تفسير سورة النحل الصفحة 272 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 272 من المصحف


وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِىٓ إِلَيْهِمْ فَسْـَٔلُوٓا۟ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)


يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلى أمة من الأمم، للدعاء إلى توحيدنا ، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا، إلا رجالا من بني آدم نوحي إليهم وحينا لا ملائكة، يقول: فلم نرسل إلى قومك إلا مثل الذي كنا نرسل إلى من قَبلهم من الأمم من جنسهم وعلى منهاجهم ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) يقول لمشركي قريش: وإن كنتم لا تعلمون أن الذين كنا نرسل إلى من قبلكم من الأمم رجال من بني آدم مثل محمد صلى الله عليه وسلم وقلتم: هم ملائكة: أي ظننتم أن الله كلمهم قبلا فاسألوا أهل الذكر ، وهم الذين قد قرءوا الكتب من قبلهم: التوراة والإنجيل، وغير ذلك من كتب الله التي أنزلها على عباده.وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) قال: أهل التوراة.حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن سفيان، قال: سألت الأعمش، عن قوله ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) قال: سمعنا أنه من أسلم من أهل التوراة والإنجيل.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال: هم أهل الكتاب.حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال: قال لمشركي قريش: إن محمدا في التوراة والإنجيل.حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: لما بعث الله محمدا رسولا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد ، قال: فأنزل الله أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ فاسألوا أهل الذكر: يعني أهل الكتب الماضية، أبشرا كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم ، وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد رسولا قال: ثم قال وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم.وقال آخرون في ذلك ما حدثنا به ابن وكيع، قال: ثنا ابن يمان، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال: نحن أهل الذكر.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال: الذكر: القرآن ، وقرأ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وقرأ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ... الآية.

بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)


يقول تعالى ذكره: أرسلنا بالبينات والزُّبُر رجالا نوحي إليهم.فإن قال قائل: وكيف قيل بالبينات والزُّبُر ، وما الجالب لهذه الباء في قوله ( بِالْبَيِّنَاتِ ) فإن قلت: جالبها قوله ( أرْسَلْنَا ) وهي من صلته، فهل يجوز أن تكون صلة " ما " قبل " إلا " بعدها؟ وإن قلت: جالبها غير ذلك، فما هو؟ وأين الفعل الذي جلبها ، قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك، فقال بعضهم: الباء التي في قوله (بالبَيِّنَاتِ ) من صلة أرسلنا، وقال: إلا في هذا الموضع، ومع الجحد والاستفهام في كلّ موضع بمعنى غير ، وقال: معنى الكلام: وما أرسلنا من قبلكم بالبينات والزبر غير رجال نوحي إليهم، ويقول على ذلك: ما ضرب إلا أخوك زيدا، وهل كلم إلا أخوك عمرا، بمعنى: ما ضرب زيدا غير أخيك، وهل كلم عمرا إلا أخوك؟ ويحتجّ في ذلك بقول أوْس بن حَجَر:أبَنِي لُبَيْنَي لَسْتُمَ بِيَدٍإلا يَدٍ لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ (1)ويقول: لو كانت " إلا " بغير معنى لفسد الكلام، لأن الذي خفض الباء قبل إلا لا يقدر على إعادته بعد إلا لخفض اليد الثانية، ولكن معنى إلا معنى غير ، ويستشهد أيضا بقول الله عزّ وجلّ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ ويقول: إلا بمعنى غير في هذا الموضع ، وكان غيره يقول: إنما هذا على كلامين، يريد: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا أرسلنا بالبينات والزبر ، قال: وكذلك قول القائل: ما ضرب إلا أخوك زيدا معناه: ما ضرب إلا أخوك ، ثم يبتدئ ضرب زيدا، وكذلك ما مَرَّ إلا أخوك بزيد ما مرّ إلا أخوك، ثم يقول: مرّ بزيد ، ويستشهد على ذلك ببيت الأعشى:ولَيْسَ مُجِيرًا إنْ أتَى الحَيَّ خائِفٌوَلا قائِلا إلا هُوَ المُتَعَيَّبا (2)ويقول: لو كان ذلك على كلمة لكان خطأ، لأن المُتَعَيَّبا من صلة القائل، ولكن جاز ذلك على كلامين وكذلك قول الآخر:نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبُوا بالنَّارِ جارَهُمُوَهَلْ يُعَذِّبُ إلا اللَّهُ بالنَّارِ (3)فتأويل الكلام إذن: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ أرسلناهم بالبينات والزبر، وأنزلنا إليك الذكر. والبينات: هي الأدلة والحجج التي أعطاها الله رسله أدلة على نبوّتهم شاهدة لهم على حقيقة ما أتوا به إليهم من عند الله. والزُّبُر: هي الكتب، وهي جمع زَبُور، من زَبَرْت الكتاب وذَبَرته: إذا كتبته.وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ) قال: الزبر: الكتب.حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ) قال: الآيات. والزبر: الكتب.حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الزُّبُر: الكتب.حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (بالزُّبُر) يعني: بالكتب.وقوله ( وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ) يقول: وأنزلنا إليك يا محمد هذا القرآن تذكيرا للناس وعظة لهم ، ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ) يقول: لتعرفهم ما أنزل إليهم من ذلك ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) يقول: وليتذكروا فيه ويعتبروا به أي بما أنزلنا إليك ، وقد حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا الثوري، قال: قال مجاهد ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) قال: يطيعون.----------------------الهوامش :(1) رواية هذا البيت في الكتاب لسيبويه ( 1: 362 ):يا بُنَيْ لُبَيْنَى لَسْتُمَا بِيَدٍإلاَّ يَداً لَيسَتْ لَهَا عَضُدُبنصب يد التي بعد إلا على محل بيد التي قبلها. قال الشنتمري في الكلام على الشاهد: الشاهد فيه نصب ما بعد إلا، على البدل من موضع الباء وما عملت فيه. والتقدير: لستما يدا إلا يدا لا عضد لها. ولا يجوز الجر على البدل من المجرور، لأن ما بعد "إلا" مجرور، والباء: مؤكدة للنفي. ويروي: مخبولةالعضد. والخبل: الفساد، أي أنتما في الضعف وقلة النفع كيد بطل عضدها. أ ه.وقال الفراء في معاني القرآن ( 1: 172): ورأيت الكسائي يجعل إلا مع الجحد والاستفهام بمنزلة غير ... وقال في قوله تعالى: ( لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا) لا أجد المعنى إلا: لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا. واحتج بقول الشاعر:أبني لبيني لستم بيدإلا يد ليست لها عضدفقال: لو كان المعنى إلا لكان الكلام فاسدا في هذا المعنى؛ لأني لا أقدر في هذا البيت على إعادة خافض بضمير، وقد ذهب ههنا مذهبا. قلت: وقد جوز الشيخ خالد في يد التي بعد إلا النصب على الاستثناء، وعلى البدلية، كما مر في كلام الأعلم الشنتمري. وجوز وجهاً ثالثاً تبعا للكسائي وأنشد بيته الشاهد، وهذا الوجه: هو جره على الصفة ليد الأولى. التصريح بمضمون التوضيح 1: 424 ( طبعة الأميرية، باب الاستثناء) .وقال الشيخ يس العليمي الحمصي في حاشيته على التصريح في هذا الموضع: "أبني لبيني" بصيغة المثنى، بدليل قوله "لستما" أي في رواية صاحب التصريح. وهو منادي حذف منه حرف النداء، وليس في قوله: "إلا يد" وصف الشيء بنفسه، لأن المعتمد بالصفة ليد الأولى صفة يد الثانية و "يد" الثانية صفة موطئة.(2) البيت للأعشى بني ثعلبة ميمون بن قيس ( ديوانه طبعة القاهرة ص 113 ) يقول: إنه لا يملك أن يؤمن رجلا، فيجعله في جواره، لأن الناس لا يحترمون هذا الجوار، وإنما يحترمون جوار الأقوياء، فلا يجرءون أن ينالوا جارهم بأذى، والمتعيب اسم مفعول من تعيبه إذا نسبه إلى العيب: أي ولا قائلا القول المعيب إلا هو. وقد بين المؤلف وجه استشهاد بعض النحويين (وهو الكسائي) بالبيت. وأن المتعيبا منصوب بقائلا المحذوف. والتقدير: ولا قائلا إلا هو "قائلا" المعيبا. وهو معنى قوله، ولكن جاز ذلك على كلامين. أ ه.(3) هذا البيت كسابقه: شاهد على أن قوله "بالنار" من صلة الفعل "يعذب" وما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها، فأخره ونوى كلامين، فيكون "بالنار" من صلة "يعذب" المحذوف. والتقدير: وهل يعذب إلا الله، يعذب بالنار. والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( 172 ).

أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُوا۟ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)


يقول تعالى ذكره: أفأمن الذين ظلموا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فراموا أن يفتنوهم عن دينهم من مشركي قريش الذين قالوا: إذ قيل لهم: ماذا أنزل ربكم: أساطير الأوّلين، صدّا منهم لمن أراد الإيمان بالله عن قصد السبيل، أن يخسف الله بهم الأرض على كفرهم وشركهم، أو يأتيهم عذاب الله من مكان لا يشعر به ، ولا يدري من أين يأتيه ، وكان مجاهد يقول: عنى بذلك نمرود بن كنعان.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ ) ... إلى قوله أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ قال: هو نمرود بن كنعان وقومه.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.وإنما اخترنا القول الذي قلناه في تأويل ذلك، لأن ذلك تهديد من الله أهل الشرك به، وهو عقيب قوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فكان تهديد من لم يقرّ بحجة الله الذي جرى الكلام بخطابه قبل ذلك أحرى من الخبر عمن انقطع ذكره عنه.وكان قتادة يقول في معنى السيئات في هذا الموضع، ما حدثنا به بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ ) : أي الشرك.

أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46)


يعني تعالى ذكره بقوله (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) أو يهلكهم في تصرّفهم في البلاد ، وتردّدهم في أسفارهم (فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ) يقول جلّ ثناؤه: فإنهم لا يعجزون الله من ذلك إن أراد أخذهم كذلك.وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) قال: إن شئت أخذته في سفر.حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) في أسفارهم.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، مثله.وقال ابن جريج في ذلك ما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) قال: التقلب: أن يأخذهم بالليل والنهار.

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (47)


وأما قوله ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) فإنه يعني: أو يهلكهم بتخوّف، وذلك بنقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم، يقال منه: تخوّف مال فلان الإنفاق: إذا انتقصه، ونحو تخوّفه من التخوّف بمعنى التنقص، قول الشاعر:تَخَوَّفَ السَّيْرَ مِنْها تامِكا قَرِدًاكما تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ (4)يعني بقوله تخوّف السير: تنقص سَنامها. وقد ذكرنا عن الهيثم بن عدّي أنه كان يقول: هي لغة لأزد شَنوءة معروفة لهم ، ومنه قول الآخر:تَخَوَّفَ عَدْوُهُمْ مالي وأهْدَىسَلاسِل في الحُلُوقِ لَهَا صَلِيلُ (5)وكان الفرّاء يقول: العرب تقول: تحوّفته: أي تنقصته، تحوّفا: أي أخذته من حافاته وأطرافه، قال: فهذا الذي سمعته، وقد أتى التفسير بالحاء وهما بمعنى. قال: ومثله ما قرئ بوجهين قوله: إن لك في النهار سَبْحًا وسَبْخًا.وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن المسعودي، عن إبراهيم بن عامر بن مسعود، عن رجل، عن عُمَر أنه سألهم عن هذه الآية (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) فقالوا: ما نرى إلا أنه عند تنقص ما يردّده من الآيات، فقال عمر: ما أرى إلا أنه على ما تنتقصون من معاصي الله ، قال: فخرج رجل من كان عند عمر، فلقي أعرابيا، فقال: يا فلان ما فعل ربك؟ قال: قد تَخَيفته، يعني تنقصته ، قال: فرجع إلى عمر فأخبره، فقال: قدّر الله ذلك.حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) يقول: إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوّف بذلك.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراسانيّ، عن ابن عباس ( عَلَى تَخَوُّفٍ ) قال: التنقص، والتفزيع.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) على تنقص.حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( عَلَى تَخَوُّفٍ ) قال: تنقص.حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) فيعاقب أو يتجاوز.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) قال: كان يقال: التخوّف: التنقُّص، ينتقصهم من البلدان من الأطراف.حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) يعني: يأخذ العذاب طائفة ويترك أخرى، ويعذّب القرية ويهلكها، ويترك أخرى إلى جنبها.وقوله ( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) يقول: فإن ربكم أن لم يأخذ هؤلاء الذين مكروا السيئات بعذاب معجَّل لهم، وأخذهم بموت وتنقص بعضهم في أثر بعض، لرءوف بخلقه، رحيم بهم، ومن رأفته ورحمته بهم لم يخسف بهم الأرض، ولم يعجِّل لهم العذاب، ولكن يخوّفهم وينقّصهم بموت.--------------------الهوامش :(4) البيت لابن مقبل (لسان العرب: خوف) قال: التخوف: التنقص. وفي التنزيل: "أو يأخذهم على تخوف". قال الفراء في التفسير بأنه التنقيص قال: والعرب تقول: تحوقته أي تنقصته من حافاته. قال: فهذا الذي سمعته. قال: وقد أتى التفسير بالحاء قال الزجاج: ويجوز أن يكون معناه: أو يأخذهم بعد أن يخيفهم بأن يهلك قرية، فتخاف التي تليها. وقال ابن مقبل: تخوف ... إلخ والسفن: الحديدة التي تبرد بها القسي، أي تنقص، كما تأكل هذه الحديدة خشب القسي. وكذلك التخويف، يقال: خوفه وخوف منه. قال ابن السكيت: يقال: هو يتحوف المال (بالمهملة) ويتخوفه، أي يتنقصه، ويأخذ من أطرافه. وقال ابن الأعرابي: تحوفته وتحيفته، وتخوفته وتخيفته إذا تنقصته. والتامك السنام أو السنام المرتفع. والقرد: الذي تجمع شعره، أو الذي تراكم لحمه من السمن. وفي "فتح القدير" للشوكاني: التخوف بالفاء: التنقص: لغة لأزد شنوءة. والنبع من شجر الجبال نتخذه من القس، الواحدة نبعة.(5) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (1: 360) قال: "على تخوف" مجازه: على التنقص، وأنشد بيتين ثانيهما بيت الشاهد، وأولهما:أُلاُم عَلى الهِجاءِ وكُلَّ يَوْمٍيُلاقِينِي مِنَ الجِيرَانِ غُولُأي تنقص غدرهم مالي. سلاسل: يريد القوافي تنشد، فهو صليلها. وهو قلائد في أعناقهم. وفي رواية أبي عبيدة والقرطبي غدرهم، في مكان عدوهم. أي اعتداؤهم. قلت: وفي اللسان أيضاً (خوف) تخونه، وخونه ، وخون منه: نقصه. يقال: تخونني فلان حقي إذا تنقصك .

أَوَلَمْ يَرَوْا۟ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَىْءٍ يَتَفَيَّؤُا۟ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَٰخِرُونَ (48)


اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة ( أَوَلَمْ يَرَوْا ) بالياء على الخبر عن الذين مكروا السيئات ، وقرأ ذلك بعض قراء الكوفيين " أوَلم تَرَوا " بالتاء على الخطاب.وأولى القراءتين عندي بالصواب قراءة من قرأ بالياء على وجه الخبر عن الذين مكروا السيئات ، لأن ذلك في سياق قَصَصِهم ، والخبر عنهم، ثم عقب ذلك الخبر عن ذهابهم عن حجة الله عليهم ، وتركهم النظر في أدلته والاعتبار بها ، فتأويل الكلام إذن: أو لم ير هؤلاء الذين مكروا السيئات ، إلى ما خلق الله من جسم قائم ، شجر أو جبل أو غير ذلك ، يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل ، يقول: يرجع من موضع إلى موضع، فهو في أوّل النهار على حال، ثم يتقلَّص، ثم يعود إلى حال أخرى في آخر النهار.وكان جماعة من أهل التأويل يقولون في اليمين والشمائل ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة، قوله ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ ) أما اليمين: فأوّل النهار ، وأما الشمال: فآخر النهار.حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، بنحوه.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ ) قال: الغدوّ والآصال، إذا فاءت الظِّلال ، ظلال كلّ شيء بالغدوّ سجدت لله، وإذا فاءت بالعشيّ سجدت لله.حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ ) يعني: بالغدو والآصال، تسجد الظلال لله غدوة إلى أن يفئ الظلّ، ثم تسجد لله إلى الليل، يعني: ظلّ كلّ شَيء.وكان ابن عباس يقوله في قوله ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) ما حدثنا المثنى، قال: أخبرنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) يقول: تتميل.واختلف في معنى قوله ( سُجَّدًا لِلَّهِ ) فقال بعضهم: ظلّ كلّ شيء سجوده.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) قال: ظلّ كلّ شيء سجوده.حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق الرازيّ، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) قال: سجد ظلّ المؤمن طوعا، وظلّ الكافر كَرْها.وقال آخرون: بل عنى بقوله ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) كلا عن اليمين والشمائل في حال سجودها، قالوا: وسجود الأشياء غير ظلالها.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأوّديّ، قالا ثنا حَكَّام، عن أبي سنان، عن ثابت عن الضحاك، في قول الله ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) قال: إذا فاء الفيء توجه كلّ شيء ساجدا قبل القبلة ، من نبت أو شجر، قال: فكانوا يستحبون الصلاة عند ذلك.حدثني المثنى، قال: أخبرنا الحمَّانيّ، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا شريك، عن منصور، عن مجاهد، في قول الله ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) قال: إذا زالت الشمس سجد كلّ شيء لله عزّ وجلّ.وقال آخرون: بل الذي وصف الله بالسجود في هذه الآية ظلال الأشياء، فإنما يسجد ظلالها دون التي لها الظلال.* ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) قال: هو سجود الظلال، ظلال كلّ شيء ما في السموات وما في الأرض من دابة، قال: سجود ظلال الدواب، وظلال كلّ شيء.حدثني محمد بن سعد ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) ما خلق من كلّ شيء عن يمينه وشمائله، فلفظ ما لفظ عن اليمين والشمائل، قال: ألم تر أنك إذا صليت الفجر ، كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلا ثم بعث الله عليه الشمس دليلا وقبض الله الظلّ.وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر في هذه الآية أن ظلال الأشياء هي التي تسجد، وسجودها: مَيَلانها ودورانها من جانب إلى جانب ، وناحية إلى ناحية، كما قال ابن عباس يقال من ذلك: سجدت النخلة إذا مالت، وسجد البعير وأسجد: إذا أميل للركوب. وقد بيَّنا معنى السجود في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته.وقوله ( وَهُمْ دَاخِرُونَ ) يعني: وهم صاغرون، يقال منه: دخر فلان لله يدخر دخرا ودخورا: إذا ذلّ له وخضع ومنه قول ذي الرُّمَّة:فَلَمْ يَبْقَ إلا داخِرٌ فِي مُخَيَّسٍومُنْجَحِرٌ فِي غيرِ أرْضِكَ في جُحْرِ (6)وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَهُمْ دَاخِرُونَ ) صاغرون.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَهُمْ دَاخِرُونَ ) : أي صاغرون.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة مثله.وأما توحيد اليمين في قوله ( عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ ) فجمعها، فإن ذلك إنما جاء كذلك، لأن معنى الكلام: أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلال ما خلق من شيء عن يمينه: أي ما خلق، وشمائله ، فلفظ " ما " لفظ واحد، ومعناه معنى الجمع، فقال: عن اليمين بمعنى: عن يمين ما خلق، ثم رجع إلى معناه في الشمائل ، وكان بعض أهل العربية يقول: إنما تفعل العرب ذلك، لأن أكثر الكلام مواجهة الواحد الواحد، فيقال للرجل: خذ عن يمينك، قال: فكأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من القوم، وإذا جمع فهو الذي لا مساءلة فيه، واستشهد لفعل العرب ذلك بقول الشاعر:بِفي الشَّامِتِينَ الصَّخْرُ إنْ كان هَدَّنيرَزِيَّةُ شِبْلَيْ مُخْدِرٍ في الضَّراغمِ (7)فقال: بِفي الشامتين، ولم يقل: بأفواه ، وقول الآخر:الوَارِدُونَ وتَيْمٌ في ذَرَا سَبإقد عَضَّ أعْناقَهُمْ جِلْدُ الجَوَامِيسِ (8)ولم يقل: جلود.-------------------الهوامش :(6) البيت شاهد على أن معنى الداخر: الصاغر. قال أبو عبيدة في مجاز القرآن: وهم داخرون: أي صاغرون يقال: فلان دخر لله: أي ذل وخضع. و ( في اللسان: دخر): دخر الرجل بالفتح يدخر دخورا، فهو داخر، ودخر دخرا: ( كفرح ) ذل وصغر يصغر صغارًا ، وهو الذي يفعل ما يؤمر به ، شاء أو أبى، صاغرا قميئا. وفي (اللسان: خيس): وكل سجن: مخيس ومخيس (بتشديد الياء مفتوحة ومكسورة ). وأنشد البيت ونسبه إلى الفرزدق. والمنجحر: الداخل في الجحر، يقال: أجحره فانجحر: أدخله الجحر، فدخله. والجحر: كل شيء تحتقره الهوام والسباع لأنفسها. والجمع: أجحار وجحرة .(7) هذا البيت من شواهد الفراء في (معاني القرآن 1: 172) استشهد به عند قوله تعالى: (يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل) قال: الظن يرجع على كل شيء من جوانبه، فذلك تفيؤه، ثم فسر فقال: عن اليمين والشمائل، وكل ذلك جائز في العربية، قال الشاعر: "بفي الشامتين ...الخ البيت". قال ولم يقل: بأفواه الشامتين. قلت: يريد أن جمع الشمائل وإفراد اليمين، جائز في العربية، واستشهد عليه بالبيت. وقد وجه المؤلف في التفسير توجيهاً حسناً.(8) وهذا البيت أيضاً كالشاهد قبله من شواهد الفراء ، في ( معاني القرآن، بعد سابقه 1: 172) على أن الشاعر قال: جلد الجواميس بالإفراد، ولم يقل: جلود الجواميس، في مقابلة أعناقهم ولم نقف على البيت في المراجع، ولا على قائله.

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)


يقول تعالى ذكره: ولله يخضع ويستسلم لأمره ما في السموات وما في الأرض من دابَّة يدبّ عليها، والملائكة التي في السموات، وهم لا يستكبرون عن التذلل له بالطاعة فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ وظلالهم تتفيأ عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون.وكان بعض نحويِّي البصرة يقول: اجتزئ بذكر الواحد من الدوابّ عن ذكر الجميع. وإنما معنى الكلام: ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من الدوابّ والملائكة، كما يقال: ما أتاني من رجل، بمعنى: ما أتاني من الرجال.وكان بعض نحويِّي الكوفة يقول: إنما قيل: من دابة، لأن " ما " وإن كانت قد تكون على مذهب الذي، فإنها غير مؤقتة، فإذا أبهمت غير مؤقتة أشبهت الجزاء، والجزاء يدخل من فيما جاء من اسم بعده من النكرة، فيقال: من ضربه من رجل فاضربوه، ولا تسقط " من " من هذا الموضع كراهية أن تشبه أن تكون حالا لمن و ما ، فجعلوه بمن ليدلّ على أنه تفسير لما ومن لأنهما غير مؤقتتين، فكان دخول من فيما بعدهما تفسيرا لمعناهما، وكان دخول من أدلّ على ما لم يوقت من من وما، فلذلك لم تلغيا.

يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)


يقول تعالى ذكره: يخاف هؤلاء الملائكة التي في السموات ، وما في الأرض من دابة، ربهم من فوقهم، أن يعذّبهم إن عَصَوا أمره ،ويفعلون ما يؤمرون ، يقول: ويفعلون ما أمرهم الله به، فيؤدّون حقوقه ، ويجتنبون سُخْطه.

وَقَالَ ٱللَّهُ لَا تَتَّخِذُوٓا۟ إِلَٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ فَإِيَّٰىَ فَٱرْهَبُونِ (51)


يقول تعالى ذكره: وقال الله لعباده: لا تتخذوا لي شريكا أيها الناس، ولا تعبدوا معبودين، فإنكم إذا عبدتم معي غيري جعلتم لي شريكا، ولا شريك لي، إنما هو إله واحد ومعبود واحد، وأنا ذلك ، ( فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) يقول: فإياي فاتقوا وخافوا عقابي بمعصيتكم إياي إن عصيتموني وعبدتم غيري، أو أشركتم في عبادتكم لي شريكا.

وَلَهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ (52)


يقول تعالى ذكره: ولله ملك ما في السموات والأرض من شيء، لا شريك له في شيء من ذلك، هو الذي خلقهم، وهو الذي يرزقهم، وبيده حياتهم وموتهم. وقوله ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) يقول جلّ ثناؤه: وله الطاعة والإخلاص دائما ثابتا واجبا، يقال منه: وَصَبَ الدِّينُ يَصِبُ وُصُوبا ووَصْبا كما قال الدِّيلِيّ:لا أبْتَغِي الحَمْدَ القَلِيلَ بَقاؤُهُيَوْما بِذَمّ الدَّهْرِ أجمَعَ وَاصِبا (9)ومنه قول الله وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ، وقول حسان:غَيَّرَتْهُ الرِّيحُ تَسْفِي بِهِوهَزِيمٌ رَعْدُهُ وَاصِبٌ (10)فأما من الألم، فإنما يقال: وصب الرجل يوصب وصبا، وذلك إذا أعيا وملّ ، ومنه قول الشاعر:لا يغْمِزُ السَّاقَ مِنْ أيْنِ ولا وَصَبٍولا يعَضُّ على شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ (11)وقد اختلف أهل التأويل في تأويل الواصب، فقال بعضهم: معناه، ما قلنا.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن قيس، عن الأغرّ بن الصباح، عن خليفة بن حصين، عن أبي نضرة، عن ابن عباس ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: دائما.حدثني إسماعيل بن موسى، قال: أخبرنا شريك، عن أبي حصين، عن عكرمة، في قوله ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: دائما.حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن قيس، عن يعلى بن النعمان، عن عكرمة، قال: دائما.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: دائما.حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: دائما.حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة وأبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: دائما.حدثني المثنى، قال: أخبرنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) : أي دائما، فإن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا من خلقه إلا عبده طائعا أو كارها.حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَاصِبًا ) قال: دائما، ألا ترى أنه يقول عَذَابٌ وَاصِبٌ أي دائم.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: دائما، والواصب: الدائم.وقال آخرون: الواصب في هذا الموضع: الواجب.* ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، عن قيس، عن يَعَلَى بن النعمان، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: واجبا.وكان مجاهد يقول: معنى الدين في هذا الموضع: الإخلاص. وقد ذكرنا معنى الدين في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: الإخلاص.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: الدين: الإخلاص.وقوله ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ) يقول تعالى ذكره: أفغير الله أيها الناس تتقون، أي ترهبون وتحذرون أن يسلبكم نعمة الله عليكم بإخلاصكم العبادة لربكم، وإفرادكم الطاعة له، وما لكم نافع سواه.---------------------الهوامش :(9) البيت لأبي الأسود الدؤلي، ويقال فيه الديلي أيضا، استشهد به أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 361) على أن معنى "واصبا": دائما. وروايته فيه كرواية المؤلف (الطبري). واستشهد به كذلك القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (10 : 114) ورواه بروايتين: الأولى كرواية المؤلف، وقال قبلها، أنشد الغزنوي والثعلبي وغيرهما... البيت. والأخرى باختلاف في الشطر الثاني. وهو: "بدم يكون الدهر أجمع واصبا" وظاهر أن هذه الرواية محرفة عن الأولى. وقال صاحب لسان العرب في "وصب". وفي التنزيل العزيز، "وله الدين واصبا" قال أبو إسحاق، قيل في معناه: دائبا: أي طاعته دائمة واجبة أبدا. قال: ويجوز، والله أعلم أن يكون "وله الدين واصبا": أي له الدين والطاعة، رضي العبد بما يؤمر به، أو لم يرض به، سهل عليه، أو لم يسهل، فله الدين وإن كان فيه الوصب، والوصب: شدة التعب، وفيه: "بعذاب واصب" أي دائم ثابت. وقيل: موجع.(10) البيت لحسان بن ثابت (ديوانه طبع ليدن سنة 1910 ص 61) وقبله بيت وهو المطلع:قَدْ تَعَفَّى بَعْدَنا عاذِبُما بِهِ بادٍ وَلا قارِبُوتسفى به: تحمل إليه التراب. والهزيم: السحاب المتشقق بالمطر. يقول: غير هذا المكان ما تسفيه الريح عليه من التراب، وما يأتي به السحاب من مطر رعده دائم.(11) هذا البيت لأعشى باهلة، واسمه عامر بن الحارث جمهرة أشعار العرب لمحمد بن أبي الخطاب القرشي ( 135 - 137 ) من قصيدة يقولها في أخ له اسمه المنتشر، قتله بنو الحارث بن كعب وقطعوه إربا إربا (عضوا عضوا) برجل منهم كان فعل معه مثل ذلك. ورواية البيت فيه وفي اللسان (صفر):لا يَتَأَسَّى لِمَا فِي الْقِدْرِ يَرْقبُهُولا يَعَضُّ عَلى شُرْسُوفِهِ الصَّفْرُقال: والصفر دويية تكون في البطن، تدعيها الأعراب، ويكون منها الجوع. وخطأ رواية البيت الصاغاني، وأورده كرواية المؤلف . (انظر هامش اللسان : أرى). والغمز: العصر باليد. والشرسوف: جمعه شراسيف، وهي أطراف أضلاع الصدر التي تشرف على البطن.

وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْـَٔرُونَ (53)


اختلف أهل العربية في وجه دخول الفاء في قوله ( فَمِنَ اللَّهِ ) فقال بعض البصريين: دخلت الفاء، لأن " ما " بمنزلة " من " فجعل الخبر بالفاء. وقال بعض الكوفيين: " ما " في معنى جزاء، ولها فعل مضمر، كأنك قلت: ما يكن بكم من نعمة فمن الله، لأن الجزاء لا بدّ له من فعل مجزوم، إن ظهر فهو جزم، وإن لم يظهر فهو مضمر ، كما قال الشاعر:إنِ العَقْلُ في أموَالِنا لا نَضِقْ بِهِذِرَاعًا وَإنْ صَبْرًا فنَعْرِفُ للصَّبْرِ (12)وقال: أراد: إن يكن العقل فأضمره. قال: وإن جعلت " ما بكم " في معنى الذي جاز ، وجعلت صلته بكم و " ما " في موضع رفع بقوله ( فَمِنَ اللَّهِ ) وأدخل الفاء ، كما قال إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ وكل اسم وصل مثل من و ما و الذي، فقد يجوز دخول الفاء في خبره لأنه مضارع للجزاء والجزاء قد يجاب بالفاء، ولا يجوز أخوك فهو قائم، لأنه اسم غير موصول، وكذلك تقول: مالك لي، فإن قلت: مالك، جاز أن تقول: مالك فهو لي، وإن ألقيت الفاء فصواب.وتأويل الكلام: ما يكن بكم في أبدانكم أيها الناس من عافية وصحة وسلامة ، وفي أموالكم من نماء، فالله المنعم عليكم بذلك لا غيره، لأن ذلك إليه وبيده ( ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ ) يقول: إذا أصابكم في أبدانكم سَقَم ومرض ، وعلة عارضة ، وشدّة من عيش ( فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) يقول: فإلى الله تصرخون بالدعاء وتستغيثون به، ليكشف ذلك عنكم ، وأصله: من جؤار الثور، يقال منه: جأر الثور يجأر جؤارا، وذلك إذا رفع صوتا شديدا من جوع أو غيره ، ومنه قول الأعشى:وَما أيْبُلِيٌّ عَلى هَيْكَلِبَناهُ وَصَلَّبَ فِيهِ وصَارَايُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتٍ المَلِيكِ طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤْارًا (13)يعني بالجؤار: الصياح، إما بالدعاء ، وإما بالقراءة.وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) قال: تضرعون دعاء.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.حدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: الضُّرُّ: السُّقْم.------------------------الهوامش:(12) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (1 : 173) عند قوله تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله. قال: ما: في معنى جزاء، ولها فعل مضمر، كأنك قلت: ما يكن بكم من نعمة فمن الله؛ لأن الجزاء لا بد له من فعل مجزوم، إن ظهر فهو جزم، وإن لم يظهر فهو مضمر، كما قال الشاعر: "إن العقل .." البيت. أراد: إن يكن، فأضمرها. ولو جعلت " ما بكم " في معنى "الذي": جاز ، وجعلت صلته "بكم"، والذي حينئذ: في موضع رفع، بقوله "فمن الله". وأدخل الفاء، كما قال تعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم). وكل اسم وصل، مثل من وما، والذي، فقد يجوز دخول الفاء في خبره؛ لأنه مضارع للجزاء، والعقل في البيت معناه: الدية.(13) البيتان من شعر الأعشى ميمون بن قيس (ديوانه طبع القاهرة ص 53) من قصيدة له سبعون بيتا، يمدح بها قيس ابن معد يكرب. والأييلي: الراهب صاحب الأيبل، وهو العصا التي يدق بها الناقوس. والهيكل: موضع في صدر الكنيسة، يقرب في القربان. صلب صور فيه الصليب. وفي اللسان صار:صور عن أبي علي الفارسي. ويلوح لي أن المراد بصور في البيت: هو ما قاله الأعشى في بيت آخر وهو قوله وفي وصف الخمر "وصلى على دنها وارتسم". ومعنى ارتسم: أشار بيده على جبهته وقلبه وصدره يمنة ويسرة، كما يفعل المسيحيون. وراوح بين العملين: تداول هذا مرة، وهذا مرة. وجأر إلى الله جؤارا: تضرع إليه بالدعاء والاستغاثة. يقول: ليس الراهب المعتكف في هيكله أمام صليبه، دائبا على صلواته سجوداً وتضرعاً إلى الله، بأعظم منه تقي في الحساب (خبر مِا: في البيت الذي بعد البيتين).

ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)


يقول تعالى ذكره: ثم إذا وهب لكم ربكم العافية، ورفع عنكم ما أصابكم من المرض في أبدانكم ، ومن الشدة في معاشكم، وفرّج البلاء عنكم (إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) يقول : إذا جماعة منكم يجعلون لله شريكا في عبادتهم، فيعبدون الأوثان ، ويذبحون لها الذبائح شكرا لغير من أنعم عليهم بالفرج مما كانوا فيه من الضرِّ .

الصفحة السابقة الصفحة التالية