تفسير سورة الشعراء الصفحة 371 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 371 من المصحف


وَٱجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى ٱلْءَاخِرِينَ (84)


وقوله: ( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ) يقول: واجعل لي في الناس ذكرًا جميلا وثناء حسنا, باقيا فيمن يجيء من القرون بعدي.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن أبي بكر, عن عكرمة, قوله: ( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) قَوْلُهُ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا . قال: إن الله فضله بالخُلة حين اتخذه خليلا فسأل الله فقال: ( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ) حتى لا تكذّبني الأمم, فأعطاه الله ذلك, فإن اليهود آمنت بموسى, وكفرت بعيسى, وإن النصارى آمنت بعيسى, وكفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم, وكلهم يتولى إبراهيم; قالت اليهود: هو خليل الله وهو منا, فقطع الله ولايتهم منه بعد ما أقرّوا له بالنبوّة وآمنوا به, فقال: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثم ألحق ولايته بكم فقال: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ فهذا أجره الذي عجل له, وهي الحسنة, إذ يقول: وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وهو اللسان الصدق الذي سأل ربه.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ) قال: اللسان الصدق: الذكر الصدق, والثناء الصالح, والذكر الصالح في الآخرين من الناس, من الأمم.

وَٱجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ ٱلنَّعِيمِ (85)


يعني إبراهيم صلوات الله عليه بقوله: ( وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ) أورثني يا ربّ من منازل من هلك من أعدائك المشركين بك من الجنة, وأسكني ذلك.

وَٱغْفِرْ لِأَبِىٓ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ (86)


( وَاغْفِرْ لأبِي ) يقول: واصفح لأبي عن شركه بك, ولا تعاقبه عليه ( إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) يقول: إنه كان ممن ضل عن سبيل الهدى, فكفر بك.وقد بيَّنا المعنى الذي من أجله استغفر إبراهيم لأبيه صلوات الله عليه, واختلاف أهل العلم في ذلك, والصواب عندنا من القول فيه فيما مضى, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وَلَا تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)


وقوله: ( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) يقول: ولا تذلني بعقابك إياي يوم تبعث عبادك من قبورهم لموقف القيامة.

يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)


( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ) يقول: لا تخزني يوم لا ينفع من كفر بك وعصاك في الدنيا مال كان له في الدنيا, ولا بنوه الذين كانوا له فيها, فيدفع ذلك عنه عقاب الله إذا عاقبه, ولا ينجيه منه.

إِلَّا مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)


وقوله: ( إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) يقول: ولا تخزني يوم يبعثون, يوم لا ينفع إلا القلب السليم.والذي عني به من سلامة القلب في هذا الموضع: هو سلامة القلب من الشكّ في توحيد الله, والبعث بعد الممات.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن علية, عن عون, قال: قلت لمحمد: ما القلب السليم؟ قال: أن يعلم أن الله حقّ, وأن الساعة قائمة, وأن الله يبعث من في القبور.حدثنا ابن بشار, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد: ( إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال: لا شك فيه.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, قوله: ( إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال: ليس فيه شكّ في الحقّ.حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: ( بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال: سليم من الشرك.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: ( إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال: سليم من الشرك, فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد.حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي, قال: ثنا مروان بن معاوية, عن جُوَيْبِر, عن الضحاك, في قول الله: ( إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال: هو الخالص.

وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)


يعني جلّ ثناؤه بقوله: ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ) وأدنيت الجنة وقرّبت للمتقين, الذين اتقوا عقاب الله في الآخرة بطاعتهم إياه في الدنيا.

وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)


( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ) يقول: وأظهرت النار للذين غووا فضلوا عن سواء السبيل.

وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (92)


وقيل لِلْغَاوِينَ ( أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) من الأنداد.

مِن دُونِ ٱللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ (93)


( هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ ) اليوم من الله, فينقذونكم من عذابه ( أَوْ يَنْتَصِرُونَ ) لأنفسهم, فينجونها مما يُرَاد بها؟.

فَكُبْكِبُوا۟ فِيهَا هُمْ وَٱلْغَاوُۥنَ (94)


وقوله: ( فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ) يقول: فرمي ببعضهم في الجحيم على بعض, وطرح بعضهم على بعض منكبين على وجوههم. وأصل كبكبوا: كببوا, ولكن الكاف كرّرت كما قيل: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ يعني به صرّ, ونهنهني يُنهنهَني, يعني به: نههني.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال. ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, قوله: ( فكبكبوا ) قال: فدهوروا.حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( فَكُبْكِبُوا فِيهَا ) يقول: فجمعوا فيها.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فى قوله: ( فَكُبْكِبُوا فِيهَا ) قال: طرحوا فيها. فتأويل الكلام: فكبكب هؤلاء الأنداد التي كانت تعبد من دون الله في الجحيم والغاوون.وذُكر عن قَتادة أنه كان يقول: الغاوون في هذا الموضع. الشياطين.* ذكر الرواية عمن قال ذلك:حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: ( فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ) قال: الغاوون: الشياطين.فتأويل الكلام على هذا القول الذي ذكرنا عن قتادة. فكبكب فيها الكفار الذين كانوا يعبدون من دون الله الأصنام والشياطين.

وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)


وقوله: ( وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ) يقول: وكبكب فيها مع الأنداد والغاوين جنود إبليس أجمعون. وجنوده: كل من كان من تباعه, من ذرّيته كان أو من ذرّية آدم.

قَالُوا۟ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)


يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء الغاوون والأنداد التي كانوا يعبدونها من دون الله وجنود إبليس, وهم في الجحيم يختصمون.

تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ (97)


( تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) يقول: تالله لقد كنا في ذهاب عن الحقّ, إن كنا لفي ضلال مبين, يبين ذهابنا ذلك عنه عن نفسه, لمن تأمله وتدبره, أنه ضلال وباطل.

إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ (98)


وقوله: ( إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقول الغاوون للذين يعبدونهم من دون الله: تالله إن كنا لفي ذهاب عن الحقّ حين نعدلكم برب العالمين فنعبدكم من دونه.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: لتلك الآلهة.

وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلَّا ٱلْمُجْرِمُونَ (99)


يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء الغاوين في الجحيم: ( وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ ) يعني بالمجرمين إبليس, وابن آدم الذي سنّ القتل.كما حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن عكرمة, قوله: ( وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ ) قال: إبليس وابن آدم القاتل.

فَمَا لَنَا مِن شَٰفِعِينَ (100)


وقوله ( فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ) يقول: فليس لنا شافع فيشفع لنا عند الله من الأباعد, فيعفو عنا, وينجينا من عقابه.

وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)


( وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) من الأقارب.واختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بالشافعين, وبالصديق الحميم, فقال بعضهم: عني بالشافعين: الملائكة, وبالصديق الحميم: النسيب.* ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج ,عن ابن جُرَيج: ( فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ) قال: من الملائكة ( وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) قال: من الناس, قال مجاهد: صديق حميم, قال: شقيق.وقال آخرون: كل هؤلاء من بني آدم.* ذكر من قال ذلك:حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة, قال: ثنا إسحاق بن سعيد البصري المسمعي, عن أخيه يحيى بن سعيد المسمعي, قال: كان قَتادة إذا قرأ: ( فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) قال: يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحا نفع, وأن الحميم إذا كان صالحا شفع.

فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ (102)


وقوله ( فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول: فلو أن لنا رجعة إلى الدنيا فنؤمن بالله فنكون بإيماننا به من المؤمنين.

إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (103)


يقول تعالى ذكره: إن فيما احتجّ به إبراهيم على قومه من الحجج التي ذكرنا له لدلالة بينة واضحة لمن اعتبر, على أن سنة الله في خلقه الذين يستنون بسنة قوم إبراهيم من عبادة الأصنام والآلهة, ويقتدون بهم في ذلك ما سنّ فيهم في الدار الآخرة, من كبكبتهم وما عبدوا من دونه مع جنود إبليس في الجحيم, وما كان أكثرهم في سابق علمه مؤمنين.

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ (104)


وإن ربك يا محمد لهو الشديد الانتقام ممن عبد دونه, ثم لم يتب من كفره حتى هلك, الرحيم بمن تاب منهم أن يعاقبه على ما كان سلف منه قبل توبته من إثم وجرم.

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ٱلْمُرْسَلِينَ (105)


يقول تعالى ذكره: ( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ) رسل الله الذين أرسلهم إليهم

إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)


لما( قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ ) فتحذروا عقابه على كفركم به, وتكذيبكم رسله.

إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)


( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ ) من الله ( أمِينٌ ) على وحيه إلي, برسالته إياي إليكم.

فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)


يقول تعالى ذكره: فاتقوا عقاب الله أيها القوم على كفركم به, وأطيعوني في نصيحتي لكم, وأمري إياكم باتقائه.

وَمَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ (109)


( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) يقول: وما أطلب منكم على نصيحتي لكم وأمري إياكم باتقاء عقاب الله بطاعته فيما أمركم ونهاكم, من ثواب ولا جزاء ( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) دونكم ودون جميع خلق الله.

فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)


فاتقوا عقاب الله على كفركم به, وخافوا حلول سخطه بكم على تكذيبكم رسله, وأطيعون: يقول: وأطيعوني في نصيحتي لكم, وأمري إياكم بإخلاص العبادة لخالقكم.

قَالُوٓا۟ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلْأَرْذَلُونَ (111)


يقول تعالى ذكره: قال قوم نوح له مجيبيه عن قيله لهم: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قالوا: أنؤمن لك يا نوح, ونقرّ بتصديقك فيما تدعونا إليه, وإنما اتبعك منا الأرذلون دون ذوي الشرف وأهل البيوتات.

الصفحة السابقة الصفحة التالية