تفسير سورة عبس الصفحة 585 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 585 من المصحف


بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ (1)


سورة عبسمكية في قول الجميع ، وهي إحدى وأربعون آيةبسم الله الرحمن الرحيمعبس وتولىفيه مسائل :الأولى : قوله تعالى : عبس أي كلح بوجهه ; يقال : عبس وبسر . وقد تقدم . وتولى أي أعرض بوجهه أن جاءه أن في موضع نصب لأنه مفعول له ، المعنى لأن جاءه الأعمى ، أي الذي لا يبصر بعينيه . فروى أهل التفسير أجمع أن قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد طمع في إسلامهم ، فأقبل عبد الله بن أم مكتوم ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع عبد الله عليه كلامه ، فأعرض عنه ، ففيه نزلت هذه الآية .قال مالك : إن هشام بن عروة حدثه عن عروة ، أنه قال : نزلت عبس وتولى في ابن أم مكتوم ; جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول : يا محمد استدنني ، وعند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل من عظماء المشركين ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض عنه ويقبل على الآخر ، ويقول : " يا فلان ، هل ترى بما أقول بأسا " ؟ فيقول : لا والدمى ما أرى بما تقول بأسا ; فأنزل الله : عبس وتولى . وفي الترمذي مسندا قال : حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي ، حدثني أبي ، قال هذا ما عرضنا على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، قالت : نزلت عبس وتولى في ابن أم مكتوم الأعمى ، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل ، يقول : يا رسول الله أرشدني ، وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من عظماء المشركين ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض عنه ، ويقبل على الآخر ، ويقول : " أترى بما أقول بأسا " فيقول : لا ; ففي هذا نزلت ; قال : هذا حديث غريب .الثانية : الآية عتاب من الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في إعراضه وتوليه عن عبد الله بن أم مكتوم . ويقال : عمرو بن أم مكتوم ، واسم أم مكتوم عاتكة بنت عامر بن مخزوم ، وعمرو هذا : هو ابن قيس بن زائدة بن الأصم ، وهو ابن خال خديجة - رضي الله عنها - . وكان قد تشاغل عنه برجل من عظماء المشركين ، يقال كان الوليد بن المغيرة .ابن العربي : قاله المالكية من علمائنا ، وهو يكنى أبا عبد شمس . وقال قتادة : هو أمية بن خلص وعنه : أبي بن خلف . وقال مجاهد : كانوا ثلاثة : عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبي بن خلف . وقال عطاء عتبة بن ربيعة . سفيان الثوري : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عمه العباس . الزمخشري : كان عنده صناديد قريش : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام ، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم .قال ابن العربي : أما قول علمائنا إنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون إنه أمية بن خلف والعباس وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين ، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة ، ما حضر معهما ولا حضرا معه ، وكان موتهما كافرين ، أحدهما قبل الهجرة ، والآخر ببدر ، ولم يقصد قط أمية المدينة ، ولا حضر عنده مفردا ، ولا مع أحد .الثالثة : أقبل ابن أم مكتوم والنبي - صلى الله عليه وسلم - مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الله تعالى ، وقد قوي طمعه في إسلامهم وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم ، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، وجعل يناديه ويكثر النداء ، ولا يدري أنه مشتغل بغيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء : إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد ; فعبس وأعرض عنه ، فنزلت الآية . قال الثوري : فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول : " مرحبا بمن عاتبني فيه ربي " . ويقول : " هل من حاجة " ؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما . قال أنس : فرأيته يوم القادسية راكبا وعليه درع ومعه راية سوداء .الرابعة : قال علماؤنا : ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مشغول بغيره ، وأنه يرجو إسلامهم ، ولكن الله تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة ; أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني ، وكان النظر إلى المؤمن أولى وإن كان فقيرا أصلح وأولى من الأمر الآخر ، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم ، وإن كان ذلك أيضا نوعا من المصلحة ، وعلى هذا يخرج قوله تعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى الآية على ما تقدم . وقيل : إنما قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - تأليف الرجل ، ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان ; كما قال : " إني لأصل الرجل وغيره أحب إلي منه ، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه " .الخامسة : قال ابن زيد : إنما عبس النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن أم مكتوم وأعرض عنه ; لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه ، فدفعه ابن أم مكتوم ، وأبى إلا أن يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يعلمه ، فكان في هذا نوع جفاء منه . ومع هذا أنزل الله في حقه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - : عبس وتولى بلفظ الإخبار عن الغائب ، تعظيما له ولم يقل : عبست وتوليت .

أَن جَآءَهُ ٱلْأَعْمَىٰ (2)


ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له فقال : وما يدريك أي يعلمك لعله يعني ابن أم مكتوم يزكى بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين ، بأن يزداد طهارة في دينه ، وزوال ظلمة الجهل عنه . وقيل : الضمير في لعله للكافر يعني إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر ، فتقربه الذكرى إلى قبول الحق وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن .وقرأ الحسن ( آأن جاءه الأعمى ) بالمد على الاستفهام ف " أن " متعلقة بفعل محذوف دل عليه عبس وتولى ، التقدير : آأن جاءه أعرض عنه وتولى ؟ فيوقف على هذه القراءة على وتولى ، ولا يوقف عليه على قراءة الخبر ، وهي قراءة العامة .

وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُۥ يَزَّكَّىٰٓ (3)


نظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى في سورة الأنعام : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي وكذلك قوله في سورة الكهف : ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا وما كان مثله ، والله أعلم .

أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰٓ (4)


أو يذكر يتعظ بما تقول فتنفعه الذكرى أي العظة . وقراءة العامة ( فتنفعه ) بضم العين ، عطفا على يزكى . وقرأ عاصم وابن أبي إسحاق وعيسى فتنفعه نصبا . وهي قراءة السلمي وزر بن حبيش ، على جواب لعل ; لأنه غير موجب ; كقوله تعالى : لعلي أبلغ الأسباب ثم قال : فأطلع .

أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ (5)


أي كان ذا ثروة وغنى

فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ (6)


فأنت له تصدى أي تعرض له ، وتصغي لكلامه . والتصدي : الإصغاء ; قال الراعي :تصدى لوضاح كأن جبينه سراج الدجى يحني إليه الأساوروأصله تتصدد من الصد ، وهو ما استقبلك ، وصار قبالتك ; يقال : داري صدد داره أي قبالتها ، نصب على الظرف . وقيل : من الصدى وهو العطش . أي تتعرض له كما يتعرض العطشان للماء ، والمصاداة : المعارضة . وقراءة العامة تصدى بالتخفيف ، على طرح التاء الثانية تخفيفا . وقرأ نافع وابن محيصن بالتشديد على الإدغام .

وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (7)


أي لا يهتدي هذا الكافر ولا يؤمن , إنما أنت رسول , ما عليك إلا البلاغ .

وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ (8)


يطلب العلم لله

وَهُوَ يَخْشَىٰ (9)


أي يخاف الله .

فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ (10)


أي تعرض عنه بوجهك وتشغل بغيره .وأصله تتلهى ; يقال : لهيت عن الشيء ألهى : أي تشاغلت عنه .والتلهي : التغافل .ولهيت عنه وتليت : بمعنى .

كَلَّآ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)


قوله تعالى : كلا إنها تذكرة كلا كلمة ردع وزجر ; أي ما الأمر كما تفعل مع الفريقين ; أي لا تفعل بعدها مثلها : من إقبالك على الغني ، وإعراضك عن المؤمن الفقير . والذي جرى من النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ترك الأولى كما تقدم ، ولو حمل على صغيرة لم يبعد ; قاله القشيري . والوقف على كلا على هذا الوجه : جائز . ويجوز أن تقف على تلهى ثم تبتدئ كلا على معنى حقا . إنها أي السورة أو آيات القرآن تذكرة أي موعظة وتبصرة للخلق فمن شاء ذكره أي اتعظ بالقرآن .قال الجرجاني : إنها أي القرآن ، والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة ، أخرجه على لفظ التذكرة ، ولو ذكره لجاز ; كما قال تعالى في موضع آخر : كلا إنه تذكرة . ويدل على أنه أراد القرآن قوله : فمن شاء ذكره أي كان حافظا له غير ناس ; وذكر الضمير ; لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ .

فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥ (12)


وروى الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : فمن شاء ذكره قال من شاء الله تبارك وتعالى ألهمه .

فِى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13)


ثم أخبر عن جلالته فقال : في صحف جمع صحيفة مكرمة أي عند الله ; قاله السدي . الطبري : مكرمة في الدين لما فيها من العلم والحكم . وقيل : مكرمة لأنها نزل بها كرام الحفظة ، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ . وقيل : مكرمة لأنها نزلت من كريم ; لأن كرامة الكتاب من كرامة صاحبه . وقيل : المراد كتب الأنبياء ; دليله : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى .

مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍۭ (14)


مرفوعة رفيعة القدر عند الله . وقيل : مرفوعة عنده تبارك وتعالى . وقيل : مرفوعة في السماء السابعة ، قالهيحيى بن سلام . الطبري : مرفوعة الذكر والقدر . وقيل : مرفوعة عن الشبه والتناقض . مطهرة قال الحسن : من كل دنس . وقيل : مصانة عن أن ينالها الكفار . وهو معنى قول السدي . وعن الحسن أيضا : مطهرة من أن تنزل على المشركين . وقيل : أي القرآن أثبت للملائكة في صحف يقرؤونها فهي مكرمة مرفوعة مطهرة .

بِأَيْدِى سَفَرَةٍ (15)


بأيدي سفرة أي الملائكة الذين جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله ، فهم بررة لم يتدنسوا بمعصية . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هي مطهرة تجعل التطهير لمن حملها بأيدي سفرة قال : كتبة . وقاله مجاهد أيضا . وهم الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد في الأسفار ، التي هي الكتب ، واحدهم : سافر ; كقولك : كاتب وكتبة . ويقال : سفرت أي كتبت ، والكتاب : هو السفر ، وجمعه أسفار . قال الزجاج : وإنما قيل للكتاب سفر ، بكسر السين ، وللكاتب سافر ; لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه . يقال : أسفر الصبح : إذا أضاء ، وسفرت المرأة : إذا كشفت النقاب عن وجهها . قال : ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة : أصلحت بينهم . وقاله الفراء ، وأنشد :فما أدع السفارة بين قومي ولا أمشي بغش إن مشيتوالسفير : الرسول والمصلح بين القوم والجمع : سفراء ، مثل فقيه وفقهاء . ويقال للوراقين سفراء ، بلغة العبرانية . وقال قتادة : السفرة هنا : هم القراء ، لأنهم يقرؤون الأسفار . وعنه أيضا كقول ابن عباس . وقال وهب بن منبه : بأيدي سفرة كرام بررة هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال ابن العربي : لقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفرة ، كراما بررة ، ولكن ليسوا بمرادين بهذه الآية ، ولا قاربوا المرادين بها ، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق ، ولا يشاركهم فيها سواهم ، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم . وروي في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له ، مع السفرة الكرام البررة ; ومثل الذي يقرؤه وهو يتعاهده ، وهو عليه شديد ، فله أجران متفق عليه ، واللفظ للبخاري .

كِرَامٍۭ بَرَرَةٍ (16)


كرام أي كرام على ربهم ; قاله الكلبي . الحسن : كرام عن المعاصي ، فهم يرفعون أنفسهم عنها . وروى الضحاك عن ابن عباس في كرام قال : يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته ، أو تبرز لغائطه . وقيل : أي يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم . بررة جمع بار مثل كافر وكفرة ، وساحر وسحرة ، وفاجر وفجرة ; يقال : بر وبار إذا كان أهلا للصدق ، ومنه بر فلان في يمينه : أي صدق ، وفلان يبر خالقه ويتبرره : أي يطيعه ; فمعنى بررة مطيعون لله ، صادقون لله في أعمالهم . وقد مضى في سورة ( الواقعة ) قوله تعالى :إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون أنهم الكرام البررة في هذه السورة .

قُتِلَ ٱلْإِنسَٰنُ مَآ أَكْفَرَهُۥ (17)


قوله تعالى : قتل الإنسان ما أكفره ؟ قتل أي لعن . وقيل : عذب . والإنسان الكافر روى الأعمش عن مجاهد قال : ما كان في القرآن قتل الإنسان فإنما عني به الكافر . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : نزلت في عتبة بن أبي لهب ، وكان قد آمن ، فلما نزلت والنجم ارتد ، وقال : آمنت بالقرآن كله إلا النجم ، فأنزل الله - جل ثناؤه فيه - قتل الإنسان أي لعن عتبة حيث كفر بالقرآن ، ودعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : اللهم سلط عليه كلبك أسد الغاضرة فخرج من فوره بتجارة إلى الشام ، فلما انتهى إلى الغاضرة تذكر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل لمن معه ألف دينار إن هو أصبح حيا ، فجعلوه في وسط الرفقة ، وجعلوا المتاع حوله ، فبينما هم على ذلك أقبل الأسد ، فلما دنا من الرحال وثب ، فإذا هو فوقه فمزقه ، وقد كان أبوه ندبه وبكى وقال : ما قال محمد شيئا قط إلا كان . وروى أبو صالح عن ابن عباس ما أكفره : أي شيء أكفره ؟ وقيل : ما تعجب ; وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا : قاتله الله ما أحسنه ! وأخزاه الله ما أظلمه ; والمعنى : اعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا . وقيل : ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه على التعجب أيضا ; قال ابن جريج : أي ما أشد كفره ! وقيل : ما استفهام أي أي شيء دعاه إلى الكفر ; فهو استفهام توبيخ . و ( ما ) تحتمل التعجب ، وتحتمل معنى أي ، فتكون استفهاما .

مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُۥ (18)


أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر فيتكبر ؟ أي اعجبوا لخلقه .

مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُۥ فَقَدَّرَهُۥ (19)


من نطفة أي من ماء يسير مهين جماد خلقه فلم يغلط في نفسه ؟ ! قال الحسن : كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين . فقدره في بطن أمه . كذا روى الضحاك عن ابن عباس : أي قدر يديه ورجليه وعينيه وسائر آرابه ، وحسنا ودميما ، وقصيرا وطويلا ، وشقيا وسعيدا . وقيل : فقدره أي فسواه كما قال : أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا . وقال : الذي خلقك فسواك . وقيل : فقدره أطوارا أي من حال إلى حال ; نطفة ثم علقة ، إلى أن تم خلقه .

ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُۥ (20)


ثم السبيل يسره قال ابن عباس في رواية عطاء وقتادة والسدي ومقاتل : يسره للخروج من بطن أمه . مجاهد : يسره لطريق الخير والشر ; أي بين له ذلك . دليله : إنا هديناه السبيل و هديناه النجدين . وقاله الحسن وعطاء وابن عباس أيضا في رواية أبي صالح عنه . وعن مجاهد أيضا قال : سبيل الشقاء والسعادة . ابن زيد : سبيل الإسلام . وقال أبو بكر بن طاهر يسر على كل أحد ما خلقه له وقدره عليه ; دليله قوله - عليه السلام - : اعملوا فكل ميسر لما خلق له .

ثُمَّ أَمَاتَهُۥ فَأَقْبَرَهُۥ (21)


ثم أماته فأقبره أي جعل له قبرا يوارى فيه إكراما ، ولم يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله الطير والعوافي ; قاله الفراء . وقال أبو عبيدة : أقبره : جعل له قبرا ، وأمر أن يقبر . قال أبو عبيدة : ولما قتل عمر بن هبيرة صالح بن عبد الرحمن ، قالت بنو تميم ودخلوا عليه : أقبرنا صالحا ; فقال : دونكموه . وقال : أقبره ولم يقل قبره ; لأن القابر هو الدافن بيده ، قال الأعشى :لو أسندت ميتا إلى نحرها عاش ولم ينقل إلى قابريقال : قبرت الميت : إذا دفنته ، وأقبره الله : أي صيره بحيث يقبر ، وجعل له قبرا ; تقول العرب : بترت ذنب البعير ، وأبتره الله ، وعضبت قرن الثور ، وأعضبه الله ، وطردت فلانا ، والله أطرده ، أي صيره طريدا .

ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُۥ (22)


ثم إذا شاء أنشره أي أحياه بعد موته . وقراءة العامة أنشره بالألف . وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة ( شاء نشره ) بغير ألف ، لغتان فصيحتان بمعنى ; يقال : أنشر الله الميت ونشره ; قال الأعشى :حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر

كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُۥ (23)


قوله تعالى : كلا لما يقض ما أمره قال مجاهد وقتادة : لما يقض : لا يقضي أحد ما أمر به . وكان ابن عباس يقول : لما يقض ما أمره لم يف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم . ثم قيل : ( كلا ) ردع وزجر ، أي ليس الأمر : كما يقول الكافر ; فإن الكافر إذا أخبر بالنشور قال : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ربما يقول قد قضيت ما أمرت به . فقال : كلا لم يقض شيئا بل هو كافر بي وبرسولي . وقال الحسن : أي حقا لم يقض : أي لم يعمل بما أمر به . و ( ما ) في قوله : ( لما ) عماد للكلام ; كقوله تعالى : فبما رحمة من الله وقوله : عما قليل ليصبحن نادمين . وقال الإمام ابن فورك : أي : كلا لما يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان ، بل أمره بما لم يقض له . ابن الأنباري : الوقف على كلا قبيح ، والوقف على ( أمره ) و ( نشره ) جيد ; ف " كلا " على هذا بمعنى حقا .

فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ (24)


قوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه لما ذكر - جل ثناؤه - ابتداء خلق الإنسان ، ذكر ما يسر من رزقه ; أي فلينظر كيف خلق الله طعامه . وهذا النظر نظر القلب بالفكر ; أي ليتدبر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته ، وكيف هيأ له أسباب المعاش ، ليستعد بها للمعاد . وروي عن الحسن ومجاهد قالا : فلينظر الإنسان إلى طعامه أي إلى مدخله ومخرجه . وروى ابن أبي خيثمة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال : قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا ضحاك ما طعامك " قلت : يا رسول الله ! اللحم واللبن ; قال : " ثم يصير إلى ماذا " قلت إلى ما قد علمته ; قال : " فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا " . وقال أبي بن كعب : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه فانظر إلى ما يصير " . وقال أبو الوليد : سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه ; قال : يأتيه الملك فيقول انظر ما بخلت به إلى ما صار ؟

أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبًّا (25)


قوله تعالى : أنا صببنا الماء صبا قراءة العامة ( إنا ) بالكسر ، على الاستئناف ، وقرأ الكوفيون ورويس عن يعقوب أنا بفتح الهمزة ، ف " أنا " في موضع خفض على الترجمة عن الطعام ، فهو بدل منه ; كأنه قال : فلينظر الإنسان إلى طعامه إلى أنا صببنا فلا يحسن الوقف على طعامه من هذه القراءة . وكذلك إن رفعت أنا بإضمار هو أنا صببنا ; لأنها في حال رفعها مترجمة عن الطعام . وقيل : المعنى : لأنا صببنا الماء ، فأخرجنا به الطعام ، أي كذلك كان . وقرأ الحسين بن علي ( أنى ) فقال ، بمعنى كيف ؟ فمن أخذ بهذه القراءة قال : الوقف على طعامه تام . ويقال : معنى ( أنى ) أين ، إلا أن فيها كناية عن الوجوه ; وتأويلها : من أي وجه صببنا الماء ; قال الكميت :أنى ومن أين آبك الطرب من حيث لا صبوة ولا ريبصببنا الماء صبا : يعني الغيث والأمطار .

ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلْأَرْضَ شَقًّا (26)


أي بالنبات

فَأَنۢبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27)


أي قمحا وشعيرا وسلتا وسائر ما يحصد ويدخر

وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)


وعنبا وقضبا وهو القت والعلف ، عن الحسن : سمي بذلك ; لأنه يقضب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة . قال القتبي وثعلب : وأهل مكة يسمون القت القضب . وقال ابن عباس : هو الرطب لأنه يقضب من النخل : ولأنه ذكر العنب قبله . وعنه أيضا : أنه الفصفصة وهو القت الرطب . وقال الخليل : القضب الفصفصة الرطبة . وقيل : بالسين ، فإذا يبست فهو قت . قال : والقضب : اسم يقع على ما يقضب من أغصان الشجرة ، ليتخذ منها سهام أو قسي . ويقال : قضبا ، يعني جميع ما يقضب ، مثل القت والكراث وسائر البقول التي تقطع فينبت أصلها . وفي الصحاح : والقضبة والقضب الرطبة ، وهي الإسفست بالفارسية ، والموضع الذي ينبت فيه مقضبة .

وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29)


" وزيتونا " وهي شجرة الزيتون " ونخلا " يعني النخيل

وَحَدَآئِقَ غُلْبًا (30)


وحدائق أي بساتين واحدها حديقة . قال الكلبي : وكل شيء أحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حديقة ، وما لم يحط عليه فليس بحديقة . غلبا عظاما شجرها ; يقال : شجرة غلباء ، ويقال للأسد : الأغلب ; لأنه مصمت العنق ، لا يلتفت إلا جميعا ; قال العجاج :ما زلت يوم البين ألوي صلبي والرأس حتى صرت مثل الأغلبورجل أغلب بين الغلب إذا كان غليظ الرقبة . والأصل في الوصف بالغلب : الرقاب فاستعير ; قال عمرو بن معدي كرب :يمشي بها غلب الرقاب كأنهم بزل كسين من الكحيل جلالاوحديقة غلباء : ملتفة ، وحدائق غلب . واغلولب العشب : بلغ والتف البعض بالبعض . قال ابن عباس : الغلب : جمع أغلب وغلباء وهي الغلاظ . وعنه أيضا الطوال . قتادة وابن زيد : الغلب : النخل الكرام . وعن ابن زيد أيضا وعكرمة : عظام الأوساط والجذوع . مجاهد : ملتفة .

وَفَٰكِهَةً وَأَبًّا (31)


( وفاكهة ) أي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ وغيرهما ( وأبا ) هو ما تأكله البهائم من العشب ، قال ابن عباس والحسن : الأب : كل ما أنبتت الأرض ، مما لا يأكله الناس ، ما يأكله الآدميون هو الحصيد ; ومنه قول الشاعر في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - :له دعوة ميمونة ريحها الصبا بها ينبت الله الحصيدة والأباوقيل : إنما سمي أبا ; لأنه يؤب أي يؤم وينتجع . والأب والأم : أخوان ; قال :جذمنا قيس ونجد دارنا ولنا الأب به والمكرعوقال الضحاك : والأب : كل شيء ينبت على وجه الأرض . وكذا قال أبو رزين : هو النبات . يدل عليه قول ابن عباس قال : الأب : ما تنبت الأرض مما يأكل الناس والأنعام . وعن ابن عباس أيضا وابن أبي طلحة : الأب : الثمار الرطبة . وقال الضحاك : هو التين خاصة . وهو محكي عن ابن عباس أيضا ; قال الشاعر :فما لهم مرتع للسوا م والأب عندهم يقدرالكلبي : هو كل نبات سوى الفاكهة . وقيل : الفاكهة : رطب الثمار ، والأب يابسها . وقال إبراهيم التيمي : سئل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن تفسير الفاكهة والأب فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت : في كتاب الله ما لا أعلم . وقال أنس : سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ هذه الآية ثم قال : كل هذا قد عرفناه ، فما الأب ؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال : هذا لعمر الله التكلف ، وما عليك يا بن أم عمر ألا تدري ما الأب ؟ ثم قال : اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب ، وما لا فدعوه . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " خلقتم من سبع ، ورزقتم من سبع ، فاسجدوا لله على سبع " . وإنما أراد بقوله : " خلقتم من سبع " يعني ( من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ) الآية ، والرزق من سبع ، وهو قوله تعالى : فأنبتنا فيها حبا وعنبا إلى قوله : وفاكهة ثم قال : وأبا وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم ، وأنه مما تختص به البهائم . والله أعلم .

مَّتَٰعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَٰمِكُمْ (32)


متاعا لكم نصب على المصدر المؤكد ، لأن إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات . وهذا ضرب مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم ، كنبات الزرع بعد دثوره ، كما تقدم بيانه في غير موضع . ويتضمن امتنانا عليهم بما أنعم به ، وقد مضى في غير موضع أيضا .

فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ (33)


قوله تعالى : فإذا جاءت الصاخة لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد ، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة ، وبالإنفاق مما امتن به عليهم . والصاخة : الصيحة التي تكون عنها القيامة ، وهي النفخة الثانية ، تصخ الأسماع : أي تصمها فلا تسمع إلا ما يدعى به للأحياء . وذكر ناس من المفسرين قالوا : تصيخ لها الأسماع ، من قولك : أصاخ إلى كذا : أي استمع إليه ، ومنه الحديث : " ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة إلا الجن والإنس " . وقال الشاعر :يصيخ للنبأة أسماعه إصاخة المنشد للمنشدقال بعض العلماء : وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء ، فأما اللغة فمقتضاها القول الأول ، قال الخليل : الصاخة : صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها بشدة وقعتها . وأصل الكلمة في اللغة : الصك الشديد . وقيل : هي مأخوذة من صخه بالحجر : إذا صكه قال الراجز :يا جارتي هل لك أن تجالدي جلادة كالصك بالجلامدومن هذا الباب قول العرب : صختهم الصاخة وباتتهم البائتة ، وهي الداهية . الطبري : وأحسبه من صخ فلان فلانا : إذا أصماه . قال ابن العربي : الصاخة التي تورث الصمم ، وإنها لمسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة ، حتى لقد قال بعض حديثي الأسنان حديثي الأزمان :أصم بك الناعي وإن كان أسمعاوقال آخر :أصمني سرهم أيام فرقتهم فهل سمعتم بسر يورث الصممالعمر الله إن صيحة القيامة لمسمعة تصم عن الدنيا ، وتسمع أمور الآخرة .

يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)


قوله تعالى : يوم يفر المرء من أخيه أي يهرب ، أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه ; أي من موالاة أخيه ومكالمته ; لأنه لا يتفرغ لذلك ، لاشتغاله بنفسه ; كما قال بعده : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه أي يشغله عن غيره . وقيل : إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه ، لما بينهم من التبعات . وقيل : لئلا يروا ما هو فيه من الشدة . وقيل : لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا ; كما قال : يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا . وقال عبد الله بن طاهر الأبهري : يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم ، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه ، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى . وصاحبته أي زوجته وبنيه أي أولاده .وذكر الضحاك عن ابن عباس قال : يفر قابيل من أخيه هابيل ، ويفر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمه ، وإبراهيم - عليه السلام - من أبيه ، ونوح - عليه السلام - من ابنه ، ولوط من امرأته ، وآدم من سوأة بنيه . وقال الحسن : أول من يفر يوم القيامة من أبيه : إبراهيم ، وأول من يفر من ابنه نوح ; وأول من يفر من امرأته لوط . قال : فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ .

وَأُمِّهِۦ وَأَبِيهِ (35)


وأمه وأبيهقيل : إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه , لما بينهم من التبعات . وقيل : لئلا يروا ما هو فيه من الشدة . وقيل : لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا ; كما قال : " يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا " [ الدخان : 41 ] . وقال عبد الله بن طاهر الأبهري : يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم , إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه , ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى . وذكر الضحاك عن ابن عباس قال : يفر قابيل من أخيه هابيل , ويفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه , وإبراهيم عليه السلام من أبيه , ونوح عليه السلام من ابنه , ولوط من امرأته , وآدم من سوأة بنيه . وقال الحسن : أول من يفر يوم القيامة من أبيه : إبراهيم , وأول من يفر من ابنه نوح ; وأول من يفر من امرأته لوط . قال : فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ .

وَصَٰحِبَتِهِۦ وَبَنِيهِ (36)


وصاحبته وبنيه" وصاحبته " أي زوجته . " وبنيه " أي أولاده . وذكر الضحاك عن ابن عباس قال : يفر قابيل من أخيه هابيل , ويفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه , وإبراهيم عليه السلام من أبيه , ونوح عليه السلام من ابنه , ولوط من امرأته , وآدم من سوأة بنيه . وقال الحسن : أول من يفر يوم القيامة من أبيه : إبراهيم , وأول من يفر من ابنه نوح ; وأول من يفر من امرأته لوط . قال : فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ .

لِكُلِّ ٱمْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)


لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه في صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ، قلت ، يا رسول الله ! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : يا عائشة ، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض . خرجه الترمذي عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يحشرون حفاة عراة غرلا " فقالت امرأة : أينظر بعضنا ، أو يرى بعضنا عورة بعض ؟ قال : " يا فلانة " ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) . قال : حديث حسن صحيح . وقراءة العامة بالغين المعجمة ; أي حال يشغله عن الأقرباء . وقرأ ابن محيصن وحميد ( يعنيه ) بفتح الياء ، وعين غير معجمة ; أي يعنيه أمره . وقال القتبي : يعنيه : يصرفه ويصده عن قرابته ، ومنه يقال : اعن عني وجهك : أي اصرفه واعن عن السفيه ; قال خفاف :سيعنيك حرب بني مالك عن الفحش والجهل في المحفل

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38)


أي مشرقة مضيئة , قد علمت مالها من الفوز والنعيم , وهي وجوه المؤمنين .

ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39)


ضاحكة أي مسرورة فرحة . مستبشرة : أي بما آتاها الله من الكرامة . وقال عطاء الخراساني : مسفرة من طول ما اغبرت في سبيل الله جل ثناؤه . ذكره أبو نعيم . الضحاك : من آثار الوضوء . ابن عباس : من قيام الليل ; لما روي في الحديث : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار يقال : أسفر الصبح إذا أضاء .

وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)


أي غبار ودخان

تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)


ووجوه يومئذ عليها غبرة أي غبار ودخان ، ترهقها أي تغشاها قترة أي كسوف وسواد . كذا قال ابن عباس . وعنه أيضا : ذلة وشدة . والقتر في كلام العرب : الغبار ، جمع القترة ، عن أبي عبيد ; وأنشد الفرزدق :متوج برداء الملك يتبعه موج ترى فوقه الرايات والقتراوفي الخبر : إن البهائم إذا صارت ترابا يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار . وقال زيد بن أسلم ، القترة : ما ارتفعت إلى السماء ، والغبرة : ما انحطت إلى الأرض ، والغبار والغبرة : واحد .

أُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ (42)


أولئك هم الكفرة جمع كافر الفجرة جمع فاجر ، وهو الكاذب المفتري على الله تعالى . وقيل : الفاسق ; [ يقال ] : فجر فجورا : أي فسق ، وفجر : أي كذب . وأصله : الميل ، والفاجر : المائل . وقد مضى بيانه والكلام فيه . والحمد لله وحده .