تفسير سورة الغاشية الصفحة 592 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 592 من المصحف


بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ٱلْغَٰشِيَةِ (1)


سورة الغاشيةوهي مكية في قول الجميع ، وهي ست وعشرون آيةبسم الله الرحمن الرحيمهل أتاك حديث الغاشية هل بمعنى قد كقوله : هل أتى على الإنسان قاله قطرب . أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية أي القيامة التي تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها قاله أكثر المفسرين . وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب : الغاشية : النار تغشى وجوه الكفار ورواه أبو صالح عن ابن عباس ودليله قوله تعالى : وتغشى وجوههم النار . وقيل : تغشى الخلق . وقيل : المراد النفخة الثانية للبعث ; لأنها تغشى الخلائق . وقيل : ( الغاشية ) أهل النار يغشونها ، ويقتحمون فيها . وقيل : معنى هل أتاك أي هذا لم يكن من علمك ، ولا من علم قومك . قال ابن عباس : لم يكن أتاه قبل ذلك على هذا التفصيل المذكور هاهنا . وقيل : إنها خرجت مخرج الاستفهام لرسوله ومعناه إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك وهو معنى قول الكلبي .

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَٰشِعَةٌ (2)


قوله تعالى : وجوه يومئذ خاشعةقال ابن عباس : لم يكن أتاه حديثهم ، فأخبره عنهم ، فقال : وجوه يومئذ أي يوم القيامة . خاشعة قال سفيان : أي ذليلة بالعذاب . وكل متضائل ساكن خاشع . يقال : خشع في صلاته : إذا تذلل ونكس رأسه . وخشع الصوت : خفي قال الله تعالى : وخشعت الأصوات للرحمن . والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه . وقال قتادة وابن زيد : خاشعة أي في النار . والمراد وجوه الكفار كلهم قاله يحيى بن سلام . وقيل : أراد وجوه اليهود والنصارى قاله ابن عباس .

عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3)


ثم قال : عاملة ناصبة فهذا في الدنيا ; لأن الآخرة ليست دار عمل . فالمعنى : وجوه عاملة ناصبة في الدنيا ( خاشعة ) في الآخرة . قال أهل اللغة : يقال للرجل إذا دأب في سيره : قد عمل يعمل عملا . ويقال للسحاب إذا دام برقه : قد عمل يعمل عملا . وذا سحاب عمل . قال الهذلي :حتى شآها كليل موهنا عمل باتت طرابا وبات الليل لم ينمناصبة أي تعبة . يقال : نصب ( بالكسر ) ينصب نصبا : إذا تعب ، ونصبا أيضا ، وأنصبه غيره . فروى الضحاك عن ابن عباس قال : هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله - عز وجل - ، وعلى الكفر مثل عبدة الأوثان ، وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان وغيرهم ، لا يقبل الله - جل ثناؤه - منهم إلا ما كان خالصا له . وقال سعيد عن قتادة : عاملة ناصبة قال : تكبرت في الدنيا عن طاعة الله - عز وجل - ، فأعملها الله وأنصبها في النار ، بجر السلاسل الثقال ، وحمل الأغلال ، والوقوف حفاة عراة في العرصات ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . قال الحسن وسعيد بن جبير : لم تعمل لله في الدنيا ، ولم تنصب له ، فأعملها وأنصبها في جهنم . وقال الكلبي : يجرون على وجوههم في النار . وعنه وعن غيره : يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم ، فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب ، بمعالجة السلاسل والأغلال والخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل ، وارتقائها في صعود من نار ، وهبوطها في حدور منها إلى غير ذلك من عذابها . وقاله ابن عباس . وقرأ ابن محيصن وعيسى وحميد ، ورواها عبيد عن شبل . عن ابن كثير ناصبة بالنصب على الحال . وقيل : على الذم . الباقون ( بالرفع ) على الصفة أو على إضمار مبتدأ ، فيوقف على خاشعة . ومن جعل المعنى في الآخرة ، جاز أن يكون خبرا بعد خبر عن وجوه ، فلا يوقف على خاشعة . وقيل : عاملة ناصبة أي عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة . وعلى هذا يحتمل وجوه يومئذ عاملة في الدنيا ، ناصبة في الآخرة ، خاشعة . قال عكرمة والسدي : عملت في الدنيا بالمعاصي .وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم : هم الرهبان أصحاب الصوامع وقاله ابن عباس . وقد تقدم في رواية الضحاك عنه . وروى عن الحسن قال : لما قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الشام أتاه راهب شيخ كبير متقهل ، عليه سواد ، فلما رآه عمر بكى . فقال له : يا أمير المؤمنين ، ما يبكيك ؟ قال : هذا المسكين طلب أمرا فلم يصبه ، ورجا رجاء فأخطأه ، - وقرأ قول الله - عز وجل - وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة . قال الكسائي : التقهل : رثاثة الهيئة ، ورجل متقهل : يابس الجلد سيئ الحال ، مثل المتقحل . وقال أبو عمرو : التقهل : شكوى الحاجة . وأنشد :لعوا إذا لاقيته تقهلاوالقهل : كفران الإحسان . وقد قهل يقهل قهلا : إذا أثنى ثناء قبيحا . وأقهل الرجل تكلف ما يعيبه ودنس نفسه . وانقهل ضعف وسقط قاله الجوهري . وعن علي - رضي الله عنه - أنهم أهل حروراء يعني الخوارج الذين ذكرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، وأعمالكم مع أعمالهم ، يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرمية . . . " الحديث .

تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً (4)


قوله تعالى : تصلى نارا حاميةأي يصيبها صلاؤها وحرها . حامية شديدة الحر أي قد أوقدت وأحميت المدة الطويلة . ومنه حمي النهار ( بالكسر ) ، وحمي التنور حميا فيهما أي اشتد حره . وحكى الكسائي : اشتد حمي الشمس وحموها : بمعنى . وقرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب ( تصلى ) بضم التاء . الباقون بفتحها . وقرئ ( تصلى ) بالتشديد . وقد تقدم القول فيها في إذا السماء انشقت . الماوردي : فإن قيل فما معنى وصفها بالحمي ، وهي لا تكون إلا حامية ، وهو أقل أحوالها ، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة ؟ قيل : قد اختلف في المراد بالحامية هاهنا على أربعة أوجه :أحدها : أن المراد بذلك أنها دائمة الحمي ، وليست كنار الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها .الثاني : أن المراد بالحامية أنها حمى من ارتكاب المحظورات ، وانتهاك المحارم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن لكل ملك حمى ، وإن حمى الله محارمه . ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه .الثالث : أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها ، أو ترام مماستها كما يحمي الأسد عرينه ومثله قول النابغة :تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولة المستأسد الحاميالرابع : أنها حامية حمي غيظ وغضب مبالغة في شدة الانتقام . ولم يرد حمي جرم وذات كما يقال : قد حمي فلان : إذا اغتاظ وغضب عند إرادة الانتقام . وقد بين الله تعالى بقوله هذا المعنى فقال : تكاد تميز من الغيظ .

تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ (5)


قوله تعالى : تسقى من عين آنية الآني : الذي قد انتهى حره من الإيناء ، بمعنى التأخير . ومنه " آنيت وآذيت " . وآناه يؤنيه إيناء ، أي أحره وحبسه وأبطأه . ومنه يطوفون بينها وبين حميم آن . وفي التفاسير من عين آنية أي تناهى حرها فلو وقعت نقطة منها على جبال الدنيا لذابت . وقال الحسن : آنية أي حرها أدرك أوقدت عليها جهنم منذ خلقت ، فدفعوا إليها وردا عطاشا . وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : بلغت أناها ، وحان شربها .

لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (6)


قوله تعالى : ليس لهم طعام إلا من ضريعقوله تعالى : ليس لهم أي لأهل النار . طعام إلا من ضريع لما ذكر شرابهم ذكر طعامهم . قال عكرمة ومجاهد : الضريع : نبت ذو شوك لاصق بالأرض ، تسميه قريش الشبرق إذا كان رطبا ، فإذا يبس فهو الضريع ، لا تقربه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه وهو سم قاتل ، وهو أخبث الطعام وأشنعه على هذا عامة المفسرين . إلا أن الضحاك روى عن ابن عباس قال : هو شيء يرمي به البحر ، يسمى الضريع ، من أقوات الأنعام لا الناس ، فإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع ، وهلكت هزلا . والصحيح ما قاله الجمهور : أنه نبت . قال أبو ذؤيب :رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى وعاد ضريعا بان منه النحائصوقال الهذلي وذكر إبلا وسوء مرعاها :وحبسن في هزم الضريع فكلها حدباء دامية اليدين حرودوقال الخليل : الضريع : نبات أخضر منتن الريح ، يرمي به البحر . وقال الوالبي عن ابن عباس : هو شجر من نار ، ولو كانت في الدنيا لأحرقت الأرض وما عليها . وقال سعيد بن جبير : هو الحجارة ، وقاله عكرمة . والأظهر أنه شجر ذو شوك حسب ما هو في الدنيا . وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الضريع : شيء يكون في النار ، يشبه الشوك ، أشد مرارة من الصبر ، وأنتن من الجيفة ، وأحر من النار ، سماه الله ضريعا " . وقال خالد بن زياد : سمعت المتوكل بن حمدان يسأل عن هذه الآية ليس لهم طعام إلا من ضريع قال : بلغني أن الضريع شجرة من نار جهنم ، حملها القيح والدم ، أشد مرارة من الصبر ، فذلك طعامهم .وقال الحسن : هو بعض ما أخفاه الله من العذاب . وقال ابن كيسان : هو طعام يضرعون عنده ويذلون ، ويتضرعون منه إلى الله تعالى ، طلبا للخلاص منه فسمي بذلك ; لأن آكله يضرع في أن يعفى منه ، لكراهته وخشونته . قال أبو جعفر النحاس : قد يكون مشتقا من الضارع ، وهو الذليل أي ذو ضراعة ، أي من شربه ذليل تلحقه ضراعة . وعن الحسن أيضا : هو الزقوم . وقيل : هو واد في جهنم . فالله أعلم . وقد قال الله تعالى في موضع آخر : فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين . وقال هنا : إلا من ضريع وهو غير الغسلين . ووجه الجمع أن النار دركات فمنهم من طعامه الزقوم ، ومنهم من طعامه الغسلين ، ومنهم من طعامه الضريع ، ومنهم من شرابه الحميم ، ومنهم من شرابه الصديد . قال الكلبي : الضريع في درجة ليس فيها غيره ، والزقوم في درجة أخرى . ويجوز أن تحمل الآيتان على حالتين كما قال : يطوفون بينها وبين حميم آن . القتبي : ويجوز أن يكون الضريع وشجرة الزقوم نبتين من النار ، أو من جوهر لا تأكله النار . وكذلك سلاسل النار وأغلالها وعقاربها وحياتها ، ولو كانت على ما نعلم ما بقيت على النار . قال : وإنما دلنا الله على الغائب عنده ، بالحاضر عندنا فالأسماء متفقة الدلالة ، والمعاني مختلفة . وكذلك ما في الجنة من شجرها وفرشها . القشيري : وأمثل من قول القتبي أن نقول : إن الذي يبقي الكافرين في النار ليدوم عليهم العذاب ، يبقي النبات وشجرة الزقوم في النار ، ليعذب بها الكفار . وزعم بعضهم أن الضريع بعينه لا ينبت في النار ، ولا أنهم يأكلونه . فالضريع من أقوات الأنعام ، لا من أقوات الناس . وإذا وقعت الإبل فيه لم تشبع ، وهلكت هزلا ، فأراد أن هؤلاء يقتاتون بما لا يشبعهم ، وضرب الضريع له مثلا ، أنهم يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع . قال الترمذي الحكيم : وهذا نظر سقيم من أهله وتأويل دنيء ، كأنه يدل على أنهم تحيروا في قدرة الله تعالى ، وأن الذي أنبت في هذا التراب هذا الضريع قادر على أن ينبته في حريق النار ، جعل لنا في الدنيا من الشجر الأخضر نارا ، فلا النار تحرق الشجر ، ولا رطوبة الماء في الشجر تطفئ النار فقال تعالى : الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون . وكما قيل حين نزلت ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم : قالوا يا رسول الله ، كيف يمشون على وجوههم ؟ فقال : " الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم " . فلا يتحير في مثل هذا إلا ضعيف القلب . أوليس قد أخبرنا أنه كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ، وقال : سرابيلهم من قطران ، وقال : إن لدينا أنكالا أي قيودا . وجحيما وطعاما ذا غصة قيل : ذا شوك . فإنما يتلون عليهم العذاب بهذه الأشياء .

لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِى مِن جُوعٍ (7)


قوله تعالى : لا يسمن ولا يغني من جوع يعني الضريع لا يسمن آكله . وكيف يسمن من يأكل الشوك ! قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية قال المشركون : إن إبلنا لتسمن بالضريع ، فنزلت : لا يسمن ولا يغني من جوع . وكذبوا ، فإن الإبل إنما ترعاه رطبا ، فإذا يبس لم تأكله . وقيل اشتبه عليهم أمره فظنوه كغيره من النبت النافع ; لأن المضارعة المشابهة . فوجدوه لا يسمن ولا يغني من جوع .

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8)


أي ذات نعمة .وهي وجوه المؤمنين نعمت بما عاينت من عاقبة أمرها وعملها الصالح .

لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)


لسعيها أي لعملها الذي عملته في الدنيا . راضية في الآخرة حين أعطيت الجنة بعملها . ومجازه : لثواب سعيها راضية . وفيها واو مضمرة . المعنى : ووجوه يومئذ ، للفصل بينها وبين الوجوه المتقدمة . والوجوه عبارة عن الأنفس .

فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)


في جنة عالية أي مرتفعة ; لأنها فوق السماوات حسب ما تقدم . وقيل : عالية القدر ; لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين . وهم فيها خالدون .

لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَٰغِيَةً (11)


أي كلاما ساقطا غير مرضي .وقال : " لاغية " , واللغو واللغا واللاغية : بمعنى واحد .قال : عن اللغا ورفث التكلم وقال الفراء والأخفش أي لا تسمع فيها كلمة لغو .وفي المراد بها ستة أوجه : أحدها : يعني كذبا وبهتانا وكفرا بالله عز وجل قاله ابن عباس .الثاني : لا باطل ولا إثم قاله قتادة .الثالث : أنه الشتم قاله مجاهد .الرابع : المعصية قاله الحسن .الخامس : لا يسمع فيها حالف يحلف بكذب قاله الفراء .وقال الكلبي : لا يسمع في الجنة حالف بيمين برة ولا فاجرة .السادس : لا يسمع في كلامهم كلمة بلغو ; لأن أهل الجنة لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم قاله الفراء أيضا .وهو أحسنها ; لأنه يعم ما ذكر .وقرأ أبو عمرو وابن كثير " لا يسمع " بياء غير مسمى الفاعل .وكذلك نافع , إلا أنه بالتاء المضمومة ; لأن اللاغية اسم مؤنث فأنث الفعل لتأنيثه .ومن قرأ بالياء ; فلأنه حال بين الاسم والفعل الجار والمجرور .وقرأ الباقون بالتاء مفتوحة " لاغية " نصا على إسناد ذلك للوجوه , أي لا تسمع الوجوه فيها لاغية .

فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)


أي بماء مندفق , وأنواع الأشربة اللذيذة على وجه الأرض من غير أخدود .وقد تقدم في سورة " الإنسان " أن فيها عيونا .ف " عين " : بمعنى عيون .والله أعلم .

فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (13)


أي عالية .وروي أنه كان ارتفاعها قدر ما بين السماء والأرض , ليرى ولي الله ملكه حوله .

وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (14)


أي أباريق وأوان .والإبريق : هو ما له عروة وخرطوم .والكوب : إناء ليس له عروة ولا خرطوم .وقد تقدم هذا في سورة " الزخرف " وغيرها .

وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)


ونمارق أي وسائد ، الواحدة نمرقة . مصفوفة أي واحدة إلى جنب الأخرى . قال الشاعر :وإنا لنجري الكأس بين شروبنا وبين أبي قابوس فوق النمارقوقال آخر :كهول وشبان حسان وجوههم على سرر مصفوفة ونمارقوفي الصحاح : النمرق والنمرقة : وسادة صغيرة . وكذلك النمرقة ( بالكسر ) لغة حكاها يعقوب . وربما سموا الطنفسة التي فوق الرحل نمرقة عن أبي عبيد .

وَزَرَابِىُّ مَبْثُوثَةٌ (16)


وزرابي مبثوثة قال أبو عبيدة : الزرابي : البسط . وقال ابن عباس : الزرابي : الطنافس التي لها خمل رقيق ، واحدتها : زربية وقال الكلبي والفراء . والمبثوثة : المبسوطة قال قتادة . وقيل : بعضها فوق بعض قاله عكرمة . وقيل كثيرة قاله الفراء . وقيل : متفرقة في المجالس قاله القتبي .قلت : هذا أصوب ، فهي كثيرة متفرقة . ومنه وبث فيها من كل دابة . وقال أبو بكر الأنباري : وحدثنا أحمد بن الحسين ، قال حدثنا حسين بن عرفة ، قال حدثنا عمار بن محمد ، قال : صليت خلف منصور بن المعتمر ، فقرأ : هل أتاك حديث الغاشية ، وقرأ فيها : وزرابي مبثوثة : متكئين فيها ناعمين .

أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)


قوله تعالى : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقتقال المفسرون : لما ذكر الله - عز وجل - أمر أهل الدارين ، تعجب الكفار من ذلك ، فكذبوا وأنكروا فذكرهم الله صنعته وقدرته وأنه قادر على كل شيء ، كما خلق الحيوانات والسماء والأرض . ثم ذكر الإبل أولا ; لأنها كثيرة في العرب ، ولم يروا الفيلة ، فنبههم - جل ثناؤه - على عظيم من خلقه قد ذلله للصغير ، يقوده وينيخه وينهضه ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك ، فينهض بثقيل حمله ، وليس ذلك في شيء من الحيوان غيره . فأراهم عظيما من خلقه ، مسخرا لصغير من خلقه يدلهم بذلك على توحيده وعظيم قدرته . وعن بعض الحكماء : أنه حدث عن البعير وبديع خلقه ، وقد نشأ في بلاد لا إبل فيها ففكر ثم قال : يوشك أن تكون طوال الأعناق . وحين أراد بها أن تكون سفائن البر ، صبرها على احتمال العطش حتى إن إظماءها ليرتفع إلى العشر فصاعدا ، وجعلها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز ، مما لا يرعاه سائر البهائم . وقيل : لما ذكر السرر المرفوعة قالوا : كيف نصعدها ؟ فأنزل الله هذه الآية ، وبين أن الإبل تبرك حتى يحمل عليها ثم تقوم فكذلك تلك السرر تتطامن ثم ترتفع . قال معناه قتادة ومقاتل وغيرهما . وقيل : الإبل هنا القطع العظيمة من السحاب قاله المبرد . قال الثعلبي : وقيل في الإبل هنا : السحاب ، ولم أجد لذلك أصلا في كتب الأئمة .قلت : قد ذكر الأصمعي أبو سعيد عبد الملك بن قريب ، قال أبو عمرو : من قرأها أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت بالتخفيف : عنى به البعير ; لأنه من ذوات الأربع ، يبرك فتحمل عليه الحمولة ، وغيره من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم . ومن قرأها بالتثقيل فقال : الإبل ، عنى بها السحاب التي تحمل الماء والمطر . وقال الماوردي : وفي الإبل وجهان : أحدهما : وهو أظهرهما وأشهرهما : أنها الإبل من النعم . الثاني : أنها السحاب . فإن كان المراد بها السحاب ، فلما فيها من الآيات الدالة على قدرته ، والمنافع العامة لجميع خلقه . وإن كان المراد بها الإبل من النعم ; فلأن الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوان ; لأن 3 ضروبه أربعة : حلوبة ، وركوبة ، وأكولة ، وحمولة . والإبل تجمع هذه الخلال الأربع فكانت النعمة بها أعم ، وظهور القدرة فيها أتم . وقال الحسن : إنما خصها الله بالذكر ; لأنها تأكل النوى والقت ، وتخرج اللبن . وسئل الحسن أيضا عنها وقالوا : الفيل أعظم في الأعجوبة : فقال : العرب بعيدة العهد بالفيل ، ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ، ولا يركب ظهره ، ولا يحلب دره . وكان شريح يقول : اخرجوا بنا إلى الكناسة حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت . والإبل : لا واحد لها من لفظها ، وهي مؤنثة ; لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها ، إذا كانت لغير الآدميين ، فالتأنيث لها لازم ، وإذا صغرتها دخلتها الهاء ، فقلت : أبيلة وغنيمة ، ونحو ذلك . وربما قالوا للإبل : إبل ، بسكون الباء للتخفيف ، والجمع : آبال .

وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)


أي رفعت عن الأرض بلا عمد .وقيل : رفعت , فلا ينالها شيء .

وَإِلَى ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)


أي كيف نصبت على الأرض , بحيث لا تزول وذلك أن الأرض لما دحيت مادت , فأرساها بالجبال .كما قال : " وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم " [ الأنبياء : 31 ] .

وَإِلَى ٱلْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)


وإلى الأرض كيف سطحت أي بسطت ومدت . وقال أنس : صليت خلف علي - رضي الله عنه - فقرأ كيف خلقت ورفعت ونصبت وسطحت ، بضم التاءات أضاف الضمير إلى الله تعالى . وبه كان يقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية والمفعول محذوف ، والمعنى خلقتها . وكذلك سائرها . وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو رجاء : ( سطحت ) بتشديد الطاء وإسكان التاء . وكذلك قرأ الجماعة ، إلا أنهم خففوا الطاء . وقدم الإبل في الذكر ، ولو قدم غيرها لجاز . قال القشيري : وليس هذا مما يطلب فيه نوع حكمة . وقد قيل : هو أقرب إلى الناس في حق العرب ، لكثرتها عندهم ، وهم من أعرف الناس بها . وأيضا : مرافق الإبل أكثر من مرافق الحيوانات الأخر فهي مأكولة ، ولبنها مشروب ، وتصلح للحمل والركوب ، وقطع المسافات البعيدة عليها ، والصبر على العطش ، وقلة العلف ، وكثرة الحمل ، وهي معظم أموال العرب . وكانوا يسيرون على الإبل منفردين مستوحشين عن الناس ، ومن هذا حاله تفكر فيما يحضره ، فقد ينظر في مركوبه ، ثم يمد بصره إلى السماء ثم إلى الأرض . فأمروا بالنظر في هذه الأشياء ، فإنها أدل دليل على الصانع المختار القادر .

فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ (21)


" فذكر " أي فعظهم يا محمد وخوفهم ." إنما أنت مذكر " أي واعظ .

لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)


لست عليهم بمسيطر أي بمسلط عليهم فتقتلهم . ثم نسختها آية السيف . وقرأ هارون الأعور ( بمسيطر ) ( بفتح الطاء ) ، والمسيطرون . وهي لغة تميم . وفي الصحاح : " المسيطر والمصيطر : المسلط على الشيء ، ليشرف عليه ، ويتعهد أحواله ، . ويكتب عمله ، وأصله من السطر ; لأن من معنى السطر ألا يتجاوز ، فالكتاب مسطر ، والذي يفعله مسطر ومسيطر يقال : سيطرت علينا ، وقال تعالى : لست عليهم بمسيطر . وسطره أي صرعه .

إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ (23)


استثناء منقطع , أي لكن من تولى عن الوعظ والتذكير .

فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَكْبَرَ (24)


فيعذبه الله العذاب الأكبر وهي جهنم الدائم عذابها . وإنما قال : الأكبر ; لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والأسر والقتل . ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود : إلا من تولى وكفر فإنه يعذبه الله . وقيل : هو استثناء متصل . والمعنى : لست بمسلط إلا على من تولى وكفر ، فأنت مسلط عليه بالجهاد ، والله يعذبه بعد ذلك العذاب الأكبر ، فلا نسخ في الآية على هذا التقدير . وروي أن عليا أتي برجل ارتد ، فاستتابه ثلاثة أيام ، فلم يعاود الإسلام ، فضرب عنقه ، وقرأ إلا من تولى وكفر . وقرأ ابن عباس وقتادة ألا على الاستفتاح والتنبيه ، كقول امرئ القيس :ألا رب يوم لك منهن صالح [ ولا سيما يوم بدارة جلجل ]ومن على هذا : للشرط . والجواب فيعذبه الله والمبتدأ بعد الفاء مضمر ، والتقدير : فهو يعذبه الله ; لأنه لو أريد الجواب بالفعل الذي بعد الفاء لكان : إلا من تولى وكفر يعذبه الله .

إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ (25)


إن إلينا إيابهم أي رجوعهم بعد الموت . يقال : آب يئوب أي رجع . قال عبيد :وكل ذي غيبة يئوب وغائب الموت لا يئوبوقرأ أبو جعفر ( إيابهم ) بالتشديد . قال أبو حاتم : لا يجوز التشديد ، ولو جاز لجاز مثله في الصيام والقيام . وقيل : هما لغتان بمعنى . الزمخشري : وقرأ أبو جعفر المدني ( إيابهم ) بالتشديد ووجهه أن يكون فيعالا : مصدر أيب ، قيل من الإياب . أو أن يكون أصله إوابا فعالا من أوب ، ثم قيل : إيوابا كديوان في دوان . ثم فعل ما فعل بأصل سيد ونحوه .

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم (26)