تفسير سورة الضحى الصفحة 596 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 596 من المصحف


بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ وَٱلضُّحَىٰ (1)


سورة الضحىمكية باتفاق . وهي إحدى عشرة آيةبسم الله الرحمن الرحيموالضحىقوله تعالى : والضحى والليل إذا سجى قد تقدم القول في ( الضحى ) ، والمراد به النهار لقوله : والليل إذا سجى فقابله بالليل . وفي سورة ( الأعراف ) أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أي نهارا . وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق : أقسم بالضحى الذي كلم الله فيه موسى ، وبليلة المعراج . وقيل : هي الساعة التي خر فيها السحرة سجدا . بيانه قوله تعالى : وأن يحشر الناس ضحى . وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله : فيه إضمار ، مجازه ورب الضحى .

وَٱلَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2)


وسجا معناه : سكن قاله قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة . يقال : ليلة ساجية أي ساكنة . ويقال للعين إذا سكن طرفها : ساجية . يقال : سجا الليل يسجو سجوا : إذا سكن . والبحر إذا سجا : سكن . قال الأعشى :فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم وبحرك ساج ما يواري الدعامصاوقال الراجز :يا حبذا القمراء والليل ساج وطرق مثل ملاء النساجوقال جرير :ولقد رمينك يوم رحن بأعين ينظرن من خلل الستور سواجيوقال الضحاك : سجا غطى كل شيء . قال الأصمعي : سجو الليل : تغطيته النهار مثلما يسجى الرجل بالثوب . وقال الحسن : غشي بظلامه وقاله ابن عباس . وعنه : إذا ذهب . وعنه أيضا : إذا أظلم . وقال سعيد بن جبير : أقبل وروي عن قتادة أيضا . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : سجا استوى . والقول الأول أشهر في اللغة : سجا سكن أي سكن الناس فيه . كما يقال : نهار صائم ، وليل قائم . وقيل : سكونه استقرار ظلامه واستواؤه . ويقال : والضحى والليل إذا سجا : يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى ، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم . ويقال : الضحى : يعني نور الجنة إذا تنور . والليل إذا سجا : يعني ظلمة الليل إذا أظلم . ويقال : والضحى : يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار . والليل إذا سجا : يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل فأقسم الله - عز وجل - بهذه الأشياء .

مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (3)


ما ودعك ربك هذا جواب القسم . وكان جبريل - عليه السلام - أبطأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال المشركون : قلاه الله وودعه فنزلت الآية . وقال ابن جريج : احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما . وقال ابن عباس : خمسة عشر يوما . وقيل : خمسة وعشرين يوما . وقال مقاتل : أربعين يوما . فقال المشركون : إن محمدا ودعه ربه وقلاه ، ولو كان أمره من الله لتابع عليه ، كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء . وفي البخاري عن جندب بن سفيان قال : اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت : يا محمد ، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث فأنزل الله - عز وجل - والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى .وفي الترمذي عن جندب البجلي قال : كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار فدميت أصبعه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هل أنت إلا أصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت قال : وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون : قد ودع محمد فأنزل الله تبارك وتعالى : ما ودعك ربك وما قلى . هذا حديث حسن صحيح . لم يذكر الترمذي : ( فلم يقم ليلتين أو ثلاثا ) أسقطه الترمذي . وذكره البخاري ، وهو أصح ما قيل في ذلك . والله أعلم .وقد ذكره الثعلبي أيضا عن جندب بن سفيان البجلي ، قال : رمي النبي - صلى الله عليه وسلم - في إصبعه بحجر ، فدميت ، فقال : أنت إلا أصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم الليل . فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب : ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث فنزلت والضحى . وروى عن أبي عمران الجوني ، قال : " أبطأ جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى شق عليه فجاء وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو فنكت بين كتفيه ، وأنزل عليه : ما ودعك ربك وما قلى . وقالت خولة - وكانت تخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن جروا دخل البيت ، فدخل تحت السرير فمات ، فمكث نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أياما لا ينزل عليه الوحي . فقال : " يا خولة ، ما حدث في بيتي ؟ ما لجبريل لا يأتيني " قالت خولة فقلت : لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير ، فإذا جرو ميت ، فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبي الله ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال : " يا خولة دثريني " فأنزل الله هذه السورة . ولما نزل جبريل سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التأخر فقال : " أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة " .وقيل : لما سألته اليهود عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف قال : " سأخبركم غدا " . ولم يقل إن شاء الله . فاحتبس عنه الوحي ، إلى أن نزل جبريل عليه بقوله : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله فأخبره بما سئل عنه . وفي هذه القصة نزلت ما ودعك ربك وما قلى . وقيل : إن المسلمين قالوا : يا رسول الله ، ما لك لا ينزل عليك الوحي ؟ فقال : " وكيف ينزل علي وأنتم لا تنقون رواجبكم - وفي رواية براجمكم - ولا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم " . فنزل جبريل بهذه السورة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما جئت حتى اشتقت إليك " فقال جبريل : " وأنا كنت أشد إليك شوقا ، ولكني عبد مأمور " ثم أنزل عليه وما نتنزل إلا بأمر ربك . ودعك بالتشديد : قراءة العامة ، من التوديع ، وذلك كتوديع المفارق . وروي عن ابن عباس وابن الزبير أنهما قرآه ( ودعك ) بالتخفيف ، ومعناه : تركك . قال :وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمرواستعماله قليل . يقال : هو يدع كذا ، أي يتركه . قال المبرد محمد بن يزيد : لا يكادون يقولون ودع ولا وذر ، لضعف الواو إذا قدمت ، واستغنوا عنها بترك .قوله تعالى : وما قلى أي ما أبغضك ربك منذ أحبك . وترك الكاف ; لأنه رأس آية . والقلى : البغض فإن فتحت القاف مددت تقول : قلاه يقليه قلى وقلاء . كما تقول : قريت الضيف أقريه قرى وقراء . ويقلاه : لغة طيئ . وأنشد ثعلب :أيام أم الغمر لا نقلاهاأي لا نبغضها . ونقلى أي نبغض . وقال [ كثير عزة ] :أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلتوقال امرؤ القيس :صرفت الهوى عنهن من خشية الهوى ولست بمقلي الخلال ولا قالوتأويل الآية : ما ودعك ربك وما قلاك . فترك الكاف ; لأنه رأس آية كما قال - عز وجل - : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أي والذاكرات الله .

وَلَلْءَاخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلْأُولَىٰ (4)


قوله تعالى : وللآخرة خير لك من الأولىروى سلمة عن ابن إسحاق قال : وللآخرة خير لك من الأولى أي ما عندي في مرجعك إلي يا محمد ، خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا . وقال ابن عباس : أري النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يفتح الله على أمته بعده فسر بذلك فنزل جبريل بقوله : وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى .

وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰٓ (5)


قال ابن إسحاق : الفلج في الدنيا ، والثواب في الآخرة . وقيل : الحوض والشفاعة . وعن ابن عباس : ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك . رفعه الأوزاعي ، قال : حدثني إسماعيل بن عبيد الله ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه قال : أري النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو مفتوح على أمته ، فسر بذلك فأنزل الله - عز وجل - ( والضحى - إلى قوله تعالى - ولسوف يعطيك ربك فترضى ) ، فأعطاه الله - جل ثناؤه - ألف قصر في الجنة ، ترابها المسك في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم . وعنه قال : - رضي محمد ألا يدخل أحد من أهل بيته النار . وقال السدي . وقيل : هي الشفاعة في جميع المؤمنين . وعن علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يشفعني الله في أمتي حتى يقول الله سبحانه لي : رضيت يا محمد ؟ فأقول يا رب رضيت .وفي صحيح مسلم عن ، عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قول الله تعالى في إبراهيم : فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم وقول عيسى : إن تعذبهم فإنهم عبادك ، فرفع يديه وقال : " اللهم أمتي أمتي " وبكى . فقال الله تعالى لجبريل : ( اذهب إلى محمد ، وربك أعلم ، فسله ما يبكيك ) فأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأل فأخبره . فقال الله تعالى لجبريل : ( اذهب إلى محمد ، فقل له : إن الله يقول لك : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ) .وقال علي - رضي الله عنه - لأهل العراق : إنكم تقولون إن أرجى آية في كتاب الله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله قالوا : إنا نقول ذلك . قال : ولكنا أهل البيت نقول : إن أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى : ولسوف يعطيك ربك فترضى . وفي الحديث : لما نزلت هذه الآية قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا والله لا أرضى وواحد من أمتي في النار " .

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَـَٔاوَىٰ (6)


قوله تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى عدد سبحانه مننه على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألم يجدك يتيما لا أب لك قد مات أبوك . فآوى أي جعل لك مأوى تأوي إليه عند عمك أبي طالب ، فكفلك . وقيل لجعفر بن محمد الصادق : لم أوتم النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبويه ؟ فقال : لئلا يكون لمخلوق عليه حق . وعن مجاهد : هو من قول العرب : درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل . فمجاز الآية : ألم يجدك واحدا في شرفك لا نظير لك ، فآواك الله بأصحاب يحفظونك ويحوطونك .

وَوَجَدَكَ ضَآلًّا فَهَدَىٰ (7)


قوله تعالى : ووجدك ضالا فهدىأي غافلا عما يراد بك من أمر النبوة ، فهداك : أي أرشدك . والضلال هنا بمعنى الغفلة كقوله جل ثناؤه : لا يضل ربي ولا ينسى أي لا يغفل . وقال في حق نبيه : وإن كنت من قبله لمن الغافلين . وقال قوم : ضالا لم تكن تدري القرآن والشرائع ، فهداك الله إلى القرآن ، وشرائع الإسلام عن الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما . وهو معنى قوله تعالى : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، على ما بينا في سورة ( الشورى ) . وقال قوم : ووجدك ضالا أي في قوم ضلال ، فهداهم الله بك . هذا قول الكلبي والفراء . وعن السدي نحوه أي ووجد قومك في ضلال ، فهداك إلى إرشادهم . وقيل : ووجدك ضالا عن الهجرة ، فهداك إليها . وقيل : ضالا أي ناسيا شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح - فأذكرك كما قال تعالى : أن تضل إحداهما . وقيل : ووجدك طالبا للقبلة فهداك إليها بيانه : قد نرى تقلب وجهك في السماء الآية . ويكون الضلال بمعنى الطلب ; لأن الضال طالب . وقيل : ووجدك متحيرا عن بيان ما نزل عليك ، فهداك إليه فيكون الضلال بمعنى التحير ; لأن الضال متحير . وقيل : ووجدك ضائعا في قومك فهداك إليه ويكون الضلال بمعنى الضياع . وقيل : ووجدك محبا للهداية ، فهداك إليها ويكون الضلال بمعنى المحبة . ومنه قوله تعالى : قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم أي في محبتك . قال الشاعر :هذا الضلال أشاب مني المفرقا والعارضين ولم أكن متحققا عجبا لعزة في اختيار قطيعتيبعد الضلال فحبلها قد أخلقاوقيل : ضالا في شعاب مكة ، فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب . قال ابن عباس : ضل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير في شعاب مكة ، فرآه أبو جهل منصرفا عن أغنامه ، فرده إلى جده عبد المطلب فمن الله عليه بذلك ، حين رده إلى جده على يدي عدوه . وقال سعيد بن جبير : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عمه أبي طالب في سفر ، فأخذ إبليس بزمام الناقة في ليلة ظلماء ، فعدل بها عن الطريق ، فجاء جبريل - عليه السلام - ، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الهند ، ورده إلى القافلة فمن الله عليه بذلك . وقال كعب : إن حليمة لما قضت حق الرضاع ، جاءت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لترده على عبد المطلب ، فسمعت عند باب مكة : هنيئا لك يا بطحاء مكة ، اليوم يرد إليك النور والدين والبهاء والجمال . قالت : فوضعته لأصلح ثيابي ، فسمعت هدة شديدة ، فالتفت فلم أره ، فقلت : معشر الناس ، أين الصبي ؟ فقالوا : لم نر شيئا فصحت : وامحمداه فإذا شيخ فان يتوكأ على عصاه ، فقال : اذهبي إلى الصنم الأعظم ، فإن شاء أن يرده عليك فعل . ثم طاف الشيخ بالصنم ، وقبل رأسه وقال : يا رب ، لم تزل منتك على قريش ، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضل ، فرده إن شئت . فانكب ( هبل ) على وجهه ، وتساقطت الأصنام ، وقالت : إليك عنا أيها الشيخ ، فهلاكنا على يدي محمد . فألقى الشيخ عصاه ، وارتعد وقال : إن لابنك ربا لا يضيعه ، فاطلبيه على مهل . فانحشرت قريش إلى عبد المطلب ، وطلبوه في جميع مكة ، فلم يجدوه . فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعا ، وتضرع إلى الله أن يرده ، وقال :يا رب رد ولدي محمدا اردده ربي واتخذ عندي يدايا رب إن محمد لم يوجدا فشمل قومي كلهم تبددافسمعوا مناديا ينادي من السماء : معاشر الناس لا تضجوا ، فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه ، وإن محمدا بوادي تهامة ، عند شجرة السمر . فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل ، فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - قائم تحت شجرة ، يلعب بالأغصان وبالورق . وقيل : ووجدك ضالا ليلة المعراج ، حين انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق ، فهداك إلى ساق العرش . وقال أبو بكر الوراق وغيره : ووجدك ضالا : تحب أبا طالب ، فهداك إلى محبة ربك . وقال بسام بن عبد الله : ووجدك ضالا بنفسك لا تدري من أنت ، فعرفك بنفسك وحالك . وقال الجنيدي : ووجدك متحيرا في بيان الكتاب ، فعلمك البيان بيانه : لتبين للناس ما نزل إليهم الآية . لتبين لهم الذي اختلفوا فيه . وقال بعض المتكلمين : إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض ، لا شجر معها ، سموها ضالة ، فيهتدى بها إلى الطريق فقال الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : ووجدك ضالا أي لا أحد على دينك ، وأنت وحيد ليس معك أحد فهديت بك الخلق إلي .قلت : هذه الأقوال كلها حسان ، ثم منها ما هو معنوي ، ومنها ما هو حسي . والقول الأخير أعجب إلي ; لأنه يجمع الأقوال المعنوية . وقال قوم : إنه كان على جملة ما كان القوم عليه ، لا يظهر لهم خلافا على ظاهر الحال فأما الشرك فلا يظن به بل كان على مراسم القوم في الظاهر أربعين سنة . وقال الكلبي والسدي : هذا على ظاهره أي وجدك كافرا والقوم كفار فهداك . وقد مضى هذا القول والرد عليه في سورة ( الشورى ) . وقيل : وجدك مغمورا بأهل الشرك ، فميزك عنهم . يقال : ضل الماء في اللبن ومنه أئذا ضللنا في الأرض أي لحقنا بالتراب عند الدفن ، حتى كأنا لا نتميز من جملته . وفي قراءة الحسن ووجدك ضال فهدى أي وجدك الضال فاهتدى بك وهذه قراءة على التفسير . وقيل : ووجدك ضالا لا يهتدي إليك قومك ، ولا يعرفون قدرك فهدى المسلمين إليك ، حتى آمنوا بك .

وَوَجَدَكَ عَآئِلًا فَأَغْنَىٰ (8)


قوله تعالى : ووجدك عائلا فأغنىأي فقيرا لا مال لك . فأغنى أي فأغناك بخديجة - رضي الله عنها - يقال : عال الرجل يعيل عيلة : إذا افتقر . وقال أحيحة بن الجلاح :فما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيلأي يفتقر . وقال مقاتل : فرضاك بما أعطاك من الرزق . وقال الكلبي : قنعك بالرزق . وقال ابن عطاء : ووجدك فقير النفس ، فأغنى قلبك . وقال الأخفش : وجدك ذا عيال دليله فأغنى . ومنه قول جرير :الله أنزل في الكتاب فريضة لابن السبيل وللفقير العائلوقيل : وجدك فقيرا من الحجج والبراهين ، فأغناك بها . وقيل : أغناك بما فتح لك من الفتوح ، وأفاءه عليك من أموال الكفار . القشيري : وفي هذا نظر ; لأن السورة مكية ، وإنما فرض الجهاد بالمدينة .وقراءة العامة عائلا . وقرأ ابن السميقع ( عيلا ) بالتشديد مثل طيب وهين .

فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)


قوله تعالى : فأما اليتيم فلا تقهر أي لا تسلط عليه بالظلم ، ادفع إليه حقه ، واذكر يتمك قال الأخفش . وقيل : هما لغتان : بمعنى . وعن مجاهد فلا تقهر فلا تحتقر . وقرأ النخعي والأشهب العقيلي ( تكهر ) بالكاف ، وكذا هو في مصحف ابن مسعود . فعلى هذا يحتمل أن يكون نهيا عن قهره ، بظلمه وأخذ ماله . وخص اليتيم ; لأنه لا ناصر له غير الله تعالى فغلظ في أمره ، بتغليظ العقوبة على ظالمه . والعرب تعاقب بين الكاف والقاف . النحاس : وهذا غلط ، إنما يقال كهره : إذا اشتد عليه وغلظ . وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي ، حين تكلم في الصلاة برد السلام ، قال : فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوالله ما كهرني ، ولا ضربني ، ولا شتمني . . . الحديث . وقيل : القهر الغلبة . والكهر : الزجر .ودلت الآية على اللطف باليتيم ، وبره والإحسان إليه حتى قال قتادة : كن لليتيم كالأب الرحيم . وروي عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه فقال : " إن أردت أن يلين ، فامسح رأس اليتيم ، وأطعم المسكين " . وفي الصحيح عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين ، وأشار بالسبابة والوسطى .ومن حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن ، فيقول الله تعالى لملائكته : يا ملائكتي ، من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب ، فتقول الملائكة ربنا أنت أعلم ، فيقول الله تعالى لملائكته : يا ملائكتي ، اشهدوا أن من أسكته وأرضاه ؟ أن أرضيه يوم القيامة " . فكان ابن عمر إذا رأى يتيما مسح برأسه ، وأعطاه شيئا . وعن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من ضم يتيما فكان في نفقته ، وكفاه مؤونته ، كان له حجابا من النار يوم القيامة ، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة . وقال أكثم بن صيفي : الأذلاء أربعة : النمام ، والكذاب ، والمديون ، واليتيم .

وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)


قوله تعالى : وأما السائل فلا تنهر أي لا تزجره فهو نهي عن إغلاظ القول . ولكن رده ببذل يسير ، أو رد جميل ، واذكر فقرك قاله قتادة وغيره . وروي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يمنعن أحدكم السائل ، وأن يعطيه إذا سأل ، ولو رأى في يده قلبين من ذهب . وقال إبراهيم بن أدهم : نعم القوم السؤال : يحملون زادنا إلى الآخرة . وقال إبراهيم النخعي : السائل بريد الآخرة ، يجيء إلى باب أحدكم فيقول : هل تبعثون إلى أهليكم بشيء . وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ردوا السائل ببذل يسير ، أو رد جميل ، فإنه يأتيكم من ليس من الإنس ولا من الجن ، ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم الله . وقيل : المراد بالسائل هنا ، الذي يسأل عن الدين أي فلا تنهره بالغلظة والجفوة ، وأجبه برفق ولين قالهسفيان . قال ابن العربي : وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم ، على الكفاية كإعطاء سائل البر سواء . وقد كان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث ، ويبسط رداءه لهم ، ويقول : مرحبا بأحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي حديث أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كنا إذا أتينا أبا سعيد يقول : مرحبا بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون ، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا . وفي رواية يأتيكم رجال من قبل المشرق . . . فذكره . واليتيم والسائل منصوبان بالفعل الذي بعده وحق المنصوب أن يكون بعد الفاء ، والتقدير : مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم ، ولا تنهر السائل . وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " سألت ربي مسألة وددت أني لم أسألها : قلت يا رب اتخذت إبراهيم خليلا ، وكلمت موسى تكليما ، وسخرت مع داود الجبال يسبحن ، وأعطيت فلانا كذا فقال - عز وجل - : ألم أجدك يتيما فآويتك ؟ ألم أجدك ضالا فهديتك ؟ ألم أجدك عائلا فأغنيتك ؟ ألم أشرح لك صدرك ؟ ألم أوتك ما لم أوت أحدا قبلك : خواتيم سورة البقرة ، ألم أتخذك خليلا ، كما اتخذت إبراهيم خليلا ؟ قلت بلى يا رب " .

وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)


قوله تعالى : وأما بنعمة ربك فحدث أي انشر ما أنعم الله عليك بالشكر والثناء . والتحدث بنعم الله ، والاعتراف بها شكر . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد وأما بنعمة ربك قال بالقرآن . وعنه قال : بالنبوة أي بلغ ما أرسلت به . والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والحكم عام له ولغيره . وعن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال : إذا أصبت خيرا ، أو عملت خيرا ، فحدث به الثقة من إخوانك . وعن عمرو بن ميمون قال : إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به ، يقول له : رزق الله من الصلاة البارحة وكذا وكذا . وكان أبو فراس عبد الله بن غالب إذا أصبح يقول : لقد رزقني الله البارحة كذا ، قرأت كذا ، وصليت كذا ، وذكرت الله كذا ، وفعلت كذا . فقلنا له : يا أبا فراس ، إن مثلك لا يقول هذا قال يقول الله تعالى : وأما بنعمة ربك فحدث وتقولون أنتم : لا تحدث بنعمة الله ونحوه عن أيوب السختياني وأبي رجاء العطاردي - رضي الله عنهم - . وقال بكر بن عبد الله المزني قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من أعطي خيرا فلم ير عليه ، سمي بغيض الله ، معاديا لنعم الله " .وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من لم يشكو القليل ، لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس ، لم يشكر الله ، والتحدث بالنعم شكر ، وتركه كفر ، والجماعة رحمة ، والفرقة عذاب . وروى النسائي عن مالك بن نضلة الجشمي قال : كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا ، فرآني رث الثياب فقال : " ألك مال ؟ " قلت : نعم ، يا رسول الله ، من كل المال . قال : " إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك " . وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الله جميل يحب الجمال ، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده .فصل : يكبر القارئ في رواية البزي عن ابن كثير - وقد رواه مجاهد عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا بلغ آخر والضحى كبر بين كل سورة تكبيرة ، إلى أن يختم القرآن ، ولا يصل آخر السورة بتكبيره بل يفصل بينهما بسكتة . وكأن المعنى في ذلك أن الوحي تأخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أياما ، فقال ناس من المشركين : قد ودعه صاحبه وقلاه فنزلت هذه السورة فقال : " الله أكبر " . قال مجاهد : قرأت على ابن عباس ، فأمرني به ، وأخبرني به عن أبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يكبر في قراءة الباقين ; لأنها ذريعة إلى الزيادة في القرآن .قلت : القرآن ثبت نقلا متواترا سوره وآياته وحروفه لا زيادة فيه ولا نقصان فالتكبير على هذا ليس بقرآن . فإذا كان بسم الله الرحمن الرحيم المكتوب في المصحف بخط المصحف ليس بقرآن ، فكيف بالتكبير الذي هو ليس بمكتوب . أما أنه ثبت سنة بنقل الآحاد ، فاستحبه ابن كثير ، لا أنه أوجبه فخطأ من تركه . ذكر الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ في كتاب ( المستدرك ) له على البخاري ومسلم : حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن يزيد ، المقرئ الإمام بمكة ، في المسجد الحرام ، قال : حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي بن زيد الصائغ ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن القاسم بن أبي بزة : سمعت عكرمة بن سليمان يقول : قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين ، فلما بلغت والضحى قال لي كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم ، فإني قرأت على عبد الله بن كثير فلما بلغت والضحى قال : كبر حتى تختم . وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد ، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك ، وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك ، وأخبره أبي بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بذلك . هذا حديث صحيح ولم يخرجاه .