تفسير سورة الإنفطار الصفحة 587 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 587 من المصحف


بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ (1)


سورة الانفطارمكية عند الجميع . وهي تسع عشرة آيةبسم الله الرحمن الرحيمإذا السماء انفطرتقوله تعالى : إذا السماء انفطرت أي تشققت بأمر الله ; لنزول الملائكة ; كقوله : ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا . وقيل : تفطرت لهيبة الله تعالى . والفطر : الشق ; يقال : فطرته فانفطر ; ومنه فطر ناب البعير : طلع ، فهو بعير فاطر ، وتفطر الشيء : شقق ، وسيف فطار أي فيه شقوق ; قال عنترة :وسيفي كالعقيقة وهو كمعي سلاحي لا أفل ولا فطاراوقد تقدم في غير موضع .

وَإِذَا ٱلْكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَتْ (2)


أي تساقطت ; نثرت الشيء أنثره نثرا , فانتثر , والاسم النثار .والنثار بالضم : ما تناثر من الشيء , ودر منثر , شدد للكثرة .

وَإِذَا ٱلْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)


أي فجر بعضها في بعض , فصارت بحرا واحدا , على ما تقدم .قال الحسن : فجرت : ذهب ماؤها ويبست ; وذلك أنها أولا راكدة مجتمعة ; فإذا فجرت تفرقت , فذهب ماؤها .وهذه الأشياء بين يدي الساعة , على ما تقدم في " إذا الشمس كورت " [ التكوير : 1 ] .

وَإِذَا ٱلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)


أي قلبت وأخرج ما فيها من أهلها أحياء ; يقال : بعثرت المتاع : قلبته ظهرا لبطن , وبعثرت الحوض وبحثرته : إذا هدمته وجعلت أسفله أعلاه .وقال قوم منهم الفراء : " بعثرت " : أخرجت ما في بطنها من الذهب والفضة .وذلك من أشراط الساعة : أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها ." علمت نفس ما قدمت وأخرت " مثل : " ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " [ القيامة : 13 ] .وتقدم .وهذا جواب " إذا السماء انفطرت " لأنه قسم في قول الحسن وقع على قوله تعالى : " علمت نفس "

عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)


إذا بدت هذه الأمور من أشراط الساعة ختمت الأعمال فعلمت كل نفس ما كسبت ; فإنها لا ينفعها عمل بعد ذلك .وقيل : أي إذا كانت هذه الأشياء قامت القيامة , فحوسبت كل نفس بما عملت , وأوتيت كتابها بيمينها أو بشمالها , فتذكرت عند قراءته جميع أعمالها .وقيل : هو خبر , وليس بقسم , وهو الصحيح إن شاء الله تعالى .

يَٰٓأَيُّهَا ٱلْإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ (6)


قوله تعالى : يا أيها خاطب بهذا منكري البعث . وقال ابن عباس : الإنسان هنا : الوليد بن المغيرة . وقال عكرمة : أبي بن خلف . وقيل : نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي . عن ابن عباس أيضا ( ما غرك بربك ) أي ما الذي غرك حتى كفرت ؟ بربك الكريم أي المتجاوز عنك . قال قتادة : غره شيطانه المسلط عليه . الحسن : غره شيطانه الخبيث . وقيل : حمقه وجهله . رواه الحسن عن عمر - رضي الله عنه - . وروى غالب الحنفي قال : لما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم قال : " غره الجهل " وقال صالح بن مسمار : بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ؟ فقال : " غره جهله " . وقال عمر - رضي الله عنه - : كما قال الله تعالى : إنه كان ظلوما جهولا . وقيل : غره عفو الله ، إذ لم يعاقبه في أول مرة . قال إبراهيم بن الأشعث : قيل : للفضيل بن عياض : لو أقامك الله تعالى يوم القيامة بين يديه ، فقال لك : ما غرك بربك الكريم ؟ ماذا كنت تقول ؟ قال : كنت أقول غرني ستورك المرخاة ; لأن الكريم هو الستار . نظمه ابن السماك فقال :يا كاتم الذنب أما تستحي والله في الخلوة ثانيكا غرك من ربك إمهالهوستره طول مساويكاوقال ذو النون المصري : كم من مغرور تحت الستر وهو لا يشعر .وأنشد أبو بكر بن طاهر الأبهري :يا من غلا في العجب والتيه وغره طول تماديهأملى لك الله فبارزته ولم تخف غب معاصيهوروي عن علي - رضي الله عنه - أنه صاح بغلام له مرات فلم يلبه فنظر فإذا هو بالباب ، فقال : ما لك لم تجبني ؟ فقال . لثقتي بحلمك ، وأمني من عقوبتك . فاستحسن جوابه فأعتقه . وناس يقولون : ما غرك : ما خدعك وسول لك ، حتى أضعت ما وجب عليك ؟ وقال ابن مسعود : ما منكم من أحد إلا وسيخلو الله به يوم القيامة ، فيقول له : يابن آدم ماذا غرك بي ؟ يابن آدم ماذا عملت فيما علمت ؟ يابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟

ٱلَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ (7)


الذي خلقك أي قدر خلقك من نطفة فسواك في بطن أمك ، وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك فعدلك أي جعلك معتدلا سوي الخلق ; كما يقال : هذا شيء معدل . وهذه قراءة العامة وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ; قال الفراء : وأبو عبيد : يدل عليه قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم . وقرأ الكوفيون : عاصم وحمزة والكسائي : فعدلك مخففا أي : أمالك وصرفك إلى أي صورة شاء ، إما حسنا وإما قبيحا ، وإما طويلا وإما قصيرا . وقال موسى بن علي بن أبي رباح اللخمي عن أبيه عن جده قال : قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم " .

فِىٓ أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ (8)


أما قرأت هذه الآية في أي صورة ما شاء ركبك فيما بينك وبين آدم ، وقال عكرمة وأبو صالح : في أي صورة ما شاء ركبك إن شاء في صورة إنسان ، وإن شاء في صورة حمار ، وإن شاء في صورة قرد ، وإن شاء في صورة خنزير . وقال مكحول : إن شاء ذكرا ، وإن شاء أنثى . قال مجاهد : في أي صورة أي في أي شبه من أب أو أم أو عم أو خال أو غيرهم . و " في " متعلقة ب ركبك ، ولا تتعلق ب عدلك ، على قراءة من خفف ; لأنك تقول عدلت إلى كذا ، ولا تقول عدلت في كذا ; ولذلك منع الفراء التخفيف ; لأنه قدر ( في ) متعلقة ب عدلك ، و ( ما ) يجوز أن تكون صلة مؤكدة ; أي في أي صورة شاء ركبك . ويجوز أن تكون شرطية أي إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة قرد أو حمار أو خنزير ، ف " ما " بمعنى الشرط والجزاء ; أي في صورة ما شاء يركبك ركبك .

كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ (9)


قوله تعالى : كلا بل تكذبون بالدين يجوز أن تكون كلا بمعنى حقا و ( ألا ) فيبتدأ بها . ويجوز أن تكون بمعنى ( لا ) ، على أن يكون المعنى ليس الأمر كما تقولون من أنكم في عبادتكم غير الله محقون . يدل على ذلك قوله تعالى : ما غرك بربك الكريم وكذلك يقول الفراء : يصير المعنى : ليس كما غررت به . وقيل : أي ليس الأمر كما يقولون ، من أنه لا بعث . وقيل : هو بمعنى الردع والزجر . أي لا تغتروا بحلم الله وكرمه ، فتتركوا التفكر في آياته . ابن الأنباري : الوقف الجيد على الدين ، وعلى ركبك ، والوقف على كلا قبيح . بل تكذبون يا أهل مكة بالدين أي بالحساب ، و ( بل ) لنفي شيء تقدم وتحقيق غيره . وإنكارهم للبعث كان معلوما ، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة .

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَٰفِظِينَ (10)


أي رقباء من الملائكة

كِرَامًا كَٰتِبِينَ (11)


كراما كاتبين أي علي ; كقوله : كرام بررة . وهنا ثلاث مسائل :الأولى : روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين : الخراءة أو الجماع ، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم حائط أو بغيره ، أو ليستره أخوه " . وروي عن علي - رضي الله عنه - قال : ( لا يزال الملك موليا عن العبد ما دام بادي العورة ) وروي ( إن العبد إذا دخل الحمام بغير مئزر لعنه ملكاه ) .الثانية : واختلف الناس في الكفار هل عليهم حفظة أم لا ؟ فقال بعضهم : لا ; لأن أمرهم ظاهر ، وعملهم واحد ; قال الله تعالى : يعرف المجرمون بسيماهم . وقيل : بل عليهم حفظة ; لقوله تعالى : كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون . وقال : وأما من أوتي كتابه بشماله وقال : وأما من أوتي كتابه وراء ظهره ، فأخبر أن الكفار يكون لهم كتاب ، ويكون عليهم حفظة . فإن قيل : الذي على يمينه أي شيء يكتب ولا حسنة له ؟ قيل له : الذي يكتب عن شماله يكون بإذن صاحبه ، ويكون شاهدا على ذلك وإن لم يكتب . والله أعلم .الثالثة : سئل سفيان : كيف تعلم الملائكة أن العبد قد هم بحسنة أو سيئة ؟ قال : إذا هم العبد بحسنة وجدوا منه ريح المسك ، وإذا هم بسيئة وجدوا منه ريح النتن . وقد مضى في ( ق ) قوله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد زيادة بيان لمعنى هذه الآية . وقد كره العلماء الكلام عن الغائط والجماع ، لمفارقة الملك العبد عند ذلك . وقد مضى في آخر ( آل عمران ) القول في هذا .

يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)


وعن الحسن : يعلمون لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم . وقيل : يعلمون ما ظهر منكم دون ما حدثتم به أنفسكم . والله أعلم .

إِنَّ ٱلْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ (13)


أي في نعيم الجنة وهو مثل قوله تعالى : " فريق في الجنة وفريق في السعير " [ الشورى : 7 ]

وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ (14)


تقسيم مثل قوله : " فريق في الجنة وفريق في السعير " [ الشورى : 7 ] وقال : " يومئذ يصدعون " [ الروم : 43 ] الآيتين .

يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ ٱلدِّينِ (15)


يصلونها أي يصيبهم لهبها وحرها يوم الدين أي يوم الجزاء والحساب

وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ (16)


عن الجحيم ,

وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ (17)


كرر ذكره تعظيما لشأنه

ثُمَّ مَآ أَدْرَىٰكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ (18)


نحو قوله تعالى : " القارعة ما القارعة .وما أدراك ما القارعة " [ القارعة : 1 - 3 ] وقال ابن عباس فيما روي عنه : كل شيء من القرآن من قوله : " وما أدراك " فقد أدراه .وكل شيء من قوله " وما يدريك " فقد طوي عنه .

يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْـًٔا وَٱلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ (19)


يوم لا تملك نفس قرأ ابن كثير وأبو عمرو ( يوم ) بالرفع على البدل من يوم الدين أو ردا على اليوم الأول ، فيكون صفة ونعتا ل يوم الدين . ويجوز أن يرفع بإضمار ( هو ) . الباقون بالنصب على أنه في موضع رفع إلا أنه نصب لأنه مضاف غير متمكن ; كما تقول : أعجبني يوم يقوم زيد . وأنشد المبرد :من أي يومي من الموت أفر أيوم لم يقدر أم يوم قدرفاليومان الثانيان مخفوضان بالإضافة ، عن الترجمة عن اليومين الأولين ، إلا أنهما نصبا في اللفظ ; لأنهما أضيفا إلى غير محض . وهذا اختيار الفراء والزجاج . وقال قوم : اليوم الثاني منصوب على المحل ، كأنه قال في يوم لا تملك نفس لنفس شيئا . وقيل : بمعنى : إن هذه الأشياء تكون يوم ، أو على معنى يدانون يوم ; لأن الدين يدل عليه ، أو بإضمار اذكر .والأمر يومئذ لله لا ينازعه فيه أحد ، كما قال : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم . تمت السورة والحمد لله .