تفسير سورة الفرقان الصفحة 365 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 365 من المصحف


وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)


يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ ) يا محمد إلى من أرسلناك إليه ( إِلا مُبَشِّرًا ) بالثواب الجزيل, من آمن بك وصدّقك, وآمن بالذي جئتهم به من عندي, وعملوا به ( وَنَذِيرًا ) من كذّبك وكذّب ما جئتهم به من عندي, فلم يصدّقوا به, ولم يعملوا.

قُلْ مَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلًا (57)


( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) يقول له: قل لهؤلاء الذين أرسلتك إليهم, ما أسألكم يا قوم على ما جئتكم به من عند ربي أجرا, فتقولون: إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه, فلا نتبعه فيه, ولا نعطيه من أموالنا شيئا، ( إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ) يقول: لكن من شاء منكم اتخذ إلى ربه سبيلا طريقا بإنفاقه من ماله في سبيله, وفيما يقربه إليه من الصدقة والنفقة في جهاد عدوّه, وغير ذلك من سبل الخير.

وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَىِّ ٱلَّذِى لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِۦ وَكَفَىٰ بِهِۦ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرًا (58)


يقول تعالى ذكره: وتوكل يا محمد على الذي له الحياة الدائمة التي لا موت معها، فثق به في أمر ربك وفوّض إليه, واستسلم له, واصبر على ما نابك فيه. قوله: ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ) يقول: واعبده شكرا منك له على ما أنعم به عليك. قوله: ( وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ) يقول: وحسبك بالحي الذي لا يموت خابرا بذنوب خلقه, فإنه لا يخفى عليه شيء منها, وهو محص جميعها عليهم حتى يجازيهم بها يوم القيامة.

ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱلرَّحْمَٰنُ فَسْـَٔلْ بِهِۦ خَبِيرًا (59)


يقول تعالى ذكره: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) فقال: ( وَمَا بَيْنَهُمَا ) وقد ذكر السماوات والأرض, والسماوات جماع, لأنه وجه ذلك إلى الصنفين والشيئين, كما قال القطامي:ألَمْ يَحْزُنْكَ أنَّ حِبالَ قَيْسٍوتَغْلِبَ قَدْ تَبايَنَتا انقِطاعا (1)يريد: وحبال تغلب فثنى, والحبال جمع, لأنه أراد الشيئين والنوعين.وقوله: ( فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) قيل: كان ابتداء ذلك يوم الأحد, والفراغ يوم الجمعة ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ ) يقول: ثم استوى على العرش الرحمن وعلا عليه, وذلك يوم السبت فيما قيل. وقوله: ( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) يقول: فاسأل يا محمد خبيرا بالرحمن, خبيرا بخلقه, فإنه خالق كلّ شيء, ولا يخفى عليه ما خلق.وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: ( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) قال: يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتك شيئا, فاعلم أنه كما أخبرتك, أنا الخبير، والخبير في قوله: ( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) منصوب على الحال من الهاء التي في قوله به.------------------------الهوامش:(1) البيت للقطامي ، وقد سبق الكلام عنه مفصلا ، والشاهد فيه هنا : أن الشاعر قال : "تباينتا" بالتثنية ، مع أن حبال جمع حبل . والمسوغ لذلك : أن حبال قيس جماعة ، وحبال تغلب جماعة أخرى ، فعاملهما في إعادة الضمير عليهما معاملة المفردين ، ومثله في القرآن : الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما لأنه وجه ذلك إلى الصفتين .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُوا۟ لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا۟ وَمَا ٱلرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)


يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم: ( اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ ) أي اجعلوا سجودكم لله خالصا دون الآلهة والأوثان. قالوا: (أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا).واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: (لِمَا تَأْمُرُنَا) بمعنى: أنسجد نحن يا محمد لما تأمرنا أنت أن نسجد له. وقرأته عامة قرّاء الكوفة " لمَا يَأْمُرُنا " بالياء, بمعنى: أنسجد لما يأمر الرحمن، وذكر بعضهم أن مُسيلمة كان يُدعى الرحمن, فلما قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم اسجدوا للرحمن, قالوا: أنسجد لما يأمرنا رحمن اليمامة؟ يعنون مُسَيلمة بالسجود له.قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك, أنهما قراءتان مستفيضتان مشهورتان, قد قرأ بكل واحد منهما علماء من القرّاء, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.وقوله: (وَزَادَهُمْ نُفُورًا) يقول: وزاد هؤلاء المشركين قول القائل لهم: اسجدوا للرحمن من إخلاص السجود لله, وإفراد الله بالعبادة بعدا مما دعوا إليه من ذلك فرارا.

تَبَارَكَ ٱلَّذِى جَعَلَ فِى ٱلسَّمَآءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَٰجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا (61)


يقول تعالى ذكره: تقدّس الربّ الذي جعل في السماء بروجا، ويعني بالبروج: القصور, في قول بعضهم.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن العلاء ومحمد بن المثنى وسلم بن جنادة, قالوا: ثنا عبد الله بن إدريس, قال: سمعت أبي, عن عطية بن سعد, في قوله: ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال: قصورا في السماء, فيها الحرس.حدثنا محمد بن المثنى, قال: ثني أبو معاوية, قال: ثني إسماعيل, عن يحيى بن رافع, في قوله: ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال: قصورا في السماء.حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عمرو, عن منصور, عن إبراهيم ( جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال: قصورًا في السماء.حدثني إسماعيل بن سيف, قال: ثني عليّ بن مسهر, عن إسماعيل, عن أبي صالح, في قوله: ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال: قصورا في السماء فيها الحرس.وقال آخرون: هي النجوم الكبار.* ذكر من قال ذلك:حدثني ابن المثنى, قال: ثنا يعلى بن عبيد, قال: ثنا إسماعيل, عن أبي صالح ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال: النجوم الكبار.قال: ثنا الضحاك, عن مخلد, عن عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: الكواكب.حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: ( بُرُوجًا ) قال: البروج: النجوم.قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: هي قصور في السماء, لأن ذلك في كلام العرب وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وقول الأخطل:كَأَنَّهَا بُرْجُ رُوميّ يُشَيِّدُهُبانٍ بِجِصّ وآجُر وأحْجارِ (2)يعني بالبرج: القصر.قوله: ( وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا ) اختلف القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة ( وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا ) على التوحيد, ووجهوا تأويل ذلك إلى أنه جعل فيها الشمس, وهي السراج التي عني عندهم بقوله: ( وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا ).كما حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, في قوله: ( وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ) قال: السراج: الشمس.وقرأته عامة قرّاء الكوفيين " وَجَعَلَ فِيها سُرُجا " على الجماع, كأنهم وجهوا تأويله: وجعل فيها نجوما( وَقَمَرًا مُنِيرًا ) وجعلوا النجوم سرجا إذ كان يهتدي بها.والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار, لكل واحدة منهما وجه مفهوم, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.وقوله: ( وَقَمَرًا مُنِيرًا ) يعني بالمنير: المضيء.------------------------------الهوامش :(2) البيت للأخطل كما قال المؤلف . والبرج : المراد به القصر كما قاله . وقد كثر في كلام العرب تشبيه إبل السفر القوية الموثقة الخلق بأبنية الرومي ، ومن ذلك قول طرفة في وصف ناقته :كَقَنْطَرَةِ الرُّوميّ أقسَمَ رَبُّهَالَتُكْتَفَنْ حَتَى تُشَادَ بِقَرْمَدِوالبيت شاهد على أن البرج معناه : القصر .

وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)


اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) فقال بعضهم: معناه: أن الله جعل كل واحد منهما خلفًا من الآخر, في أن ما فات أحدهما من عمل يعمل فيه لله, أدرك قضاؤه في الآخر.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد, قال: ثنا يعقوب القمي, عن حفص بن حميد, عن شمر بن عطية, عن شقيق قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فقال: فاتتني الصلاة الليلة, فقال: أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك, فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر, أو أراد شكورا.حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) يقول: من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار, أو من النهار أدركه بالليل.حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الحسن, في قوله: ( جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) قال: جعل أحدهما خلفا للآخر, إن فات رجلا من النهار شيء أدركه من الليل, وإن فاته من الليل أدركه من النهار.وقال آخرون: بل معناه أنه جعل كل واحد منهما مخالفا صاحبه, فجعل هذا أسود وهذا أبيض.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) قال: أسود وأبيض.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, مثله.حدثنا أبو هشام الرفاعي, قال: ثنا يحيى بن يمان, قال: ثنا سفيان, عن عمر بن قيس بن أبي مسلم الماصر, عن مجاهد ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) قال: أسود وأبيض.وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن كل واحد منهما يخلف صاحبه, إذا ذهب هذا جاء هذا, وإذا جاء هذا ذهب هذا.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن بشار, قال: ثنا أبو أحمد الزبيري, قال: ثنا قيس, عن عمر بن قيس الماصر, عن مجاهد, قوله: ( جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) قال: هذا يخلف هذا, وهذا يخلف هذا.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) قال: لو لم يجعلهما خلفة لم يدر كيف يعمل, لو كان الدهر ليلا كله كيف يدري أحد كيف يصوم, أو كان الدهر نهارا كله كيف يدري أحد كيف يصلي. قال: والخلفة: مختلفان, يذهب هذا ويأتي هذا, جعلهما الله خلفة للعباد, وقرأ ( لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) والخلفة: مصدر, فلذلك وحدت, وهي خبر عن الليل والنهار; والعرب تقول: خلف هذا من كذا خلفة, وذلك إذا جاء شيء مكان شيء ذهب قبله, كما قال الشاعر:وَلهَا بالمَاطِرُونَ إذَاأَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَعَاخِلْفَةٌ حَتَّى إذَا ارْتَبَعَتْسَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيَعَا (3)وكما قال زهير:بِهَا العِيْنُ والآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةًوأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلّ مَجْثَمِ (4)يعني بقوله: يمشين خلفة: تذهب منها طائفة, وتخلف مكانها طائفة أخرى. وقد يحتمل أن زُهَيرا أراد بقوله: خلفة: مختلفات الألوان, وأنها ضروب في ألوانها وهيئاتها. ويحتمل أن يكون أراد أنها تذهب في مشيها كذا, وتجيء كذا.وقوله ( لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ) يقول تعالى ذكره: جعل الليل والنهار, وخلوف كل واحد منهما الآخر حجة وآية لمن أراد أن يذكَّر أمر الله, فينيب إلى الحق ( أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) أو أراد شكر نعمة الله التي أنعمها عليه في اختلاف الليل والنهار.وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) قال: شكر نعمة ربه عليه فيهما.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, قوله: ( لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ) ذاك آية له ( أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) قال: شكر نعمة ربه عليه فيهما.واختلف القرّاء في قراءة قوله: ( يَذَّكَّرَ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ( يَذَّكَّرَ ) مشددة, بمعنى يتذكر. وقرأه عامة قرّاء الكوفيين: " يَذْكُرَ" مخففة، وقد يكون التشديد والتخفيف في مثل هذا بمعنى واحد. يقال: ذكرت حاجة فلان وتذكرتها.والقول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب فيهما.----------------------الهوامش :(3) البيتان ليزيد بن معاوية من مقطوعة له ذكرها صاحب ( خزانة الأدب الكبرى 3: 278- 280) قالها متغزلا في امرأة نصرانية كانت قد ترهبت في دير عند الماطرون وهو بستان بظاهر دمشق . وفي الأبيات "خرفة" في موضع "خلفة" وخرافة بضم الخاء : ما يخترف ويجتنى ، وهذه رواية المبرد في الكامل .ورواية المؤلف موافقة لرواية صاحب العباب ، وكذلك رواها العيني عن أبي القوطية قال : الرواية : هي الخلفة باللام ، وهو ما يطلع من الثمر بعد الثمر الطيب . قال البغدادي : والجيد عندي رواية الخلفة ، على أنها اسم من الاختلاف ، أي التردد . وارتبعت : دخلت في الربيع . ويروى : ربعت ، بمعناه . ويروى : ذكرت : بدل سكنت ، وجلق : مدينة بالشام ، والبيع : جمع بيعة بكسر الباء، وهي متعبد . قال الجوهري وصاحبا العباب ، والمصباح : هي للنصارى ، وقال العيني : البيعة: لليهود ، والكنيسة للنصارى ، وهذا لا يناسب قوله إن الشعر في نصرانية . ومعنى البيتين : إن لهذه المرأة ترددًا إلى الماطرون في الشتاء ، فإن النمل يخزن الحب في الصيف ، ليأكله في الشتاء ؛ وإذا دخلت في أيام الربيع ارتحلت إلى البيع التي بجلق . ا ه. وأورد المؤلف الشعر شاهدًا على معنى الخلفة كما شرحه البغدادي .(4) البيت من معلقة زهير بن أبي سلمى ( مختار شعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ص 228) قال شارحه : العين : جمع عيناء ، بقر الوحش . والآرام : جمع رئم ، وهو الظبي الخالص البياض . وخلفة : يخلف بعضها بعضًا . والأطلاء : جمع الطلا ، وهو الولد من ذوات الظلف. والمجثم : المربض ، والشاهد في البيت عند المؤلف في قوله "خلفة" كما في الشاهد الذي قبله : أي يذهب بعضها ويخلفه بعض .

وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى ٱلْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلْجَٰهِلُونَ قَالُوا۟ سَلَٰمًا (63)


يقول تعالى ذكره: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) بالحلم والسكينة والوقار غير مستكبرين, ولا متجبرين, ولا ساعين فيها بالفساد ومعاصي الله.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل, غير أنهم اختلفوا, فقال بعضهم: عنى بقوله: ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) أنهم يمشون عليها بالسكينة والوقار.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: بالوقار والسكينة.قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا محمد بن أبي الوضاح, عن عبد الكريم, عن مجاهد: ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: بالحلم والوقار.حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال ثنا عيسى; وحدثني الحارث; قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد, قوله: ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: بالوقار والسكينة.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, مثله.حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن الثوري, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) بالوقار والسكينة.حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي, قال: ثنا شريك, عن سالم, عن سعيد وعبد الرحمن ( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قالا بالسكينة والوقار.حدثنا أبو كريب, قال: ثنا ابن يمان, عن شريك, عن جابر, عن عمار, عن عكرمة, في قوله: ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: بالوقار والسكينة.قال: ثنا ابن يمان, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد, مثله.حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن أيوب, عن عمرو الملائي ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: بالوقار والسكينة.وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يمشون عليها بالطاعة والتواضع.* ذكر من قال ذلك:حدثني علي, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) بالطاعة والعفاف والتواضع.حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: يمشون على الأرض بالطاعة.حدثني أحمد بن عبد الرحمن, قال: ثني عمي عبد الله بن وهب, قال: كتب إليّ إبراهيم بن سويد, قال: سمعت زيد بن أسلم يقول: التمست تفسير هذه الآية ( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) فلم أجدها عند أحد, فأُتيت في النوم فقيل لي: هم الذين لا يريدون يفسدون في الأرض.حدثنا أبو كريب, قال: ثنا ابن يمان, عن أسامة بن زيد بن أسلم, عن أبيه, قال: لا يفسدون في الأرض.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: لا يتكبرون على الناس, ولا يتجبرون, ولا يفسدون. وقرأ قول الله تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَوقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يمشون عليها بالحلم لا يجهلون على من جهل عليهم.* ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو كريب, قال: ثنا ابن يمان, عن أبي الأشهب, عن الحسن في ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: حلماء, وإن جُهِلَ عليهم لم يجهلوا.حدثنا ابن حميد قال: ثنا يحيى بن واضح, قال: ثنا الحسين, عن يزيد, عن عكرمة ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: حلماء.حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الحسن, في قوله: ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: علماء حلماء لا يجهلون.وقوله: ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) يقول: وإذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول, أجابوهم بالمعروف من القول, والسداد من الخطاب.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا أبو الأشهب, عن الحسن ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ) ... الآية, قال: حلماء, وإن جُهل عليهم لم يجهلوا.حدثنا ابن حميد, قال: ثنا ابن المبارك, عن معمر, عن يحيى بن المختار, عن الحسن, في قوله ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) قال: إن المؤمنين قوم ذُلُلٌ, ذلّت منهم والله الأسماع والأبصار والجوارح, حتى يحسبهم الجاهل مرضى, وإنهم لأصحاء القلوب, ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم, ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة, فقالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ والله ما حزنهم حزن الدنيا, ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا به الجنة, أبكاهم الخوف من النار, وإنه من لم يتعز بعزاء الله تَقَطَّعَ نفسه على الدنيا حسرات, ومن لم ير لله عليه نعمة إلا في مطعم ومشرب, فقد قلّ علمه وحضر عذابه.حدثنا ابن بشار قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) قال: سدادا.حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا محمد بن أبي الوضاح, عن عبد الكريم, عن مجاهد ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) قال: سَدَادا من القول.حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن الثوريّ, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) حلماء.قال: ثنا الحسين, قال: ثنا يحيى بن يمان, عن أبي الأشهب, عن الحسن, قال: حلماء لا يجهلون, وإن جُهِل عليهم حلموا ولم يسفهوا، هذا نهارهم فكيف ليلهم - خير ليل - صفوا أقدامهم, وأجْرَوا دموعهم على خدودهم يطلبون إلى الله جلّ ثناؤه في فكاك رقابهم.قال: ثنا الحسين, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا عبادة, عن الحسن, قال: حلماء لا يجهلون وإن جهل عليهم حلموا.

وَٱلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَٰمًا (64)


يقول تعالى ذكره: والذين يبيتون لربهم يصلون لله, يراوحون بين سجود في صلاتهم وقيام. وقوله: ( وَقِيَامًا ) جمع قائم, كما الصيام جمع صائم.

وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)


( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ) يقول تعالى ذكره: والذين يدعون الله أن يصرف عنهم عقابه وعذابه حذرا منه ووجلا . وقوله: ( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) يقول: إن عذاب جهنم كان غراما ملحا دائما لازما غير مفارق من عذِّب به من الكفار, ومهلكا له. ومنه قولهم: رجل مُغْرم, من الغُرْم والدَّين. ومنه قيل للغريم غَريم لطلبه حقه, وإلحاحه على صاحبه فيه. ومنه قيل للرجل المولع للنساء: إنه لمغرَم بالنساء, وفلان مغرَم بفلان: إذا لم يصبر عنه; ومنه قول الأعشى:إنْ يُعَاقِب يَكُنْ غَرَاما وَإِنْ يُعْطِ جَزِيلا فَإِنَّهُ لا يبالي (5)يقول: إن يعاقب يكن عقابه عقابا لازما, لا يفارق صاحبه مهلكا له، وقول بشر بن أبي خازم:وَيوْمَ النِّسارِ وَيَوْمَ الجِفارِ كَانَ عِقَابًا وَكَانَ غَرَاما (6)وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني علي بن الحسن اللاني, قال: أخبرنا المعافي بن عمران الموصلي, عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب في قوله: ( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) قال: إن الله سأل الكفار عن نعمه, فلم يردّوها إليه, فأغرمهم, فأدخلهم النار.قال: ثنا المعافي, عن أبي الأشهب, عن الحسن, في قوله: ( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) قال: قد علموا أن كلّ غريم مفارق غريمه إلا غريم جهنم.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) قال: الغرام: الشرّ.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, في قوله: ( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) قال: لا يفارقه.------------------------الهوامش :(5) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة ( ديوانه طبع القاهرة ، بشرح الدكتور محمد حسين ، ص 9 ) وهو من قصيدة يمدح بها الأسود بن المنذر اللخمي ، وأولها ما بكاء الكبير بالأطلالوالغرام الشر الدائم ، ومنه قوله تعالى إن عذابها كان غرامًا أي هلاكًا ولزامًا لهم . يقول : إن عاقب كان غرامًا ، وإن أعطى لم يبال العذال.(6) البيت لبشر بن أبي خازم كما قال المؤلف . وفي اللسان نسبه للطرماح . قال : والغرام : اللازم من العذاب ، والشر الدائم ، والبلاء ، والحب ، والعشق ، وما لا يستطاع أن يتفصى منه ، وقال الزجاج : هو أشد العذاب في اللغة . قال الله عز وجل : إن عذابها كان غرامًا ، وقال الطرماح : " ويوم النسار .. . " البيت . وقوله عز وجل : إن عذابها كان غرامًا : أي ملحًا دائمًا ملازمًا . وفي معجم ما استعجم للبكري (طبعة القاهرة ص 385) الجفار : بكسر أوله ، وبالراء المهملة : موضع بنجد ، وهو الذي عنى بشر بن أبي خازم بقوله : " ويوم الجفار .. . " البيت . وقال أبو عبيدة : الجفار : في بلاد بني تميم . وقال البكري في رسم النسار : النسار ، بكسر أوله : على لفظ الجمع ، وهي أجبل صغار ، شبهت بأنسر واقعة ، وذكر ذلك أبو حاتم . وقال في موضع آخر : هي ثلاث قارات سود ، تسمى الأنسر . وهناك أوقعت طيئ وأسد وغطفان ، وهم حلفاء لبني عامر وبني تميم ، ففرت تميم ، وثبتت بنو عامر ، فقتلوهم قتلا شديدًا ؛ فغضبت بنو تميم لبني عامر ، فتجمعوا ولقوهم يوم الجفار ، فلقيت أشد مما لقيت بنو عامر ، فقال بشر ابن أبي خازم :غَضِبَتْ تَمِيمٌ أنْ تُقْتَّلَ عَامِريَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْقِبُوا بِالصَّيْلَمِقلت : الصيلم : الداهية المستأصلة . وفي رواية : فأعتبوا

إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)


وقوله ( إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ) يقول: إن جهنم ساءت مستقرًّا ومقاما, يعني بالمستقرّ: القرار, وبالمقام: الإقامة; كأن معنى الكلام: ساءت جهنم منزلا ومقاما. وإذا ضمت الميم من المقام فهو من الإقامة, وإذا فتحت فهو من قمت, ويقال: المقام إذا فتحت الميم أيضا هو المجلس، ومن المُقام بضمّ الميم بمعنى الإقامة, قول سلامة بن جندل:يَوْمانِ: يَوْمُ مُقَاماتٍ وأَنْدِيَةٍوَيَوْمُ سَيْرٍ إلى الأعْداءِ تَأوِيبَ (7)ومن المُقام الذي بمعنى المجلس, قول عباس بن مرداس:فأيِّي ما وأيُّكَ كانَ شَرًّافقِيدَ إلى المَقَامَة لا يَرَاها (8)يعني: المجلس.------------------------الهوامش :(7) البيت لسلامة بن جندل ، كما قال المؤلف . ( وانظر اللسان : أوب ) . والمقامات جمع مقامة ، بمعنى الإقامة ، والتأويب في كلام العرب : سير النهار كله إلى الليل . يقول : إننا نمضي حياتنا على هذا النحو : نجعل يوماً للإقامة ، يجتمع أولو الرأي فينا في أنديتهم ومجالسهم ، ليتشاوروا ويدبروا أمر القبيلة ؛ واليوم الآخر نجعله للإغارة على الأعداء نشنها عليهم ، ولو سرنا إليهم النهار كله فما نبالي ، لأننا أهل عزة ومنعة . واستشهد به المؤلف عند قوله تعالى في صفة جهنم : إنها ساءت مستقرًا ومقامًا أي إقامة .(8) البيت لعباس بن مرداس ، أنشده ابن بري في ( اللسان : قوم ) وهو شاهد على أن المقام والمقامة ، بفتح الميم : المجلس . وقال البغدادي في الخزانة ( 2 : 230 ) يدعو على الشر منهما ، أي من كان منا شرَّا أعماه الله في الدنيا ، فلا يبصر حتى يقاد إلى مجلسه . وقال شارح اللباب : أي قيد إلى مواضع إقامة الناس وجمعهم في العرصات لا يراها ، أي قيد أعمى لا يرى المقامة . والبيت من جملة أبيات للعباس بن مرداس السلمي ، قالها لخفاف بن ندبه في أمر شجر بينهما .

وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا۟ لَمْ يُسْرِفُوا۟ وَلَمْ يَقْتُرُوا۟ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا (67)


يقول تعالى ذكره: والذين إذا أنفقوا أموالهم لم يسرفوا في إنفاقها.ثم اختلف أهل التأويل في النفقة التي عناها الله في هذا الموضع, وما الإسراف فيها والإقتار. فقال بعضهم: الإسراف ما كان من نفقة في معصية الله وإن قلت: قال: وإياها عني الله, وسماها إسرافا. قالوا: والإقتار: المنع من حقّ الله.* ذكر من قال ذلك:حدثني علي, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) قال: هم المؤمنون لا يسرفون فينفقون في معصية الله, ولا يُقترون فيمنعون حقوق الله تعالى.حدثنا أبو كُريب, قال: ثنا ابن يمان, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد, قال: لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله ما كان سرفا, ولو أنفقت صاعا فى معصية الله كان سرفا.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) قال: في النفقة فيما نهاهم وإن كان درهما واحدا, ولم يقتروا ولم يُقصِّروا عن النفقة في الحق.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) قال: لم يسرفوا فينفقوا في معاصي الله كلّ ما أنفق في معصية الله, وإن قلّ فهو إسراف, ولم يقتروا فيمسكوا عن طاعة الله. قال: وما أُمْسِكَ عن طاعة الله وإن كثر فهو إقتار.قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني إبراهيم بن نشيط, عن عمر مولى غُفرة أنه سئل عن الإسراف ما هو؟ قال: كلّ شيء أنفقته في غير طاعة الله فهو سرف.وقال آخرون: السرف: المجاوزة في النفقة الحدّ، والإقتار: التقصير عن الذي لا بدّ منه.* ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا عبد السلام بن حرب, عن مغيرة, عن إبراهيم, قوله: ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) قال: لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف.حدثني سليمان بن عبد الجبار, قال: ثنا محمد بن يزيد بن خنيس أبو عبد الله المخزومي المكي, قال: سمعت وهيب بن الورد أبا الورد مولى بني مخزوم, قال: لقي عالم عالما هو فوقه في العلم, فقال: يرحمك الله أخبرني عن هذا البناء الذي لا إسراف فيه ما هو؟ قال: هو ما سترك من الشمس, وأكنك من المطر, قال: يرحمك الله, فأخبرني عن هذا الطعام الذي نصيبه لا إسراف فيه ما هو؟ قال: ما سدّ الجوع ودون الشبع, قال: يرحمك الله, فأخبرني عن هذا اللباس الذي لا إسراف فيه ما هو؟ قال: ما ستر عورتك, وأدفأك من البرد.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني عبد الرحمن بن شريح, عن يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية: ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا ) ... الآية, قال: كانوا لا يلبسون ثوبا للجمال, ولا يأكلون طعاما للذّة, ولكن كانوا يريدون من اللباس ما يسترون به عورتهم, ويكتَنُّون به من الحرّ والقرّ, ويريدون من الطعام ما سدّ عنهم الجوع, وقواهم على عبادة ربهم.حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن العلاء بن عبد الكريم, عن يزيد بن مرّة الجعفي. قال: العلم خير من العمل, والحسنة بين السيئتين, يعني: إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا, وخير الأعمال أوساطها.حدثنا ابن بشار, قال: ثنا مسلم بن إبراهيم, قال: ثنا كعب بن فروخ, قال: ثنا قتادة, عن مطرِّف بن عبد الله, قال: خير هذه الأمور أوساطها, والحسنة بين السيئتين. فقلت لقتادة: ما الحسنة بين السيئتين؟ فقال: ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) ... الآية.وقال آخرون: الإسراف هو أن تأكل مال غيرك بغير حق.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا سالم بن سعيد, عن أبي مَعْدان, قال: كنت عند عون بن عبد الله بن عتبة, فقال: ليس المسرف من يأكل ماله, إنما المسرف من يأكل مال غيره.قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك, قول من قال: الإسراف في النفقة الذي عناه الله في هذا الموضع: ما جاوز الحدّ الذي أباحه الله لعباده إلى ما فوقه, والإقتار: ما قصر عما أمر الله به, والقوام: بين ذلك.وإنما قلنا إن ذلك كذلك, لأن المسرف والمقتر كذلك، ولو كان الإسراف والإقتار في النفقة مرخصا فيهما ما كانا مذمومين, ولا كان المسرف ولا المقتر مذموما, لأن ما أذن الله في فعله فغير مستحقّ فاعله الذمّ.فإن قال قائل: فهل لذلك من حدّ معروف تبينه لنا؟ قيل: نعم ذلك مفهوم في كلّ شيء من المطاعم والمشارب والملابس والصدقة وأعمال البرّ وغير ذلك, نكره تطويل الكتاب بذكر كلّ نوع من ذلك مفصلا غير أن جملة ذلك هو ما بيَّنا وذلك نحو أكل آكل من الطعام فوق الشبع ما يضعف بدنه, وينهك قواه ويشغله عن طاعة ربه, وأداء فرائضه؛ فذلك من السرف, وأن يترك الأكل وله إليه سبيل حتى يضعف ذلك جسمه وينهك قواه ويضعفه عن أداء فرائض ربه؛ فذلك من الإقتار وبين ذلك القوام على هذا النحو, كل ما جانس ما ذكرنا، فأما اتخاذ الثوب للجمال يلبسه عند اجتماعه مع الناس, وحضوره المحافل والجمع والأعياد دون ثوب مهنته, أو أكله من الطعام ما قوّاه على عبادة ربه, مما ارتفع عما قد يسدّ الجوع, مما هو دونه من الأغذية, غير أنه لا يعين البدن على القيام لله بالواجب معونته, فذلك خارج عن معنى الإسراف, بل ذلك من القوام, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ببعض ذلك, وحضّ على بعضه, كقوله: " مَا عَلى أحَدِكُمْ لَوْ اتَّخَذَ ثَوْبَيْنِ: ثَوْبًا لِمِهْنَتِهِ, وَثَوْبًا لجُمْعَتِهِ وَعِيدِه " وكقوله: " إذَا أنْعَمَ اللهُ عَلَى عبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَهَا عَلَيْهِ" وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد بيَّناها في مواضعها.وأما قوله: ( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) فإنه النفقة بالعدل والمعروف على ما قد بيَّنا.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا سفيان, عن أبي سليمان, عن وهب بن منبه, في قوله: ( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) قال: الشطر من أموالهم.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: ( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) النفقة بالحقّ.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) قال: القوام: أن ينفقوا في طاعة الله, ويمسكوا عن محارم الله.قال: أخبرني إبراهيم بن نشيط, عن عمر مولى غُفْرة, قال: قلت له: ما القوام؟ قال: القوام: أن لا تنفق في غير حقّ, ولا تمسك عن حقّ هو عليك. والقوام في كلام العرب, بفتح القاف, وهو الشيء بين الشيئين. تقول للمرأة المعتدلة الخلق: إنها لحسنة القوام في اعتدالها, كما قال الحطيئة:طَافَتْ أُمَامَةُ بالرُّكْبانِ آونَةًيا حُسْنَهُ مِنْ قَوَام ما وَمُنْتَقَبا (9)فأما إذا كسرت القاف فقلت: إنه قِوام أهله, فإنه يعني به: أن به يقوم أمرهم وشأنهم. وفيه لغات أُخَر, يقال منه: هو قيام أهله وقيّمهم في معنى قوامهم. فمعنى الكلام: وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار قواما معتدلا لا مجاوزة عن حد الله, ولا تقصيرا عما فرضه الله, ولكن عدلا بين ذلك على ما أباحه جلّ ثناؤه, وأذن فيه ورخص.واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( وَلَمْ يَقْتُرُوا ) فقرأته عامة قرّاء المدينة " ولمْ يُقْتروا " بضم الياء وكسر التاء من أقتر يَقْتِر. وقرأته عامة قرّاء الكوفيين ( وَلَمْ يَقْتُرُوا ) بفتح الياء وضم التاء من قتر يَقْتُر. وقرأته عامة قرّاء البصرة " وَلمْ يَقْتِروا " بفتح الياء وكسر التاء من قتر يَقْتِر.والصواب من القول في ذلك, أن كل هذه القراءات على اختلاف ألفاظها لغات مشهورات في العرب, وقراءات مستفيضات وفي قرّاء الأمصار بمعنى واحد, فبأيتها قرأ القارئ فمصيب.وقد بيَّنا معنى الإسراف والإقتار بشواهدهما فيما مضى في كتابنا في كلام العرب, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وفي نصب القَوام وجهان: أحدهما ما ذكرت, وهو أن يجعل في كان اسم الإنفاق بمعنى: وكان إنفاقهم ما أنفقوا بين ذلك قواما: أي عدلا والآخر أن يجعل بين هو الاسم, فتكون وإن كانت في اللفظة نصبا في معنى رفع, كما يقال: كان دون هذا لك كافيا, يعني به: أقلّ من هذا كان لك كافيا, فكذلك يكون في قوله: ( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) لأن معناه: وكان الوسط من ذلك قواما.----------------------------الهوامش :(9) البيت للحطيئة : وآونة : جمع أوان . والقوام : حسن الطول . والمنتقب : مصدر ميمي بمعنى الانتقاب . يقول : إن أمامة كانت أحيانًا تطوف بالركبان ، فما أعدل قوامها ، وأحسن نقبتها . والنقاب : ما وضع على مارن الأنف من أغطية الوجه . والنقبة : هيئة الانتقاب به ، يقال : إن فلانة لحسنة النقبة . ويكون معنى القوام كذلك : الشيء الوسط بين الشيئين . وقد حمل عليه المؤلف معنى البيت .

الصفحة السابقة الصفحة التالية