تفسير سورة المزمل الصفحة 574 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 574 من المصحف


بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ (1)


سورة المزملوهي سبع وعشرون آية . مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر .وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين منها : واصبر على ما يقولون والتي تليها ; ذكره الماوردي . وقال الثعلبي : قوله تعالى : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى إلى آخر السورة ; فإنه نزل بالمدينة .بسم الله الرحمن الرحيميا أيها المزملفيه مسائل :الأولى : قوله تعالى : يا أيها المزمل قال الأخفش سعيد : المزمل أصله المتزمل ; فأدغمت التاء في الزاي وكذلك المدثر . وقرأ أبي بن كعب على الأصل ( المتزمل ) و ( المتدثر ) . وسعيد : المزمل . وفي أصل المزمل قولان : أحدهما : أنه المحتمل ; يقال : زمل الشيء إذا حمله ، ومنه الزاملة ; لأنها تحمل القماش . الثاني : أن المزمل هو المتلفف ; يقال : تزمل وتدثر بثوبه إذا تغطى . وزمل غيره إذا غطاه ، وكل شيء لفف فقد زمل ودثر ; قال امرؤ القيس :[ كأن أبانا في أفانين ودقه ] كبير أناس في بجاد مزملالثانية : قوله تعالى : يا أيها المزمل هذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه ثلاثة أقوال :الأول : قول عكرمة : يا أيها المزمل بالنبوة والملتزم للرسالة . وعنه أيضا : يا أيها الذي زمل هذا الأمر أي حمله ثم فتر ، وكان يقرأ : يا أيها المزمل بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها على حذف المفعول ، وكذلك المدثر والمعنى المزمل نفسه والمدثر نفسه ، أو الذي زمله غيره .الثاني : يا أيها المزمل بالقرآن ، قاله ابن عباس .الثالث المزمل بثيابه ، قال قتادة وغيره . قال النخعي : كان متزملا بقطيفة . عائشة : بمرط طوله أربعة عشر ذراعا ، نصفه علي وأنا نائمة ، ونصفه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ، والله ما كان خزا ولا قزا ولا مرعزاء ولا إبريسما ولا صوفا ، كان سداه شعرا ، ولحمته وبرا ، ذكره الثعلبي .قلت : وهذا القول من عائشة يدل على أن السورة مدنية ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبن بها إلا في المدينة . وما ذكر من أنها مكية لا يصح . والله أعلم .وقال الضحاك : تزمل بثيابه لمنامه . وقيل : بلغه من المشركين سوء قول فيه ، فاشتد عليه فتزمل في ثيابه وتدثر ، فنزلت : يا أيها المزمل و يا أيها المدثر .وقيل : كان هذا في ابتداء ما أوحي إليه ، فإنه لما سمع قول الملك ونظر إليه أخذته الرعدة فأتى أهله فقال : " زملوني دثروني " روي معناه عن ابن عباس . وقالت الحكماء : إنما خاطبه بالمزمل والمدثر في أول الأمر ; لأنه لم يكن بعد ادثر شيئا من تبليغ الرسالة .قال ابن العربي : واختلف في تأويل : يا أيها المزمل فمنهم من حمله على حقيقته ، قيل له : يا من تلفف في ثيابه أو في قطيفته قم ; قاله إبراهيم وقتادة . ومنهم من حمله على المجاز ، كأنه قيل له : يا من تزمل بالنبوة ; قاله عكرمة . وإنما يسوغ هذا التفسير لو كانت الميم مفتوحة مشددة بصيغة المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأما وهو بلفظ الفاعل فهو باطل .قلت : وقد بينا أنها على حذف المفعول : وقد قرئ بها ، فهي صحيحة المعنى . قال : وأما من قال إنه زمل القرآن فهو صحيح في المجاز ، لكنه قد قدمنا أنه لا يحتاج إليه .الثالثة : قال السهيلي : ليس المزمل باسم من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يعرف به كما ذهب إليه بعض الناس وعدوه في أسمائه - عليه السلام - ، وإنما المزمل اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب ، وكذلك المدثر .وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان :إحداهما الملاطفة ; فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها ; كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي حين غاضب فاطمة - رضي الله عنهما - ، فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له : " قم يا أبا تراب " إشعارا له أنه غير عاتب عليه ، وملاطفة له . وكذلك قوله - عليه السلام - لحذيفة : " قم يا نومان " وكان نائما ملاطفة له ، وإشعارا لترك العتب والتأنيب . فقول الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - : يا أيها المزمل قم فيه تأنيس وملاطفة ; ليستشعر أنه غير عاتب عليه .والفائدة الثانية : التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه ; لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة .

قُمِ ٱلَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)


قوله تعالى : قم الليل قراءة العامة بكسر الميم لالتقاء الساكنين . وقرأ أبو السمال بضم الميم إتباعا لضمة القاف . وحكى الفتح لخفته . قال عثمان بن جني : الغرض بهذه الحركة التبليغ بها هربا من التقاء الساكنين ، فبأي حركة تحركت فقد وقع الغرض . وهو من الأفعال القاصرة غير المتعدية إلى مفعول ، فأما ظرف الزمان والمكان فسائغ فيه ، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة ; لا تقول : قمت الدار حتى تقول قمت وسط الدار وخارج الدار . وقد قيل : إن ( قم ) هنا معناه صل ; عبر به عنه واستعير له حتى صار عرفا بكثرة الاستعمال .( الليل ) حد الليل : من غروب الشمس إلى طلوع الفجر . وقد تقدم بيانه في سورة ( البقرة ) واختلف : هل كان قيامه فرضا وحتما ، أو كان ندبا وحضا ؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان حتما وفرضا ; وذلك أن الندب والحض لا يقع على بعض الليل دون بعض ; لأن قيامه ليس مخصوصا به وقت دون وقت . وأيضا فقد جاء التوقيت بذلك عن عائشة وغيرها على ما يأتي . واختلف أيضا : هل كان فرضا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده ، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء ، أو عليه وعلى أمته ؟ ثلاثة أقوال :الأول : قول سعيد بن جبير لتوجه الخطاب إليه خاصة .الثاني : قول ابن عباس ، قال : كان قيام الليل فريضة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى الأنبياء قبله .الثالث : قول عائشة وابن عباس أيضا وهو الصحيح ; كما في صحيح مسلم عن زرارة بن أوفى أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله . . . الحديث ، وفيه : فقلت لعائشة : أنبئيني عن قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالت : ألست تقرأ : يا أيها المزمل قلت : بلى ! قالت فإن الله - عز وجل - افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حولا ، وأمسك الله - عز وجل - خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ، حتى أنزل الله - عز وجل - في آخر هذه السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة . وذكر الحديث .وذكر وكيع ويعلى قالا : حدثنا مسعر عن سماك الحنفي قال : سمعت ابن عباس يقول لما أنزل أول يا أيها المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها ، وكان بين أولها وآخرها نحو من سنة .وقال سعيد بن جبير : مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عشر سنين يقومون الليل ، فنزل بعد عشر سنين : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل فخفف الله عنهم .قوله تعالى : إلا قليلا استثناء من الليل ، أي صل الليل كله إلا يسيرا منه ; لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن ، فاستثنى منه القليل لراحة الجسد . والقليل من الشيء ما دون النصف ; فحكي عن وهب بن منبه أنه قال : القليل ما دون المعشار والسدس . وقال الكلبي ومقاتل : الثلث .

نِّصْفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)


ثم قال تعالى : نصفه أو انقص منه قليلا فكان ذلك تخفيفا إذ لم يكن زمان القيام محدودا ، فقام الناس حتى ورمت أقدامهم ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : علم أن لن تحصوه .وقال الأخفش : ( نصفه ) أي أو نصفه ; يقال : أعطه درهما درهمين ثلاثة : يريد : أو درهمين أو ثلاثة .وقال الزجاج : نصفه بدل من الليل و ( إلا قليلا ) استثناء من النصف . والضمير في ( منه ) و ( عليه ) للنصف . المعنى : قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد عليه قليلا إلى الثلثين ; فكأنه قال : قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه .وقيل : إن نصفه بدل من قوله : قليلا وكان مخيرا بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه ، وبين الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه ; كأن تقدير الكلام : قم الليل إلا نصفه ، أو أقل من نصفه ، أو أكثر من نصفه .وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ينزل الله - عز وجل - إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول ، فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر . ونحوه عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا وهو يدل على ترغيب قيام ثلثي الليل .وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا مضى شطر الليل - أو ثلثاه - ينزل الله . . . " الحديث . رواه من طريقين عن أبي هريرة هكذا على الشك .وقد جاء في كتاب النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله - عز وجل - يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ، ثم يأمر مناديا يقول : هل من داع يستجاب له ؟ هل من مستغفر يغفر له ؟ هل من سائل يعطى ؟ صححه أبو محمد عبد الحق ; فبين هذا الحديث مع صحته معنى النزول ، وأن ذلك يكون عند نصف الليل . وخرج ابن ماجه من حديث ابن شهاب ، عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة فيقول من يسألني فأعطيه ؟ من يدعوني فأستجيب له ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ حتى يطلع الفجر . فكانوا يستحبون صلاة آخر الليل على أوله .قال علماؤنا : وبهذا الترتيب انتظم الحديث والقرآن ، فإنهما يبصران من مشكاة واحدة . وفي الموطأ وغيره من حديث ابن عباس : بت عند خالتي ميمونة حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ، استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا . وذكر الحديث .اختلف العلماء في الناسخ للأمر بقيام الليل ; فعن ابن عباس وعائشة أن الناسخ للأمر بقيام الليل قوله تعالى : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل إلى آخر السورة . وقيل قوله تعالى : علم أن لن تحصوه .وعن ابن عباس أيضا : هو منسوخ بقوله تعالى : علم أن سيكون منكم مرضى .وعن عائشة أيضا والشافعي ومقاتل وابن كيسان : هو منسوخ بالصلوات الخمس .وقيل الناسخ لذلك قوله تعالى : فاقرؤوا ما تيسر منه . قال أبو عبد الرحمن السلمي : لما نزلت : يا أيها المزمل قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ، ثم نزل قوله تعالى : فاقرؤوا ما تيسر منه . قال بعض العلماء : وهو فرض نسخ به فرض ، كان على النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة لفضله ; كما قال تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك .قلت : القول الأول يعم جميع هذه الأقوال ، وقد قال تعالى : وأقيموا الصلاة فدخل فيها قول من قال إن الناسخ الصلوات الخمس .وقد ذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو على قدر حلب شاة . وعن الحسن أيضا أنه قال في هذه الآية : الحمد لله تطوع بعد الفريضة . وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ; لما جاء في قيامه من الترغيب والفضل في القرآن والسنة .وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كنت أجعل للنبي - صلى الله عليه وسلم - حصيرا يصلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به ، فلما رأى جماعتهم كره ذلك ، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ، فدخل البيت كالمغضب ، فجعلوا يتنحنحون ويتفلون فخرج إليهم فقال : " أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل من الثواب ، حتى تملوا من العمل ، وإن خير العمل أدومه وإن قل " . فنزلت : يا أيها المزمل فكتب عليهم ، فأنزل بمنزلة الفريضة ، حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به ، فمكثوا ثمانية أشهر ، فرحمهم الله وأنزل : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل فردهم الله إلى الفريضة ، ووضع عنهم قيام الليل إلا ما تطوعوا به .قلت : حديث عائشة هذا ذكره الثعلبي ، ومعناه ثابت في الصحيح إلى قوله : ( وإن قل ) وباقيه يدل على أن قوله تعالى : يا أيها المزمل نزل بالمدينة وأنهم مكثوا ثمانية أشهر يقومون . وقد تقدم عنها في صحيح مسلم : حولا . وحكى الماوردي عنها قولا ثالثا وهو ستة عشر شهرا ، لم يذكر غيره عنها .وذكر عن ابن عباس أنه كان بين أول المزمل وآخرها سنة ; قال : فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان فرضا عليه .وفي نسخة عنه قولان : أحدهما أنه كان فرضه عليه إلى أن قبضه الله تعالى . الثاني أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته . وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان : أحدهما : المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين ، يريد قول ابن عباس حولا ، وقول عائشة ستة عشر شهرا . الثاني : أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ زيادة في التكليف ، ليميزه بفعل الرسالة ; قاله ابن جبير .قلت : هذا خلاف ما ذكره الثعلبي عن سعيد بن جبير حسب ما تقدم فتأمله . وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى .

أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا (4)


قوله تعالى : ورتل القرآن ترتيلا أي لا تعجل بقراءة القرآن بل اقرأه في مهل وبيان مع تدبر المعاني . وقال الضحاك : اقرأه حرفا حرفا .وقال مجاهد : أحب الناس في القراءة إلى الله أعقلهم عنه . والترتيل التنضيد والتنسيق وحسن النظام ; ومنه ثغر رتل ورتل ، بكسر العين وفتحها : إذا كان حسن التنضيد . وتقدم بيانه في مقدمة الكتاب .وروى الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر برجل يقرأ آية ويبكي ، فقال : " ألم تسمعوا إلى قول الله - عز وجل - : ورتل القرآن ترتيلا هذا الترتيل " . وسمع علقمة رجلا يقرأ قراءة حسنة فقال : لقد رتل القرآن ، فداه أبي وأمي ، وقال أبو بكر بن طاهر : تدبر في لطائف خطابه ، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه ، وقلبك بفهم معانيه ، وسرك بالإقبال عليه .وروى عبد الله بن عمرو قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة ، فيوقف في أول درج الجنة ويقال له اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها خرجه أبو داود وقد تقدم في أول الكتاب . وروى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمد صوته بالقراءة مدا .

إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)


قوله تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلاقوله تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا هو متصل بما فرض من قيام الليل ، أي سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل قولا ثقيلا يثقل حمله ; لأن الليل للمنام ، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل شديد على النفس ومجاهدة للشيطان ، فهو أمر يثقل على العبد .وقيل : إنا سنوحي إليك القرآن ، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه .قال قتادة : ثقيل والله فرائضه وحدوده . مجاهد : حلاله وحرامه . الحسن : العمل به .أبو العالية : ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال والحرام . محمد بن كعب : ثقيلا على المنافقين . وقيل : على الكفار ; لما فيه من الاحتجاج عليهم ، والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم ، والكشف عما حرفه أهل الكتاب .السدي : ثقيل بمعنى كريم ; مأخوذ من قولهم : فلان ثقيل علي ، أي يكرم علي .الفراء : ( ثقيلا ) رزينا ليس بالخفيف السفساف لأنه كلام ربنا . وقال الحسين بن الفضل : ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ، ونفس مزينة بالتوحيد .وقال ابن زيد : هو والله ثقيل مبارك ، كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة .وقيل : ( ثقيلا ) أي ثابتا كثبوت الثقيل في محله ، ويكون معناه أنه ثابت الإعجاز ، لا يزول إعجازه أبدا . وقيل : هو القرآن نفسه ; كما جاء في الخبر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها - يعني صدرها - على الأرض ، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه .وفي الموطأ وغيره أنه - عليه السلام - سئل : كيف يأتيك الوحي ؟ فقال : " أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول " . قالت عائشة - رضي الله عنها - : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا .قال ابن العربي : وهذا أولى ; لأنه الحقيقة ، وقد جاء : وما جعل عليكم في الدين من حرج . وقال - عليه السلام - : بعثت بالحنيفية السمحة . وقيل : القول في هذه السورة : هو قول لا إله إلا الله ; إذ في الخبر : خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان ; ذكره القشيري .

إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْـًٔا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)


قوله تعالى : إن ناشئة الليل قال العلماء : ناشئة الليل أي أوقاته وساعاته ، لأن أوقاته تنشأ أولا فأولا ; يقال : نشأ الشيء ينشأ : إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شيء ، فهو ناشئ وأنشأه الله فنشأ ، ومنه نشأت السحابة إذا بدأت وأنشأها الله ; فناشئة : فاعلة من نشأت تنشأ فهي ناشئة ، ومنه قوله تعالى : أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين والمراد إن ساعات الليل الناشئة ، فاكتفى بالوصف عن الاسم ، فالتأنيث للفظ ساعة ، لأن كل ساعة تحدث . وقيل : الناشئة مصدر بمعنى قيام الليل كالخاطئة والكاذبة ; أي إن نشأة الليل هي أشد وطئا . وقيل : إن ناشئة الليل قيام الليل . قال ابن مسعود : الحبشة يقولون : نشأ أي قام ، فلعله أراد أن الكلمة عربية ، ولكنها شائعة في كلام الحبشة ، غالبة عليهم ، وإلا فليس في القرآن ما ليس في لغة العرب . وقد تقدم بيان هذا في مقدمة الكتاب مستوفى .بين تعالى في هذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار ، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر ، وأجلب للثواب .واختلف العلماء في المراد بناشئة الليل ; فقال ابن عمر وأنس بن مالك : هو ما بين المغرب والعشاء ، تمسكا بأن لفظ نشأ يعطي الابتداء ، فكان بالأولية أحق ; ومنه قول الشاعر :ولولا أن يقال صبا نصيب لقلت بنفسي النشأ الصغاروكان علي بن الحسين يصلي بين المغرب والعشاء ويقول : هذا ناشئة الليل . وقال عطاء وعكرمة : إنه بدء الليل . وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هي الليل كله ; لأنه ينشأ بعد النهار ، وهو الذي اختاره مالك بن أنس . قال ابن العربي : وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة .وقالت عائشة وابن عباس أيضا ومجاهد : إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم . ومن قام أول الليل قبل النوم فما قام ناشئة . فقال يمان وابن كيسان : هو القيام من آخر الليل . وقال ابن عباس : كانت صلاتهم أول الليل . وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ .وفي الصحاح : وناشئة الليل أول ساعاته . وقال القتبي : إنه ساعات الليل ; لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة . وعن الحسن ومجاهد : هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح . وعن الحسن أيضا : ما كان بعد العشاء فهو ناشئة . ويقال : ما ينشأ في الليل من الطاعات ; حكاه الجوهري .قوله تعالى : هي أشد وطئا قرأ أبو العالية وأبو عمرو وابن أبي إسحاق ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن عامر والمغيرة وأبو حيوة ( وطاء ) بكسر الواو وفتح الطاء والمد ، واختاره أبو عبيد . الباقون ( وطأ ) بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة ، واختاره أبو حاتم ; من قولك : اشتدت على القوم وطأة سلطانهم . أي ثقل عليهم ما حملهم من المؤن ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم اشدد وطأتك على مضر " فالمعنى أنها أثقل على المصلي من ساعات النهار . وذلك أن الليل وقت منام وتودع وإجمام ، فمن شغله بالعبادة فقد تحمل المشقة العظيمة . ومن مد فهو مصدر واطأت وطاء ومواطأة أي وافقته .ابن زيد واطأته على الأمر مواطأة : إذا وافقته من الوفاق ، وفلان يواطئ اسمه اسمي ، وتواطئوا عليه أي توافقوا ; فالمعنى أشد موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان ; لانقطاع الأصوات والحركات ; قاله مجاهد وابن أبي مليكة وغيرهما . وقال ابن عباس بمعناه ، أي يواطئ السمع القلب ; قال الله تعالى : ليواطئوا عدة ما حرم الله أي ليوافقوا . وقيل : المعنى أشد مهادا للتصرف في التفكر والتدبر . والوطاء خلاف الغطاء . وقيل : أشد وطأ بسكون الطاء وفتح الواو أي أشد ثباتا من النهار ; فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله ، فيكون ذلك أثبت للعمل وأتقى لما يلهي ويشغل القلب . والوطء الثبات ، تقول : وطئت الأرض بقدمي . وقال الأخفش : أشد قياما . الفراء : أثبت قراءة وقياما . وعنه : أشد وطأ أي أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة ، والليل وقت فراغ عن اشتغال المعاش ، فعبادته تدوم ولا تنقطع .وقال الكلبي : أشد وطأ أي أشد نشاطا للمصلي ; لأنه في زمان راحته . وقال عبادة : أشد وطأ أي نشاطا للمصلي وأخف وأثبت للقراءة .قوله تعالى : وأقوم قيلا أي القراءة بالليل أقوم منها بالنهار ; أي أشد استقامة واستمرارا على الصواب ; لأن الأصوات هادئة ، والدنيا ساكنة ، فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه .قال قتادة ومجاهد : أي أصوب للقراءة وأثبت للقول ; لأنه زمان التفهم . وقال أبو علي : أقوم قيلا أي أشد استقامة لفراغ البال بالليل . وقيل : أي أعجل إجابة للدعاء . حكاه ابن شجرة . وقال عكرمة : عبادة الليل أتم نشاطا ، وأتم إخلاصا ، وأكثر بركة . وعن زيد بن أسلم : أجدر أن يتفقه في القرآن .وعن الأعمش قال : قرأ أنس بن مالك ( إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأصوب قيلا ) فقيل له : وأقوم قيلا فقال : أقوم وأصوب وأهيأ سواء . قال أبو بكر الأنباري : وقد ترامى ببعض هؤلاء الزائغين إلى أن قال : من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآن فهو مصيب ، إذا لم يخالف معنى ولم يأت بغير ما أراد الله وقصد له ، واحتجوا بقول أنس هذا . وهو قول لا يعرج عليه ولا يلتفت إلى قائله ; لأنه لو قرأ بألفاظ تخالف ألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها واشتملت على عامتها ، لجاز أن يقرأ في موضع الحمد لله رب العالمين : الشكر للباري ملك المخلوقين ، ويتسع الأمر في هذا حتى يبطل لفظ جميع القرآن ، ويكون التالي له مفتريا على الله - عز وجل - ، كاذبا على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا حجة لهم في قول ابن مسعود : نزل القرآن على سبعة أحرف ، إنما هو كقول أحدكم : هلم وتعال وأقبل ; لأن هذا الحديث يوجب أن القراءات المأثورة المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اختلفت ألفاظها ، واتفقت معانيها ، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في هلم ، وتعال ، وأقبل ، فأما ما لم يقرأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتابعوهم - رضي الله عنهم - ، فإنه من أورد حرفا منه في القرآن بهت ومال وخرج من مذهب الصواب . قال أبو بكر : والحديث الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة حديث لا يصح عن أحد من أهل العلم ; لأنه مبني على روايةالأعمش عن أنس ، فهو مقطوع ليس بمتصل فيؤخذ به من قبل أن الأعمش رأى أنسا ولم يسمع منه .

إِنَّ لَكَ فِى ٱلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)


قوله تعالى : إن لك في النهار سبحا طويلا قراءة العامة بالحاء غير معجمة ; أي تصرفا في حوائجك ، وإقبالا وإدبارا وذهابا ومجيئا .والسبح : الجري والدوران ، ومنه السابح في الماء ; لتقلبه بيديه ورجليه . وفرس سابح : شديد الجري ; قال امرؤ القيس :مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن الغبار بالكديد المركلوقيل : السبح الفراغ ; أي إن لك فراغا للحاجات بالنهار .وقيل : إن لك في النهار سبحا أي نوما ، والتسبح التمدد ; ذكره الخليل .وعن ابن عباس وعطاء : سبحا طويلا يعني فراغا طويلا لنومك وراحتك ، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك ، وقال الزجاج : إن فاتك في الليل شيء فلك في النهار فراغ الاستدراك .وقرأ يحيى بن يعمر وأبو وائل ( سبخا ) بالخاء المعجمة . قال المهدوي : ومعناه النوم ، روي ذلك عن القارئين بهذه القراءة . وقيل : معناه الخفة والسعة والاستراحة ; ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة وقد دعت على سارق ردائها : " لا تسبخي عنه بدعائك عليه " . أي لا تخففي عنه إثمه ; قال الشاعر :فسبخ عليك الهم واعلم بأنه إذا قدر الرحمن شيئا فكائنالأصمعي : يقال سبخ الله عنك الحمى أي خففها . وسبخ الحر : فتر وخف . والتسبيخ النوم الشديد . والتسبيخ أيضا توسيع القطن والكتان والصوف وتنفيشها ; يقال للمرأة : سبخي قطنك . والسبيخ من القطن ما يسبخ بعد الندف ، أي يلف لتغزله المرأة ، والقطعة منه سبيخة ، وكذلك من الصوف والوبر . ويقال لقطع القطن سبائخ ; قال الأخطل يصف القناص والكلاب :فأرسلوهن يذرين التراب كما يذري سبائخ قطن ندف أوتاروقال ثعلب : السبخ بالخاء التردد والاضطراب ، والسبخ أيضا السكون ; ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : الحمى من فيح جهنم ، فسبخوها بالماء أي سكنوها . وقال أبو عمرو : السبخ : النوم والفراغ .قلت : فعلى هذا يكون من الأضداد وتكون بمعنى السبح ، بالحاء غير المعجمة .

وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)


قوله تعالى : واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلافيه ثلاث مسائل :الأولى : قوله تعالى : واذكر اسم ربك أي ادعه بأسمائه الحسنى ، ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة . وقيل : أي اقصد بعملك وجه ربك ، وقال سهل : اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك ، وتقطعك عما سواه . وقيل : اذكر اسم ربك في وعده ووعيده ، لتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته . وقال الكلبي : صل لربك أي بالنهار .قلت : وهذا حسن فإنه لما ذكر الليل ذكر النهار ; إذ هو قسيمه ; وقد قال الله تعالى : وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر على ما تقدم .الثانية : قوله تعالى : وتبتل إليه تبتيلا التبتل : الانقطاع إلى عبادة الله - عز وجل - ; أي انقطع بعبادتك إليه ، ولا تشرك به غيره . يقال : بتلت الشيء أي قطعته ، ومنه قولهم : طلقها بتة بتلة ، وهذه صدقة بتة بتلة ; أي بائنة منقطعة عن صاحبها ، أي قطع ملكه عنها بالكلية ; ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى ، ويقال للراهب متبتل ; لانقطاعه عن الناس ، وانفراده بالعبادة ، قال :تضيء الظلام بالعشاء كأنها منارة ممسى راهب متبتلوفي الحديث النهي عن التبتل ، وهو الانقطاع عن الناس والجماعات . وقيل : إن أصله عند العرب التفرد ; قاله ابن عرفة . والأول أقوى لما ذكرنا . ويقال : كيف قال : تبتيلا ، ولم يقل تبتلا ؟ قيل له : لأن معنى تبتل بتل نفسه ، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل .الثالثة : قد مضى في ( المائدة ) في تفسير قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم كراهة لمن تبتل وانقطع وسلك سبيل الرهبانية بما فيه كفاية . قال ابن العربي : وأما اليوم وقد مرجت عهود الناس ، وخفت أماناتهم ، واستولى الحرام على الحطام ، فالعزلة خير من الخلطة ، والعزبة أفضل من التأهل ، ولكن معنى الآية : انقطع عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله ، وكذلك قال مجاهد : معناه : أخلص له العبادة ، ولم يرد التبتل ، فصار التبتل مأمورا به في القرآن ، منهيا عنه في السنة ، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي ; فلا يتناقضان ، وإنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم ; فالتبتل المأمور به : الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة ; كما قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين والتبتل المنهي عنه : هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع ، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن .

رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)


قوله تعالى : رب المشرق والمغرب قرأ أهل الحرمين وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وحفص رب بالرفع على الابتداء والخبر لا إله إلا هو . وقيل : على إضمار ( هو ) . الباقون ( رب ) بالخفض على نعت الرب تعالى في قوله تعالى : واذكر اسم ربك رب المشرق ومن علم أنه رب المشارق والمغارب انقطع بعمله وأمله إليه .فاتخذه وكيلا أي قائما بأمورك . وقيل : كفيلا بما وعدك .

وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)


قوله تعالى : واصبر على ما يقولون أي من الأذى والسب والاستهزاء ، ولا تجزع من قولهم ، ولا تمتنع من دعائهم .واهجرهم هجرا جميلا أي لا تتعرض لهم ، ولا تشتغل بمكافأتهم ، فإن في ذلك ترك الدعاء إلى الله . وكان هذا قبل الأمر بالقتال ، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم ، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك ; قاله قتادة وغيره . وقال أبو الدرداء : إنا لنكشر في وجوه أقوام ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم .

وَذَرْنِى وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُو۟لِى ٱلنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)


قوله تعالى : وذرني والمكذبين أي ارض بي لعقابهم . نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين . وقال مقاتل : نزلت في المطعمين يوم بدر وهم عشرة . وقد تقدم ذكرهم في ( الأنفال ) . وقال يحيى بن سلام : إنهم بنو المغيرة . وقال سعيد بن جبير أخبرت أنهم اثنا عشر رجلا .أولي النعمة أي أولي الغنى والترفه واللذة في الدنيا ومهلهم قليلا يعني إلى مدة آجالهم . قالت عائشة - رضي الله عنها - : لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر . وقيل : ومهلهم قليلا يعني إلى مدة الدنيا .

إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالًا وَجَحِيمًا (12)


قوله تعالى : إن لدينا أنكالا وجحيما الأنكال : القيود . عن الحسن ومجاهد وغيرهما . واحدها نكل ، وهو ما منع الإنسان من الحركة . وقيل : سمي نكلا لأنه ينكل به .قال الشعبي : أترون أن الله تعالى جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا ؟ لا والله ! ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم . وقال الكلبي : الأنكال : الأغلال ، والأول أعرف في اللغة ; ومنه قول الخنساء :دعاك فقطعت أنكاله وقد كن قبلك لا تقطعوقيل : إنه أنواع العذاب الشديد ; قاله مقاتل . وقد جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله يحب النكل على النكل " بالتحريك ، قاله الجوهري . قيل : وما النكل ؟ قال : " الرجل القوي المجرب ، على الفرس القوي المجرب " ذكره الماوردي قال : ومن ذلك سمي القيد نكلا لقوته ، وكذلك ، الغل ، وكل عذاب قوي فاشتد ، والجحيم النار المؤججة .

وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)


وطعاما ذا غصة أي غير سائغ ; يأخذ بالحلق ، لا هو نازل ولا هو خارج ، وهو الغسلين والزقوم والضريع ; قاله ابن عباس . وعنه أيضا أنه شوك يدخل الحلق ، فلا ينزل ولا يخرج .وقال الزجاج : أي طعامهم الضريع ; كما قال : ليس لهم طعام إلا من ضريع وهو شوك كالعوسج . وقال مجاهد : هو الزقوم ، كما قال : إن شجرة الزقوم طعام الأثيم . والمعنى واحد . وقال حمران بن أعين : قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة فصعق . وقال خليد بن حسان : أمسى الحسن عندنا صائما ، فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما فقال : ارفع طعامك . فلما كانت الثانية أتيته بطعام فعرضت له هذه الآية ، فقال : ارفعوه . ومثله في الثالثة ; فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم ، فجاءوه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق . والغصة : الشجا ، وهو ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره . وجمعها غصص . والغصص بالفتح مصدر قولك : غصصت يا رجل تغص ، فأنت غاص بالطعام وغصان ، وأغصصته أنا ، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلئ بهم .

يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلْأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا (14)


قوله تعالى : يوم ترجف الأرض والجبال أي تتحرك وتضطرب بمن عليها . وانتصب ( يوم ) على الظرف أي ينكل بهم ويعذبون يوم ترجف الأرض . وقيل : بنزع الخافض ; يعني هذه العقوبة في يوم ترجف الأرض والجبال . وقيل : العامل ( ذرني ) أي وذرني والمكذبين يوم ترجف الأرض والجبال .وكانت الجبال كثيبا مهيلا أي وتكون . والكثيب الرمل المجتمع - قال حسان :عرفت ديار زينب بالكثيب كخط الوحي في الورق القشيبوالمهيل : الذي يمر تحت الأرجل . قال الضحاك والكلبي : المهيل : هو الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها ، وإذا أخذت أسفله انهال .وقال ابن عباس : مهيلا أي رملا سائلا متناثرا وأصله مهيول وهو مفعول من قولك : هلت عليه التراب أهيله هيلا : إذا صببته . يقال : مهيل ومهيول ، ومكيل ومكيول ، ومدين ومديون ، ومعين ومعيون ; قال الشاعر :قد كان قومك يحسبونك سيدا وإخال أنك سيد معيونوفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم شكوا إليه الجدوبة ; فقال : " أتكيلون أم تهيلون " قالوا : نهيل . قال : " كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه " .وأهلت الدقيق لغة في هلت فهو مهال ومهيل . وإنما حذفت الواو ، لأن الياء تثقل فيها الضمة ، فحذفت فسكنت هي والواو فحذفت الواو لالتقاء الساكنين .

إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَٰهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)


قوله تعالى : إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسله إلى قريش كما أرسلنا إلى فرعون رسولا وهو موسى

فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَٰهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)


فعصى فرعون الرسول أي كذب به ولم يؤمن . قال مقاتل : ذكر موسى وفرعون ; لأن أهل مكة ازدروا محمدا - صلى الله عليه وسلم - واستخفوا به ; لأنه ولد فيهم ، كما أن فرعون ازدرى موسى ; لأنه رباه ونشأ فيما بينهم ، كما قال تعالى : ألم نربك فينا وليدا .قال المهدوي : ودخلت الألف واللام في الرسول لتقدم ذكره ; ولذلك اختير في أول الكتب سلام عليكم ، وفي آخرها السلام عليكم .وبيلا أي ثقيلا شديدا . وضرب وبيل وعذاب وبيل : أي شديد ; قاله ابن عباس ومجاهد . ومنه مطر وابل أي شديد ; قاله الأخفش . وقال الزجاج : أي ثقيلا غليظا . ومنه قيل للمطر وابل . وقيل : مهلكا ، والمعنى عاقبناه عقوبة غليظة ، قال :أكلت بنيك أكل الضب حتى وجدت مرارة الكلأ الوبيلواستوبل فلان كذا : أي لم يحمد عاقبته . وماء وبيل : أي وخيم غير مريء ، وكلأ مستوبل وطعام وبيل ومستوبل : إذا لم يمرئ ولم يستمرأ ، قال زهير :فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا إلى كلأ مستوبل متوخموقالت الخنساء :لقد أكلت بجيلة يوم لاقت فوارس مالك أكلا وبيلاوالوبيل أيضا : العصا الضخمة ; قال :لو أصبح في يمنى يدي زمامها وفي كفي الأخرى وبيل تحاذرهوكذلك الموبل بكسر الباء ، والموبلة أيضا : الحزمة من الحطب ، وكذلك الوبيل ، قال طرفة :عقيلة شيخ كالوبيل يلندد

فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَٰنَ شِيبًا (17)


قوله تعالى : فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا هو توبيخ وتقريع ، أي كيف تتقون العذاب إن كفرتم . وفيه تقديم وتأخير ، أي كيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم . وكذا قراءة عبد الله وعطية .قال الحسن : أي بأي صلاة تتقون العذاب ؟ بأي صوم تتقون العذاب ؟ وفيه إضمار ، أي كيف تتقون عذاب يوم . وقال قتادة : والله ما يتقي من كفر بالله ذلك اليوم بشيء . و " يوما " مفعول ب " تتقون " على هذه القراءة وليس بظرف ، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول كفرتم .وقال بعض المفسرين : وقف التمام على قوله : كفرتم والابتداء يوما يذهب إلى أن اليوم مفعول ( يجعل ) والفعل لله - عز وجل - ، وكأنه قال : يجعل الله الولدان شيبا في يوم . قال ابن الأنباري ; وهذا لا يصلح ; لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله . المهدوي : والضمير في ( يجعل ) يجوز أن يكون لله - عز وجل - ، ويجوز أن يكون لليوم ، وإذا كان لليوم صلح أن يكون صفة له ، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله - عز وجل - إلا مع تقدير حذف ; كأنه قال : يوما يجعل الله الولدان فيه شيبا . ابن الأنباري : ومنهم من نصب اليوم ب ( كفرتم ) وهذا قبيح ; لأن اليوم إذا علق ب ( كفرتم ) احتاج إلى صفة ; أي كفرتم بيوم . فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف وينصب ما بعدها ، احتججنا عليه بقراءة عبد الله فكيف تتقون يوما .قلت : هذه القراءة ليست متواترة ، وإنما جاءت على وجه التفسير . وإذا كان الكفر بمعنى الجحود ف ( يوما ) مفعول صريح من غير صفة ولا حذفها ; أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء . وقرأ أبو السمال قعنب ( فكيف تتقون ) بكسر النون على الإضافة .و ( الولدان ) الصبيان . وقال السدي : هم أولاد الزنا . وقيل : أولاد المشركين . والعموم أصح ; أي يشيب فيه الضمير من غير كبر . وذلك حين يقال : ( يا آدم قم فابعث بعث النار ) . على ما تقدم في أول سورة ( الحج ) .قال القشيري : ثم إن أهل الجنة يغير الله أحوالهم وأوصافهم على ما يريد .وقيل : هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم وهو مجاز ; لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة . ويقال : هذا وقت الفزع ، وقيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق ، فالله أعلم . الزمخشري : وقد مر بي في بعض الكتب أن رجلا أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب ، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة ، فقال : أريت القيامة والجنة والنار في المنام ، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار ، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون . ويجوز أن يوصف اليوم بالطول ، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب .

ٱلسَّمَآءُ مُنفَطِرٌۢ بِهِۦ كَانَ وَعْدُهُۥ مَفْعُولًا (18)


قوله تعالى : السماء منفطر به أي متشققة لشدته . ومعنى ( به ) أي فيه ; أي في ذلك اليوم لهوله . هذا أحسن ما قيل فيه . ويقال : مثقلة به إثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمته عليها وخشيتها من وقوعه ، كقوله تعالى : ثقلت في السماوات والأرض . وقيل : به أي له ، أي لذلك اليوم ; يقال : فعلت كذا بحرمتك ولحرمتك ، والباء واللام وفي متقاربة في مثل هذا الموضع ; قال الله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة أي في يوم القيامة . وقيل : به أي بالأمر أي السماء منفطر بما يجعل الولدان شيبا . وقيل : منفطر بالله ، أي بأمره ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لم يقل منفطرة ; لأن مجازها السقف ; تقول : هذا سماء البيت ; قال الشاعر :فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء وبالسحابوفي التنزيل : وجعلنا السماء سقفا محفوظا . وقال الفراء : السماء يذكر ويؤنث . وقال أبو علي : هو من باب الجراد المنتشر ، والشجر الأخضر ، و ( أعجاز نخل منقعر ) . وقال أبو علي أيضا : أي السماء ذات انفطار ; كقولهم : امرأة مرضع ، أي ذات إرضاع ، فجرى على طريق النسب . كان وعده أي بالقيامة والحساب والجزاء مفعولا كائنا لا شك فيه ولا خلف . وقال مقاتل : كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله .

إِنَّ هَٰذِهِۦ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلًا (19)


قوله تعالى : إن هذه تذكرة يريد : هذه السورة أو الآيات عظة . وقيل : آيات القرآن ، إذ هو كالسورة الواحدة .فمن شاء اتخذ إلى ربه أي من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك إلى ربه سبيلا أي طريقا إلى رضاه ورحمته فليرغب ، فقد أمكن له ; لأنه أظهر له الحجج والدلائل . ثم قيل : نسخت بآية السيف ، وكذلك قوله تعالى : فمن شاء ذكره قال الثعلبي : والأشبه أنه غير منسوخ .

الصفحة التالية