تفسير سورة الأنبياء الصفحة 331 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 331 من المصحف


لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِى مَا ٱشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَٰلِدُونَ (102)


يقول تعالى ذكره: لا يسمع هؤلاء الذين سبقت لهم منا الحسنى حَسيس النار ، ويعني بالحسيس: الصوت والحسّ.فإن قال قائل: فكيف لا يسمعون حسيسها ، وقد علمت ما روي من أن جهنم يؤتى بها يوم القيامة فتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلا جثا على ركبتيه خوفا منها؟ قيل: إن الحال التي لا يسمعون فيها حسيسها هي غير تلك الحال ، بل هي الحال التي حدثني محمد بن سعد ، قال: ثني أبي ، قال: ثنى عمي ، قال: ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) يقول: لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزلوا منزلهم من الجنة.وقوله ( وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) يقول: وهم فيما تشتهيه نفوسهم من نعيمها ولذاتها ماكثون فيها ، لا يخافون زوالا عنها ولا انتقالا عنها.

لَا يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّىٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ ٱلَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103)


اختلف أهل التأويل في الفزع الأكبر أي الفزع هو؟ فقال بعضهم: ذلك النار إذا أطبقت على أهلها.ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، قال : ثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ ) قال: النار إذا أطبقت على أهلها.حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج ، قال: قال ابن جريج ، قوله ( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ ) قال: حين يطبق جهنم ، وقال: حين ذبح الموت.وقال آخرون: بل ذلك النفخة الآخرة.ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد ، قال: ثني أبي ، قال: ثني عمي ، قال: ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ ) يعني النفخة الآخرة.وقال آخرون: بل ذلك حين يؤمر بالعبد إلى النار.ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن رجل ، عن الحسن ( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ ) قال: انصراف العبد حين يُؤْمر به إلى النار.وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال: ذلك عند النفخة الآخرة ، وذلك أن من لم يحزنه ذلك الفزع الأكبر وآمن منه ، فهو مما بعدَه أحرى أن لا يفزَع ، وأن من أفزعه ذلك فغير مأمون عليه الفزع مما بعده.وقوله ( وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) يقول: وتستقبلهم الملائكة يهنئونهم يقولون ( هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) فيه الكرامة من الله والحِباء والجزيل من الثواب على ما كنتم تنصَبون في الدنيا لله في طاعته.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن زيد.حدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: قال ابن زيد ، في قوله ( هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) قال: هذا قبل أن يدخلوا الجنة.

يَوْمَ نَطْوِى ٱلسَّمَآءَ كَطَىِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُۥ وَعْدًا عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ (104)


يقول تعالى ذكره: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ ، (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ) فيوم صلة من يحزنهم. واختلف أهل التأويل في معنى السجلّ الذي ذكره الله في هذا الموضع فقال بعضهم: هو اسم ملك من الملائكة.ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن يمان ، قال : ثنا أبو الوفاء الأشجعيّ ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، في قوله ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) قال: السجِلّ: مَلَك ، فإذا صعد بالاستغفار قال: اكتبها نورا.حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، قال: سمع السديّ يقول ، في قوله ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ ) قال: السجلّ: ملك.وقال آخرون: السجلّ: رجل كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.ذكر من قال ذلك: حدثنا نصر بن علي ، قال : ثنا نوح بن قيس ، قال : ثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس في هذه الآية ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) قال: كان ابن عباس يقول: هو الرجل.قال : ثنا نوح بن قيس ، قال : ثنا يزيد بن كعب ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، قال: السجل: كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.وقال آخرون: بل هو الصحيفة التي يكتب فيها.ذكر من قال ذلك: حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال: ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( كطي السجل للكتاب ) يقول: كطي الصحيفة على الكتاب.حدثني محمد بن سعد ، قال: ثني أبي ، قالا ثني عمي ، قال: ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب ) يقول: كطيّ الصحف.حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال: السِّجلّ: الصحيفة.حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب ) قال: السجل: الصحيفة.وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: السجل في هذا الموضع الصحيفة ، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب ، ولا يعرف لنبينا صلى الله عليه وسلم كاتب كان اسمه السجلّ ، ولا في الملائكة ملك ذلك اسمه.فإن قال قائل: وكيف نطوي الصحيفة بالكتاب إن كان السجل صحيفة؟ قيل: ليس المعنى كذلك ، وإنما معناه: يوم نطوي السماء كطيّ السجل على ما فيه من الكتاب ، ثم جعل نطوي مصدرا ، فقيل ( كطي السجل للكتاب ) واللام في قوله للكتاب بمعنى على.واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الأمصار ، سوى أبي جعفر القارئ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ ) بالنون ، وقرأ ذلك أبو جعفر ( يَوْم تُطْوَى السَّماءُ ) بالتاء وضمها ، على وجه ما لم يُسمّ فاعله.والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار ، بالنون ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه وشذوذ ما خالفه . وأما السِّجلّ فإنه في قراءة جميعهم بتشديد اللام ، وأما الكتاب ، فإن قرّاء أهل المدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة قرءوه بالتوحيد، كطي السجل للكتاب، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة ( للْكُتُبِ ) على الجماع.وأولى القراءتين عندنا في ذلك بالصواب: قراءة من قرأه على التوحيد للكتاب ، لما ذكرنا من معناه ، فإن المراد منه: كطيّ السجلّ على ما فيه مكتوب ، فلا وجه إذ كان ذلك معناه لجميع الكتب إلا وجه نتبعه من معروف كلام العرب ، وعند قوله ( كَطَيِّ السِّجِلِّ ) انقضاء الخبر عن صلة قوله لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ ، ثم ابتدأ الخبر عما الله فاعل بخلقه يومئذ فقال تعالى ذكره ( كما بدأنا أول خلق نعيده ).فالكاف التي في قوله (كَما) من صلة نعيد ، تقدّمت قبلها ، ومعنى الكلام: نعيد الخلق عُراة حفاة غُرْلا يوم القيامة ، كما بدأناهم أوّل مرّة في حال خلقناهم في بطون أمَّهاتهم ، على اختلاف من أهل التأويل في تأويل ذلك.وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل ، وبه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلذلك اخترت القول به على غيره.ذكر من قال ذلك والأثر الذي جاء فيه: حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى -وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) قال: حُفاة عُراة غُرْلا.حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله ( أول خلق نعيده ) قال: حفاة غلفا ، قال ابن جريج أخبرني إبراهيم بن ميسرة ، أنه سمع مجاهدا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحدى نسائه: " يَأْتُونَهُ حُفاةً عُرَاةً غُلْفا، فاسْتَتَرتْ بِكُمِّ دِرْعِها ، وقالَتْ وَا سَوأتاهُ" قال ابن جريج: أخبرت أنها عائشة قالت: يا نبيّ الله ، لا يحتشمُ الناس بعضهم بعضا؟ قال: " لكُلّ امْرئٍ يَوْمَئذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه ".حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، قال : ثنا سفيان ، قال: ثني المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " يُحْشَرُ النَّاسُ حُفاةً عُرَاةً غُرْلا فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهيمُ" ثم قرأ ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) .حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا إسحاق بن يوسف ، قال : ثنا سفيان ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال: " وقام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة ، فذكره نحوه " .حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن المغيرة بن النعمان النخَعيّ ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال: " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره نحوه " .حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن شعبة ، قال : ثنا المغيرة بن النعمان النخَعيّ ، عن سعيد بن جُبير ، عن أبن عباس ، نحوه.حدثنا عيسى بن يوسف بن الطباع أبو يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: " إنكم مُلاقُو اللهِ مُشاةً غُرْلا ".حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن عائشة ، قالت: " دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي عجوز من بني عامر ، فقال: مَنْ هَذه العَجُوزُ يا عائِشةُ؟ فقلت: إحدى خالاتي ، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة ، فقال: إنّ الجَنَّةَ لا يَدْخُلُها العَجَزةُ ، قالت: فأخذَ العجوز ما أخذها ، فقال: إنّ اللهَ يُنْشِئُهُنَّ خَلْقا غيرَ خَلْقِهِنَّ، ثم قال: يُحْشَرُونَ حُفاةً عُرَاةً غُلْفا ، فقالت: حاش لله من ذلك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بَلى إنّ الله قال: ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا ) ... إلى آخر الآية ، فأوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الله ".حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : ثنا عبيد الله ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عطاء ، عن عقبة بن عامر الجهني ، قال: يجمع الناس في صعيد واحد ينفذهم البصر ، ويسمعهم الداعي ، حفاة عراة ، كما خلقوا أول يوم.حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال: ثني عباد بن العوام ، عن هلال بن حبان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يحشر الناس يوم القيامة حُفاة عراة مشاة غرلا قلت: يا أبا عبد الله ما الغرل؟ قال: الغلف ، فقال بعض أزواجه: يا رسول الله ، أينظر بعضنا إلى بعض إلى عورته؟ فقال لِكُلّ امْرئٍ يَوْمَئذٍ ما يَشْغَلُهُ عَن النَّظَر إلى عَوْرَة أَخِيهِ" ، قال هلال: قال سعيد بن جبير وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ قال: كيوم ولدته أمه ، يردّ عليه كل شيء انتقص منه مثل يوم وُلد.وقال آخرون: بل معنى ذلك: كما كنا ولا شيء غيرنا قبل أن نخلق شيئا ، كذلك نهلك الأشياء فنعيدها فانية ، حتى لا يكون شيء سوانا.ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد ، قال: ثني أبي ، قال: ثني عمي ، قال: ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) . . . الآية ، قال: نهلك كل شيء كما كان أوّل مرّة. وقوله ( وَعْدًا عَلَيْنَا ) يقول: وعدناكم ذلك وعدا حقا علينا أن نوفي بما وعدنا ، إنا كنا فاعلي ما وعدناكم من ذلك أيها الناس ، لأنه قد سبق في حكمنا وقضائنا أن نفعله ، على يقين بأن ذلك كائن ، واستعدوا وتأهبوا.

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّٰلِحُونَ (105)


اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالزَّبور والذكر في هذا الموضع ، فقال بعضهم: عُني بالزَّبور: كتب الأنبياء كلها التي أنزلها الله عليهم ، وعُني بالذكر: أمّ الكتاب التي عنده في السماء.ذكر من قال ذلك: حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرمليّ ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، قال: سألت سعيدا ، عن قول الله ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) قال: الذكر: الذي في السماء.حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، في قوله ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ ) قال: قرأها الأعمش: (الزُّبُرِ) قال: الزبور ، والتوراة ، والإنجيل ، والقرآن ، ( مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) قال: الذكر الذي في السماء.حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( الزَّبُورِ ) قال: الكتاب ، ( مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) قال: أم الكتاب عند الله.* حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله ( الزبور ) قال: الكتاب ، (بعد الذكر ) قال: أم الكتاب عند الله.حدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: قال ابن زيد ، في قوله ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ ) قال: الزبور: الكتب التي أُنزلت على الأنبياء ، والذكر: أمّ الكتاب الذي تكتب فيه الأشياء قبل ذلك.حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد ، في قوله ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) قال: كتبنا في القرآن من بعد التوراة.وقال آخرون: بل عني بالزبور: الكتب التي أنزلها الله على مَنْ بعد موسى من الأنبياء ، وبالذكر: التوراة.*ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد ، قال: ثني أبي ، قال: ثني عمي ، قال: ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) ... الآية ، قال: الذكر: التوراة ، والزبور: الكتب.حدثنا عن الحسين ، قال: سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال: سمعت الضحاك يقول ، في قوله ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) . . . الآية ، قال: الذكر: التوراة ، ويعني بالزبور من بعد التوراة: الكتب.وقال آخرون: بل عني بالزَّبور زَبور داود ، وبالذكر تَوراة موسى صلى الله عليهما.ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن عامر أنه قال في هذه الآية ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) قال: زبور داود ، من بعد الذكر: ذكر موسى التوراة.حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن الشعبيّ ، أنه قال في هذه الآية ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) قال: في زبور داود ، من بعد ذكر موسى.وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في ذلك ما قاله سعيد بن جبير ومجاهد ومن قال بقولهما في ذلك ، من أن معناه: ولقد كتبنا في الكتب من بعد أمّ الكتاب الذي كتب الله كل ما هو كائن فيه قبل خلق السماوات والأرض ، وذلك أن الزبور هو الكتاب ، يقال منه: زبرت الكتاب وذَبرته (1) : إذا كتبته ، وأن كلّ كتاب أنزله الله إلى نبيّ من أنبيائه ، فهو ذِكْر . فإذ كان ذلك كذلك ، فإن في إدخاله الألف واللام في الذكر ، الدلالة البينَة أنه معنيّ به ذكر بعينه معلوم عند المخاطبين بالآية ، ولو كان ذلك غير أم الكتاب التي ذكرنا لم تكن التوراة بأولى من أن تكون المعنية بذلك من صحف إبراهيم ، فقد كان قبل زَبور داود.فتأويل الكلام إذن ، إذ كان ذلك كما وصفنا: ولقد قضينا ، فأثبتنا قضاءنا في الكتب من بعد أمّ الكتاب ، أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، يعني بذلك: أن أرض الجنة يرثها عبادي العاملون بطاعته ، المنتهون إلى أمره ونهيه من عباده ، دون العاملين بمعصيته منهم المؤثرين طاعة الشيطان على طاعته.ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى القَتَّات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قوله ( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال: أرض الجنة.حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال: ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال: أخبر سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض ، أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض، ويُدخلهم الجنة ، وهم الصالحون.حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير في قوله ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال: كتبنا في القرآن بعد التوراة ، والأرض أرض الجنة.حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال: الأرض: الجنة.حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرمليّ ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، قال: سألت سعيدا عن قول الله ( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال: أرض الجنة.حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله ( أَنَّ الأرْضَ ) قال: الجنة ، ( يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) .حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.حدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: قال ابن زيد ، في قوله ( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال: الجنة ، وقرأ قول الله جلّ ثناؤه وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ قال: فالجنة مبتدؤها في الأرض ثم تذهب درجات علوا ، والنار مبتدؤها في الأرض ، وبينهما حجاب سور ما يدري أحد ما ذاك السور ، وقرأ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ قال: ودرجها تذهب سفالا في الأرض ، ودرج الجنة تذهب علوا في السماوات.حدثنا محمد بن عوف ، قال : ثنا أبو المغيرة ، قال : ثنا صفوان ، سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمع (2) ؟ قال: فقال: إن الأرض التي يقول الله ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال: هي الأرض التي تجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث.وقال آخرون: هي الأرض يورثها الله المؤمنين في الدنيا.وقال آخرون: عني بذلك بنو إسرائيل ، وذلك أن الله وعدهم ذلك فوفى لهم به.واستشهد لقوله ذلك بقول الله وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وقد ذكرنا قول من قال ( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) أنها أرض الأمم الكافرة ، ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قول ابن عباس الذي روى عنه عليّ بن أبي طلحة.------------------------الهوامش :(1) ( في اللسان : ذبر ) : الذبر : الكتابة ، مثل الزبر . ذبر الكتاب يذبره ( كنصره ) ويذبره ( كيضربه ) ذبرا ، وذبره ( بالتضعيف ) كلاهما : كتبه ، نقطه . وقيل : قرأه قراءة خفيفة ، بلغة هذيل .(2) الأصل : هل لأنفس المؤمنين بمجتمع ؟ والصواب : ما أثبتناه .

إِنَّ فِى هَٰذَا لَبَلَٰغًا لِّقَوْمٍ عَٰبِدِينَ (106)


يقول تعالى ذكره: إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لبلاغا لمن عبد الله بما فيه من الفرائض التي فرضها الله إلى رضوانه ، وإدراك الطَّلِبة عندهوبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.*ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن الجريري ، عن أبي الورد بن ثمامة ، عن أبي محمد الحضرمي ، قال : ثنا كعب في هذا المسجد ، قال: والذي نفس كعب بيده ، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ، إنهم لأهل، أو أصحاب الصلوات الخمس ، سماهم الله عابدين.حدثنا الحسين بن يزيد الطحان ، قال : ثنا ابن علية ، عن سعيد بن إياس الجريري ، عن أبي الورد عن كعب ، في قوله ( إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ) قال: صوم شهر رمضان ، وصلاة الخمس ، قال: هي ملء اليدين والبحر عبادة.حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا محمد بن الحسين ، عن الجريري ، قال: قال كعب الأحبار ( إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ) : لأمة محمد.حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال: ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ) يقول: عاملين.حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ قال: يقولون في هذه السورة لبلاغا.ويقول آخرون: في القرآن تنزيل لفرائض الصلوات الخمس ، من أداها كان بلاغا لقوم عابدين ، قال: عاملين.حدثنا يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: قال ابن زيد ، في قوله ( إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ) قال: إن في هذا لمنفعة وعلما لقوم عابدين ، ذاك البلاغ.

وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ (107)


وقوله ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك يا محمد إلى خلقنا إلا رحمة لمن أرسلناك إليه من خلقي.ثم اختلف أهل التأويل في معنى هذه الآية ، أجميع العالم الذي أرسل إليهم محمد أريد بها مؤمنهم وكافرهم؟ أم أريد بها أهل الإيمان خاصة دون أهل الكفر؟ فقال بعضهم: عني بها جميع العالم المؤمن والكافر.ذكر من قال ذلك: حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : ثنا إسحاق بن يوسف الأزرق ، عن المسعودي ، عن رجل يقال له سعيد ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، في قول الله في كتابه ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) قال: من آمن بالله واليوم الآخر كُتب له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله ، عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف.حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن المسعودي ، عن أبي سعيد ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، في قوله ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) قال: تمت الرحمة لمن آمن به في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن به عوفي مما أصاب الأمم قبل.وقال آخرون: بل أريد بها أهل الإيمان دون أهل الكفر.*ذكر من قال ذلك: حدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: قال ابن زيد ، في قوله ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) قال: العالمون: من آمن به وصدّقه ، قال وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قال: فهو لهؤلاء فتنة ولهؤلاء رحمة ، وقد جاء الأمر مجملا رحمة للعالمين ، والعالمون ههنا: من آمن به وصدّقه وأطاعه.وأولى القولين في ذلك بالصواب .القول الذي رُوي عن ابن عباس ، وهو أن الله أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالم ، مؤمنهم وكافرهم . فأما مؤمنهم فإن الله هداه به ، وأدخله بالإيمان به ، وبالعمل بما جاء من عند الله الجنة. وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذّبة رسلها من قبله.

قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (108)


يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: ما يوحي إلي ربي إلا أنَّه لا إله لكم يجوز أن يُعبد إلا إله واحد ، لا تصلح العبادة إلا له ، ولا ينبغي ذلك لغيره.يقول: فهل أنتم مذعنون له أيها المشركون العابدون الأوثان والأصنام بالخضوع لذلك ، ومتبرّئون من عبادة ما دونه من آلهتكم؟.

فَإِن تَوَلَّوْا۟ فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِىٓ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ (109)


يقول تعالى ذكره: فإن أدبر هؤلاء المشركون يا محمد عن الإقرار بالإيمان ، بأن لا إله لهم إلا إله واحد ، فأعرضوا عنه ، وأبوا الإجابة إليه ، فقل لهم ( قد آذنتكم على سواء ) يقول: أعلمهم أنك وهم على علم من أن بعضكم لبعض حرب ، لا صلح بينكم ولا سلم.وإنما عني بذلك قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من قُريش.كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ ) فإن تولوا ، يعنى قريشا.وقوله ( وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه: قل وما أدري متى الوقت الذي يحلّ بكم عقاب الله الذي وعدكم ، فينتقم به منكم ، أقريب نزوله بكم أم بعيد؟وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.*ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج ( وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ) قال: الأجل.

إِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)


يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين ، إن الله يعلم الجهر الذي يجهرون به من القول ، ويعلم ما تخفونه فلا تجهرون به ، سواء عنده خفيه وظاهره وسره وعلانيته ، إنه لا يخفى عليه منه شيء ، فإن أخر عنكم عقابه على ما تخفون من الشرك به أو تجهرون به ، فما أدري ما السبب الذي من أجله يؤخر ذلك عنكم؟ لعلّ تأخيره ذلك عنكم مع وعده إياكم لفتنة يريدها بكم ، ولتتمتعوا بحياتكم إلى أجل قد جعله لكم تبلغونه ، ثم ينزل بكم حينئذ نقمته.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُۥ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ (111)


*ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) يقول: لعل ما أقرب لكم من العذاب والساعة ، أن يؤخر عنكم لمدتكم ، ومتاع إلى حين ، فيصير قولي ذلك لكم فتنة.

قَٰلَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ وَرَبُّنَا ٱلرَّحْمَٰنُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (112)


يقول تعالى ذكره: قل يا محمد: يا رب افصل بيني وبين من كذّبني من مشركي قومي وكفر بك ، وعبد غيرك ، بإحلال عذابك ونقمتك بهم ، وذلك هو الحقّ الذي أمر الله تعالى نبيه أن يسأل ربه الحكم به ، وهو نظير قوله جلّ ثناؤه رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَوبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال: قال ابن عباس ( قال رب احكم بالحقّ ) قال: لا يحكم بالحقّ إلا الله ، ولكن إنما استعجل بذلك في الدنيا ، يسأل ربه على قومه.حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كان إذا شهد قتالا قال ( رب احكم بالحق ).واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الأمصار ( قُلْ رَبّ احْكُمْ ) بكسر الباء ، ووصل الألف ألف احكم ، على وجه الدعاء والمسألة ، سوى أبي جعفر ، فإنه ضم الباء من الربّ ، على وجه نداء المفرد ، وغير الضحاك بن مزاحم ، فإنه روي عنه أنه كان يقرأ ذلك: (رَبّي أَحْكَمُ) على وجه الخبر بأن الله أحكم بالحقّ من كل حاكم ، فيثبت الياء في الربّ ، ويهمز الألف من أحكم ، ويرفع أحكم على أنه خبر للربُ تبارك وتعالى:والصواب من القراءة عندنا في ذلك: وصل الباء من الرب وكسرها باحكم ، وترك قطع الألف من احكم، على ما عليه قراء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه وشذوذ ما خالفه . وأما الضحاك فإن في القراءة التي ذكرت عنه زيادة حرف على خط المصاحف ، ولا ينبغي أن يزاد ذلك فيها ، مع صحة معنى القراءة بترك زيادته ، وقد زعم بعضهم أن معنى قوله ( رب احكم بالحق ) قل: ربّ احكم بحكمك الحقّ ، ثم حذف الحكم الذي الحقّ نعت له، وأقيم الحقّ مقامه ، ولذلك وجه ، غير أن الذي قلناه أوضح وأشبه بما قاله أهل التأويل ، فلذلك اخترناه.وقوله ( وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) يقول جلّ ثناؤه: وقل يا محمد: وربنا الذي يرحم عباده ويعمهم بنعمته ، الذي أستعينه عليكم فيما تقولون وتصفون من قولكم لي فيما أتيتكم به من عند الله هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ وقولكم بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ وفي كذبكم على الله جلّ ثناؤه وقيلكم اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا فإنه هين عليه تغيير ذلك، وفصل ما بيني وبينكم بتعجيل العقوبة لكم على ما تصفون من ذلك .آخر تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام

الصفحة السابقة