تفسير سورة المطففين الصفحة 587 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 587 من المصحف


بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1)


سورة المطففينمكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل . ومدنية في قول الحسن وعكرمة . وهي ست وثلاثون آيةقال مقاتل : وهي أول سورة نزلت بالمدينة . وقال ابن عباس وقتادة : مدنية إلا ثماني آيات من قوله : إن الذين أجرموا إلى آخرها مكي . وقال الكلبي وجابر بن زيد : نزلت بين مكة والمدينة .بسم الله الرحمن الرحيمويل للمطففينفيه أربع مسائل :الأولى : روى النسائي عن ابن عباس قال : لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا ، فأنزل الله تعالى : ويل للمطففين فأحسنوا الكيل بعد ذلك . قال الفراء : فهم من أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا . وعن ابن عباس أيضا قال : هي : أول سورة نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة نزل المدينة ، وكان هذا فيهم ; كانوا إذا اشتروا استوفوا بكيل راجح ، فإذا باعوا بخسوا المكيال والميزان ، فلما نزلت هذه السورة انتهوا ، فهم أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا . وقال قوم : نزلت في رجل يعرف بأبي جهينة ، واسمه عمرو ; كان له صاعان يأخذ بأحدهما ، ويعطي بالآخر ; قاله أبو هريرة - رضي الله عنه - .الثانية : قوله تعالى : ويل أي شدة عذاب في الآخرة . وقال ابن عباس : إنه واد في جهنم يسيل فيه صديد أهل النار ، فهو قوله تعالى : ويل للمطففين أي الذين ينقصون مكاييلهم وموازينهم . وروي عن ابن عمر قال : المطفف : الرجل يستأجر المكيال وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزره عليه . وقال آخرون : التطفيف في الكيل والوزن والوضوء والصلاة ، والحديث في الموطأ قال مالك : ويقال لكل شيء وفاء وتطفيف . وروي عن سالم بن أبي الجعد قال : الصلاة بمكيال ، فمن أوفى له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله - عز وجل - في ذلك : ويل للمطففين .الثالثة : قال أهل اللغة : المطفف مأخوذ من الطفيف ، وهو القليل ، والمطفف هو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق ، في كيل أو وزن . وقال الزجاج : إنما قيل للفاعل من هذا مطفف ; لأنه لا يكاد يسرق من المكيال والميزان إلا الشيء الطفيف الخفيف ، وإنما أخذ من طف الشيء وهو جانبه . وطفاف المكوك وطفافه بالكسر والفتح : ما ملأ أصباره ، وكذلك طف المكوك وطففه ; وفي الحديث : كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملؤوه . وهو أن يقرب أن يمتلئ فلا يفعل ، والمعنى بعضكم من بعض قريب ، فليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى . والطفاف والطفافة بالضم : ما فوق المكيال . وإناء طفاف : إذا بلغ الملء طفافه ; تقول منه : أطففت . والتطفيف : نقص المكيال وهو ألا تملأه إلى أصباره ، أي جوانبه ; يقال : أدهقت الكأس إلى أصبارها أي إلى رأسها . وقول ابن عمر حين ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - سبق الخيل : كنت فارسا يومئذ فسبقت الناس حتى طفف بي الفرس مسجد بني زريق ، حتى كاد يساوي المسجد . يعني : وثب بي .الرابعة : المطفف : هو الذي يخسر في الكيل والوزن ، ولا يوفي حسب ما بيناه ; وروى ابن القاسم عن مالك : أنه قرأ ويل للمطففين فقال : لا تطفف ولا تخلب ، ولكن أرسل وصب عليه صبا ، حتى إذا استوفى أرسل يدك ولا تمسك . وقال عبد الملك بن الماجشون : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مسح الطفاف ، وقال : إن البركة في رأسه . قال : وبلغني أن كيل فرعون كان مسحا بالحديد .

ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُوا۟ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)


قوله تعالى : الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون قال الفراء : أي من الناس يقال : اكتلت منك : أي استوفيت منك ، ويقال : اكتلت ما عليك : أي أخذت ما عليك . وقال الزجاج : أي إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل ; والمعنى : الذين إذا استوفوا أخذوا الزيادة ، وإذا أوفوا أو وزنوا لغيرهم نقصوا ، فلا يرضون للناس ما يرضون لأنفسهم . الطبري : ( على ) بمعنى ( عند ) .

وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)


قوله تعالى : وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون فيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : وإذا كالوهم أو وزنوهم : أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذفت اللام ، فتعدى الفعل فنصب ; ومثله نصحتك ونصحت لك ، وأمرتك به وأمرتكه ; قاله الأخفش والفراء . قال الفراء : وسمعت أعرابية تقول إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل . وهو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس . قال الزجاج : لا يجوز الوقف على ( كالوا ) و ( وزنوا ) حتى تصل به ( هم ) قال : ومن الناس من يجعلها توكيدا ، ويجيز الوقف على ( كالوا ) و ( وزنوا ) والأول الاختيار ; لأنها حرف واحد . وهو قول الكسائي . قال أبو عبيد : وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين ، ويقف على ( كالوا ) و ( وزنوا ) ويبتدئ ( هم يجسرون ) قال : وأحسب قراءة حمزة كذلك أيضا .قال أبو عبيد : والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين : إحداهما : الخط ; وذلك أنهم كتبوهما بغير ألف ، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا ( كالوا ) و ( وزنوا ) بالألف ، والأخرى : أنه يقال : كلتك ووزنتك بمعنى كلت لك ، ووزنت لك ، وهو كلام عربي ; كما يقال : صدتك وصدت لك ، وكسبتك وكسبت لك ، وكذلك شكرتك ونصحتك ونحو ذلك . قول : يخسرون : أي ينقصون ; والعرب تقول : أخسرت الميزان وخسرته . و ( هم ) في موضع نصب على قراءة العامة راجع إلى الناس ، تقديره ( وإذا كالوا ) الناس ( أو وزنوهم يخسرون ) وفيه وجهان : أحدهما أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم ، فحذف الجار ، وأوصل الفعل ، كما قال :ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ولقد نهيتك عن بنات الأوبرأراد : جنيت لك ، والوجه الآخر : أن يكون على حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، والمضاف هو المكيل والموزون .وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : إنكم معاشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم : المكيال والميزان . وخص الأعاجم ، لأنهم كانوا يجمعون الكيل والوزن جميعا ، وكانا مفرقين في الحرمين ; كان أهل مكة يزنون ، وأهل المدينة يكيلون . وعلى القراءة الثانية ( هم ) في موضع رفع بالابتداء ; أي وإذا كالوا للناس أو وزنوا لهم فهم يخسرون . ولا يصح ; لأنه تكون الأولى ملغاة ، ليس لها خبر ، وإنما كانت تستقيم لو كان بعدها : وإذا كالوا هم ينقصون ، أو وزنوا هم يخسرون .الثانية : قال ابن عباس قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : خمس بخمس : ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم ، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا ظهر فيهم الطاعون ، وما طففوا الكيل إلا منعوا النبات ، وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم المطر خرجه أبو بكر البزار بمعناه ، ومالك بن أنس أيضا من حديث ابن عمر . وقد ذكرناه في كتاب التذكرة . وقال مالك بن دينار : دخلت على جار لي قد نزل به الموت ، فجعل يقول : جبلين من نار ، جبلين من نار فقلت : ما تقول ؟ أتهجر ؟ قال : يا أبا يحيى ، كان لي مكيالان ، أكيل بأحدهما ، وأكتال بالآخر فقمت فجعلت أضرب أحدهما بالآخر حتى كسرتهما فقال يا أبا يحيى كلما ضربت أحدهما بالآخر ازداد عظما ، فمات من وجعه .وقال عكرمة : أشهد على كل كيال أو وزان أنه في النار . قيل له : فإن ابنك كيال أو وزان . فقال : أشهد أنه في النار . قال الأصمعي : وسمعت أعرابية تقول : لا تلتمس المروءة ممن مروءته في رؤوس المكاييل ، ولا ألسنة الموازين . وروي ذلك عن علي - رضي الله عنه - ، وقال عبد خير : مر علي - رضي الله عنه - على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح ، فأكفأ الميزان ، ثم قال : أقم الوزن بالقسط ; ثم أرجح بعد ذلك ما شئت . كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها ، ويفضل الواجب من النفل .وقال نافع : كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول : اتق الله وأوف الكيل والوزن بالقسط ، فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم . وقد روي أن أبا هريرة قدم المدينة وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة ، فقال أبو هريرة : فوجدناه في صلاة الصبح فقرأ في الركعة الأولى ( كهيعص ) وقرأ في الركعة الثانية ويل للمطففين قال أبو هريرة : فأقول في صلاتي : ويل لأبي فلان ، كان له مكيالان إذا اكتال اكتال بالوافي ، وإذا كال كال بالناقص .

أَلَا يَظُنُّ أُو۟لَٰٓئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4)


قوله تعالى : ألا يظن أولئك إنكار وتعجب عظيم من حالهم ، في الاجتراء على التطفيف ، كأنهم لا يخطرون التطفيف ببالهم ، ولا يخمنون تخمينا أنهم مبعوثون فمسئولون عما يفعلون . والظن هنا بمعنى اليقين ; أي ألا يوقن أولئك ، ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن . وقيل : الظن بمعنى التردد ، أي إن كانوا لا يستيقنون بالبعث ، فهلا ظنوه ، حتى يتدبروا ويبحثوا عنه ، ويأخذوا بالأحوط

لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)


شأنه وهو يوم القيامة .

يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ (6)


قوله تعالى : يوم يقوم الناس لرب العالمين فيه أربع مسائل :الأولى : العامل في ( يوم ) فعل مضمر ، دل عليه مبعوثون والمعنى يبعثون يوم يقوم الناس لرب العالمين . ويجوز أن يكون بدلا من يوم في ليوم عظيم ، وهو مبني . وقيل : هو في موضع خفض ; لأنه أضيف إلى غير متمكن . وقيل : هو منصوب على الظرف أي في يوم ، ويقال : أقم إلى يوم يخرج فلان ، فتنصب يوم ، فإن أضافوا إلى الاسم فحينئذ يخفضون ويقولون : أقم إلى يوم خروج فلان . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير إنهم مبعوثون يوم يقوم الناس لرب العالمين ليوم عظيم .الثانية : وعن عبد الملك بن مروان : أن أعرابيا قال له : قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين ; أراد بذلك أن المطففين قد توجه عليهم هذا الوعيد العظيم الذي سمعت به ، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن . وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن ، ووصف اليوم بالعظيم ، وقيام الناس فيه لله خاضعين ، ووصف ذاته برب العالمين بيان بليغ لعظم الذنب ، وتفاقم الإثم في التطفيف ، وفيما كان في مثل حاله من الحيف ، وترك القيام بالقسط ، والعمل على التسوية والعدل في كل أخذ وإعطاء ، بل في كل قول وعمل .الثالثة : قرأ ابن عمر : ويل للمطففين حتى بلغ يوم يقوم الناس لرب العالمين فبكى حتى سقط ، وامتنع من قراءة ما بعده ، ثم قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يوم يقوم الناس لرب العالمين ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فمنهم من يبلغ العرق كعبيه ، ومنهم من يبلغ ركبتيه ، ومنهم من يبلغ حقويه ، ومنهم من يبلغ صدره ، ومنهم من يبلغ أذنيه ، حتى إن أحدهم ليغيب في رشحه كما يغيب الضفدع " . وروى ناس عن ابن عباس قال : يقومون مقدار ثلاثمائة سنة . قال : ويهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة . وروي عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يقومون ألف عام في الظلة " . وروى مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى إن أحدهم ليقوم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " . وعنه أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يقوم مائة سنة " . وقال أبو هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبشير الغفاري : " كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه مقدار ثلاثمائة سنة لرب العالمين ، لا يأتيهم فيه خبر ، ولا يؤمر فيه بأمر " قال بشير : المستعان الله .قلت : قد ذكرناه مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنه ليخفف عن المؤمن ، حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا " في ( سأل سائل ) . وعن ابن عباس : يهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة . وقيل : إن ذلك المقام على المؤمن كزوال الشمس ; والدليل على هذا من الكتاب قوله الحق : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ثم وصفهم فقال : الذين آمنوا وكانوا يتقون جعلنا الله منهم بفضله وكرمه وجوده . ومنه آمين . وقيل : المراد بالناس جبريل - عليه السلام - يقوم لرب العالمين ; قاله ابن جبير وفيه بعد ; لما ذكرنا من الأخبار في ذلك ، وهي صحيحة ثابتة ، وحسبك بما في صحيح مسلم ، والبخاري والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم يقوم الناس لرب العالمين قال : " يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه " . ثم قيل : هذا القيام يوم يقومون من قبورهم . وقيل : في الآخرة بحقوق عباده في الدنيا . وقال يزيد الرشك : يقومون بين يديه للقضاء .الرابعة : القيام لله رب العالمين سبحانه حقير بالإضافة إلى عظمته وحقه ، فأما قيام الناس بعضهم لبعض فاختلف فيه الناس ; فمنهم من أجازه ، ومنهم من منعه . وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام إلى جعفر بن أبي طالب واعتنقه ، وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تيب عليه . وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار حين طلع عليه سعد بن معاذ : " قوموا إلى سيدكم " . وقال أيضا : " من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار " . وذلك يرجع إلى حال الرجل ونيته ، فإن انتظر ذلك واعتقده لنفسه ، فهو ممنوع ، وإن كان على طريق البشاشة والوصلة فإنه جائز ، وخاصة عند الأسباب ، كالقدوم من السفر ونحوه . وقد مضى في آخر سورة ( يوسف ) شيء من هذا .

الصفحة التالية