعائه ومنع منه حق الله تعالى ; فكان جموعا منوعا . قال الحكم : كان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله يقول : وجمع فأوعى .

إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)


قوله تعالى : إن الإنسان خلق هلوعا يعني الكافر ; عن الضحاك . والهلع في اللغة : أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه . وكذلك قال قتادة ومجاهد وغيرهما . وقد هلع ( بالكسر ) يهلع فهو هليع وهلوع ; على التكثير . والمعنى أنه لا يصبر على خير ولا شر حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي . عكرمة : هو الضجور . الضحاك : هو الذي لا يشبع . والمنوع : هو الذي إذا أصاب المال منع منه حق الله تعالى . وقال ابن كيسان : خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويرضيه ، ويهرب مما يكرهه ويسخطه ، ثم تعبده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره . وقال أبو عبيدة : الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر ، وإذا مسه الضر لم يصبر ; قاله ثعلب . وقال ثعلب أيضا : قد فسر الله الهلوع وهو الذي إذا ناله الشر أظهر شدة الجزع وإذا ناله الخير بخل به ومنعه الناس . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " شر ما أعطي العبد شح هالع وجبن خالع " . والعرب تقول : ناقة هلواعة وهلواع ; إذا كانت سريعة السير خفيفة . قال :صكاء ذعلبة إذا استدبرتها حرج إذا استقبلتها هلواعالذعلب والذعلبة الناقة السريعة .

إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعًا (20)


وهو الذي إذا ناله الشر أظهر شدة الجزع

وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعًا (21)


و " جزوعا " و " منوعا " نعتان لهلوع . على أن ينوي بهما التقديم قبل إذا . وقيل : هو خبر كان مضمرة .

إِلَّا ٱلْمُصَلِّينَ (22)


قوله تعالى : إلا المصلين دل على أن ما قبله في الكفار ; فالإنسان اسم جنس بدليل الاستثناء الذي يعقبه كقوله تعالى : إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا . قال النخعي : المراد بالمصلين الذي يؤدون الصلاة المكتوبة . ابن مسعود : الذين يصلونها لوقتها ، فأما تركها فكفر . وقيل : هم الصحابة . وقيل : هم المؤمنون عامة ، فإنهم يغلبون فرط الجزع بثقتهم بربهم ويقينهم .

ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ (23)


الذين هم على صلاتهم دائمون أي على مواقيتها . وقال عقبة بن عامر : هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يمينا ولا شمالا . والدائم الساكن ، ومنه : نهي عن البول في الماء الدائم ، أي الساكن . وقال ابن جريج والحسن : هم الذين يكثرون فعل التطوع منها .

وَٱلَّذِينَ فِىٓ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24)


والذين في أموالهم حق معلوم يريد الزكاة المفروضة ، قاله قتادة وابن سيرين . وقال مجاهد : سوى الزكاة . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : صلة رحم وحمل كل . والأول أصح ; لأنه وصف الحق بأنه معلوم ، وسوى الزكاة ليس بمعلوم ، إنما هو على قدر الحاجة ، وذلك يقل ويكثر .

لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ (25)


للسائل والمحروم تقدم في الذاريات .

وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ (26)


والذين يصدقون بيوم الدين أي بيوم الجزاء وهو يوم القيامة . وقد مضى في سورة " الفاتحة " القول فيه .

وَٱلَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27)


أي خائفون .

إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)


قال ابن عباس : لمن أشرك أو كذب أنبياءه .وقيل : لا يأمنه أحد , بل الواجب على كل أحد أن يخافه ويشفق منه .

وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَٰفِظُونَ (29)


والذين هم لفروجهم حافظون تقدم القول فيه في سورة " قد أفلح المؤمنون " .

إِلَّا عَلَىٰٓ أَزْوَٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)


إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين تقدم القول فيه في سورة " قد أفلح المؤمنون " .

فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ (31)


فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون تقدم القول فيه في سورة " قد أفلح المؤمنون " .

وَٱلَّذِينَ هُمْ لِأَمَٰنَٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَ (32)


والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون تقدم أيضا .

وَٱلَّذِينَ هُم بِشَهَٰدَٰتِهِمْ قَآئِمُونَ (33)


والذين هم بشهاداتهم قائمون على من كانت عليه من قريب أو بعيد ، يقومون بها عند الحاكم ولا يكتمونها ولا يغيرونها . وقد مضى القول في الشهادة وأحكامها في سورة " البقرة " . وقال ابن عباس : بشهاداتهم أن الله واحد لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله . وقرئ " لأمانتهم " على التوحيد . وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن . فالأمانة اسم جنس ، فيدخل فيها أمانات الدين ، فإن الشرائع أمانات ائتمن الله عليها عباده . ويدخل فيها أمانات الناس من الودائع ; وقد مضى هذا كله مستوفى في سورة " النساء " . وقرأ عباس الدوري عن أبي عمرو ويعقوب " بشهاداتهم " جمعا . الباقون بشهادتهم على التوحيد ، لأنها تؤدي عن الجمع . والمصدر قد يفرد وإن أضيف إلى جمع ، كقوله تعالى : إن أنكر الأصوات لصوت الحمير . وقال الفراء : ويدل على أنها بشهادتهم توحيدا قوله تعالى : وأقيموا الشهادة لله .

وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)


والذين هم على صلاتهم يحافظون قال قتادة : على وضوئها وركوعها وسجودها . وقال ابن جريج : التطوع . وقد مضى في سورة " المؤمنون " . فالدوام خلاف المحافظة . فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل ، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها ، ويقيموا أركانها ، ويكملوها بسننها وآدابها ، ويحفظوها من الإحباط باقتراب المأثم . فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات ، والمحافظة إلى أحوالها .

أُو۟لَٰٓئِكَ فِى جَنَّٰتٍ مُّكْرَمُونَ (35)


أولئك في جنات مكرمون أي أكرمهم الله فيها بأنواع الكرامات .

فَمَالِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)


قوله تعالى : فمال الذين كفروا قبلك مهطعين قال الأخفش : مسرعين . قال :بمكة أهلها ولقد أراهم إليه مهطعين إلى السماعوالمعنى : ما بالهم يسرعون إليك ويجلسون حواليك ولا يعملون بما تأمرهم . وقيل : أي ما بالهم مسرعين في التكذيب لك . وقيل : أي ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع منك ليعيبوك ويستهزئوا بك . وقال عطية : مهطعين : معرضين . الكلبي : ناظرين إليك تعجبا . وقال قتادة : عامدين . والمعنى متقارب ; أي ما بالهم مسرعين عليك ، مادين أعناقهم ، مدمني النظر إليك . وذلك من نظر العدو . وهو منصوب على الحال . نزلت في جمع من المنافقين المستهزئين ، كانوا يحضرونه - عليه السلام - ولا يؤمنون به . و " قبلك " أي نحوك .

عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ (37)


عن اليمين وعن الشمال عزين أي عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وشماله حلقا حلقا وجماعات . والعزين : جماعات في تفرقة ، قاله أبو عبيدة . ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج على أصحابه فرآهم حلقا فقال : " مالي أراكم عزين . ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها . قالوا : وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال : يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف " خرجه مسلم وغيره . وقال الشاعر :ترانا عنده والليل داج على أبوابه حلقا عزيناأي متفرقين . وقال الراعي :أخليفة الرحمن إن عشيرتي أمسى سراتهم إليك عزيناأي متفرقين . وقال آخر :كأن الجماجم من وقعها خناطيل يهوين شتى عزيناأي متفرقين . وقال آخر :فلما أن أتين على أضاخ ضرحن حصاه أشتاتا عزيناوقال الكميت :ونحن وجندل باغ تركنا كتائب جندل شتى عزيناوقال عنترة :وقرن قد تركت لذي ولي عليه الطير كالعصب العزينوواحد عزين عزة ، جمع بالواو والنون ليكون ذلك عوضا مما حذف منها . وأصلها عزهة ، فاعتلت كما اعتلت سنة فيمن جعل أصلها سنهة . وقيل : أصلها عزوة ، من عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره . فكل واحد من الجماعات مضافة إلى الأخرى ، والمحذوف منها الواو . وفي الصحاح : " والعزة الفرقة من الناس ، والهاء عوض من الياء ، والجمع عزى - على فعل - وعزون وعزون أيضا بالضم ، ولم يقولوا عزات كما قالوا : ثبات " . قال الأصمعي : يقال في الدار عزون ، أي أصناف من الناس . و عن اليمين وعن الشمال متعلق بمهطعين ويجوز أن يتعلق بعزين على حد قولك : أخذته عن زيد .

أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)


أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم قال المفسرون : كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه فيكذبونه ويكذبون عليه ، ويستهزئون بأصحابه ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم ، ولئن أعطوا منها شيئا لنعطين أكثر منه ; فنزلت : " أيطمع . . . " الآية . وقيل : كان المستهزئون خمسة أرهط . وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف والأعرج " أن يدخل " بفتح الياء وضم الخاء مسمى الفاعل . ورواه المفضل عن عاصم . الباقون " أن يدخل " على الفعل المجهول .

كَلَّآ إِنَّا خَلَقْنَٰهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (39)


" كلا " لا يدخلونها .ثم ابتدأ فقال : إنا خلقناهم مما يعلمون أي إنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ; كما خلق سائر جنسهم . فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة ، وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى . وقيل : كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم . فقال : إنا خلقناهم مما يعلمون من القذر ، فلا يليق بهم هذا التكبر . وقال قتادة في هذه الآية : إنما خلقت يا ابن آدم من قذر فاتق الله . وروي أن مطرف بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز فقال له : يا عبد الله ، ما هذه المشية التي يبغضها الله ؟ فقال له : أتعرفني ؟ قال : نعم ، أولك نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة . فمضى المهلب وترك مشيته . نظم الكلام محمود الوراق فقال :عجبت من معجب بصورته وكان في الأصل نطفة مذرهوهو غدا بعد حسن صورته يصير في اللحد جيفة قذرهوهو على تيهه ونخوته ما بين ثوبيه يحمل العذرهوقال آخر :هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة وهو بخمس من الأوساخ مضروبأنف يسيل وأذن ريحها سهك والعين مرمصة والثغر ملهوبيا ابن التراب ومأكول التراب غدا قصر فإنك مأكول ومشروبوقيل : معناه من أجل ما يعلمون ; وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب . كقول الشاعر وهو الأعشى :أأزمعت من آل ليلى ابتكارا وشطت على ذي هوى أن تزاراأي من أجل ليلى .

الصفحة السابقة الصفحة التالية