تفسير سورة الشعراء الصفحة 373 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 373 من المصحف


إِنْ هَٰذَآ إِلَّا خُلُقُ ٱلْأَوَّلِينَ (137)


وقوله: ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك; فقرأته عامة قرّاء المدينة سوى أبي جعفر, وعامة قرّاء الكوفة المتأخرين منهم: ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) من قبلنا: وقرأ ذلك أبو جعفر, وأبو عمرو بن العلاء: " إنْ هَذَا إلا خَلْقُ الأوّلينَ" بفتح الخاء وتسكين اللام بمعنى: ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأوّلين وأحاديثهم.واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, نحو اختلاف القرَّاء في قراءته, فقال بعضهم: معناه: ما هذا إلا دين الأوّلين وعادتهم وأخلاقهم.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) يقول: دين الأوّلين.حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة قوله: ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) يقول: هكذا خِلْقة الأوّلين, وهكذا كانوا يحيون ويموتون.وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما هذا إلا كذب الأوّلين وأساطيرهم.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) قال: أساطير الأوّلين.حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) قال: كذبهم.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, مثله.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) قال: إن هذا إلا أمر الأوّلين وأساطير الأوّلين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلا.حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا عبد الأعلى, قال: ثنا داود, عن عامر, عن علقمة, عن ابن مسعود: ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) يقول: إن هذا إلا اختلاق الأوّلين.قال ثنا يزيد بن هارون, قال. أخبرنا داود, عن الشعبيّ, عن علقمة, عن عبد الله, أنه كان يقرأ ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) ويقول شيء اختلقوه.حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن علية, عن داود, عن الشعبيّ, قال: قال علقمة: ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) قال: اختلاق الأوّلين.وأولى القراءتين في ذلك بالصواب: قراءة من قرأ ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) بضم الخاء واللام, بمعنى: إن هذا إلا عادة الأوّلين ودينهم, كما قال ابن عباس, لأنهم إنما عوتبوا على البنيان الذي كانوا يتخذونه, وبطشهم بالناس بطش الجبابرة, وقلة شكرهم ربهم فيما أنعم عليهم, فأجابوا نبيّهم بأنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك, احتذاء منهم سنة من قبلهم من الأمم, واقتفاء منهم آثارهم, فقالوا: ما هذا الذي نفعله إلا خلق الأوّلين, يعنون بالخلق: عادة الأوّلين. ويزيد ذلك بيانا وتصحيحا لما اخترنا من القراءة والتأويل, قولهم: ( وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) لأنهم لو كانوا لا يقرُّون بأن لهم ربا يقدر على تعذيبهم.

وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)


ما قالوا: ( وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) بل كانوا يقولون: إن هذا الذي جئتنا به يا هود إلا خلق الأوّلين, وما لنا من معذب يعذبنا, ولكنهم كانوا مقرين بالصانع, ويعبدون الآلهة, على نحو ما كان مشركو العرب يعبدونها, ويقولون إنها تقربنا إلى الله زلفى, فلذلك قالوا لهود وهم منكرون نبوته: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ثم قالوا له: ما هذا الذي نفعله إلا عادة من قبلنا وأخلاقهم, وما الله معذبنا عليه. كما أخبرنا تعالى ذكره عن الأمم الخالية قبلنا, أنهم كانوا يقولون لرسلهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ

فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَٰهُمْ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (139)


يقول تعالى ذكره: فكذّبت عاد رسول ربهم هودا, والهاء في قوله ( فكذبوه ) من ذكر هود.( فأهلكناهم ) يقول: فأهلكنا عادا بتكذيبهم رسولنا.( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) يقول تعالى ذكره: إن في إهلاكنا عادا بتكذيبها رسولها, لعبرة وموعظة لقومك يا محمد, المكذّبيك فيما أتيتهم به من عند ربك.يقول: وما كان أكثر من أهلكنا بالذين يؤمنون في سابق علم الله.

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ (140)


( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ) في انتقامه من أعدائه,( الرَّحِيمُ ) بالمؤمنين به.

كَذَّبَتْ ثَمُودُ ٱلْمُرْسَلِينَ (141)


يقول تعالى ذكره: كذّبت ثمود رسل الله, إذ دعاهم صالح أخوهم إلى الله, فقال لهم: ألا تتقون عقاب الله يا قوم على معصيتكم إياه, وخلافكم أمره, بطاعتكم أمر المفسدين في أرض الله.

إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَٰلِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142)


إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ

إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143)


( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ ) من الله أرسلني إليكم بتحذيركم عقوبته على خلافكم أمره ( أمِينٌ ) على رسالته التي أرسلها معي إليكم.

فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)


( فَاتَّقُوا اللَّهَ ) أيها القوم, واحذروا عقابه ( وأطيعون ) في تحذيري إياكم, وأمر ربكم باتباع طاعته.

وَمَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ (145)


( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) يقول: وما أسألكم على نصحي إياكم, وإنذاركم من جزاء ولا ثواب.( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقول: إن جزائي وثوابي إلا على ربّ جميع ما في السموات, وما في الأرض, وما بينهما من خلق.

أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَٰهُنَآ ءَامِنِينَ (146)


يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل صالح لقومه من ثمود: أيترككم يا قوم ربكم في هذه الدنيا آمنين, لا تخافون شيئا؟.

فِى جَنَّٰتٍ وَعُيُونٍ (147)


( فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) يقول: في بساتين وعيون ماء.

وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)


( وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) يعني بالطلع: الكُفُرَّى.واختلف أهل التأويل في معنى قوله ( هَضِيمٌ ) فقال بعضهم: معناه اليانع النضيج.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) يقول: أينع وبلغ فهو هضيم.وقال آخرون: بل هو المتهشم المتفتت.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) قال محمد بن عمرو في حديثه تهشم هشيما. وقال الحارث: تهشم تهشّما.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: سمعت عبد الكريم يقول: سمعت مجاهدا يقول في قوله: ( وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) قال: حين تطلع يقبض عليه فيهضمه.قال ابن جُرَيج: قال مجاهد: إذا مسّ تهشّم وتفتَّت, قال: هو من الرطب هضيم تقبض عليه فتهضمه.وقال آخرون: هو الرطب اللين.* ذكر من قال ذلك:حدثنا هناد, قال: ثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرمة قوله: ( وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) قال: الهضيم: الرطب اللين.وقال آخرون: هو الراكب بعضه بعضا.* ذكر من قال ذلك:حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) إذا كثر حمل النخلة فركب بعضها بعضا, حتى نقص بعضها بعضا, فهو حينئذ هضيم.وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: الهضيم: هو المتكسر من لينه ورطوبته, وذلك من قولهم: هضم فلان حقه: إذا انتقصه وتحيفه, فكذلك الهضم في الطلع, إنما هو التنقص منه من رطوبته ولينه إما بمسّ الأيدي, وإما بركوب بعضه بعضا, وأصله مفعول صرف إلى فعيل.

وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا فَٰرِهِينَ (149)


وقوله: ( وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ) يقول تعالى ذكره: وتتخذون من الجبال بيوتا.واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( فارهين ) فقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة: ( فارهين ) بمعنى: حاذقين بنحتها.وقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة: " فَرِهِينَ" بغير ألف, بمعنى: أشرين بطرين.واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك على نحو اختلاف القرّاء في قراءته, فقال بعضهم: معنى فارهين: حاذقين.* ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو كريب, قال: ثنا عثام, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح وعبد الله بن شدّاد: ( وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ) قال أحدهما: حاذقين, وقال الآخر: يتجبرون.حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا مروان, قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح: ( وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ) قال: حاذقين بنحتها.حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( فارهين ) يقول: حاذقين.وقال آخرون: معنى فارهين: مستفرهين متجبرين.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار, قال: ثنا يحيى, قال: ثنا سفيان, عن السديّ, عن عبد الله بن شداد في قوله: " فَرِهِينَ" قال: يتجبرون.قال أبو جعفر: والصواب: فارهين.وقال آخرون ممن قرأه فارهين: معنى ذلك: كيسين.* ذكر من قال ذلك:حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( فارهين ) قال: كيسين.حدثنا ابن حميد, قال: ثنا يحيى بن واضح, قال: ثنا عبيد, عن الضحاك أنه قرأ ( فارهين ) قال: كيسين.وقال آخرون: فرهين: أشرين.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله: ( وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ) يقول: أشرين, ويقال: كيسين.حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " بيوتا فرهين " قال: شرهين.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, بمثله.وقال آخرون: معنى ذلك: أقوياء.* ذكر من قال ذلك:حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: " وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَرِهِينَ" قال: الفره: القويّ.وقال آخرون في ذلك بما حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن قتادة, في قوله: " فَرِهِينَ" قال: معجبين بصنيعكم.والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قراءة من قرأها( فارهين ) وقراءة من قرأ " فَرِهِينَ" قراءتان معروفتان, مستفيضة القراءة بكل واحدة منهما في علماء القرّاء, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. ومعنى قراءة من قرأ ( فارهين ) : حاذقين بنحتها, متخيرين لمواضع نحتها, كيسين, من الفراهة. ومعنى قراءة من قرأ " فَرِهِينَ": مرحين أشرين. وقد يجوز أن يكون معنى فاره وفره واحدا, فيكون فاره مبنيا على بنائه, وأصله من فعل يفعل, ويكون فره صفة, كما يقال: فلان حاذق بهذا الأمر وحذق. ومن الفاره بمعنى المرح قول الشاعر عديّ بن وادع العوفي من الأزد:لا أسْتَكِينُ إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْوَلَنْ تَرَانِي بِخَيْرٍ فارِهَ الطَّلَبِ (1)------------------------الهوامش :(1) البيت لعدي بن وادع الشاعر الأزدي الأعمى، (كما سماه صاحب معجم الشعراء ص 252)، وكما في مجاز القرآن لأبي عبيدة (مصورة الجامعة ص 173) قال (وتنحتون من الجبال بيوتًا فارهين) أي مرحين. قال عدي بن وادع العفوي من العفاة بن عمرو بن فهم من الأزد:لا أسْتَكِينُ إذَا مَا أزْمَةٌ أزَمَتْوَ لَنْ تَرَاني بِخَيْرٍ فَارِهَ اللَّبَبِأي مرح اللبب. قال: ويجوز: "فرهين" في معنى "فارهين".أو هو ابن وادع العوفي، كما في (اللسان: فره) قال: الفاره: الحاذق بالشيء والفروهة والفراهة والفراهية: النشاط. وفره بالكسر: أشر وبطر، ورجل فره نشيط أشر. وفي التنزيل: (وتنحتون من الجبال بيوتًا فرهين). فمن قرأه كذلك، فهو من هذا: شرهين بطرين. ومن قرأه: "فارهين"، فهو من فره بالضم. قال ابن برى عند هذا الموضع: قال ابن وادع العوفي:لا أستكين إذا ما أزمة أزمتولن تراني بخير فاره الطلبقال الفراء: معنى فارهين: حاذقين. ا ه. وأما "اللبب" في رواية أبي عبيدة، فلعلها الرواية الصحيحة. ومعناه: البال. يقال: إنه لرخى اللبب. وفي التهذيب: فلان في بال رخى، ولبب رخى: أي في سعة وخصب وأمن.

فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)


أي مرح الطلب. وقوله: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) يقول تعالى ذكره: فاتقوا عقاب الله أيها القوم على معصيتكم ربكم, وخلافكم أمره, وأطيعون في نصيحتي لكم, وإنذاري إياكم عقاب الله ترشدوا.

وَلَا تُطِيعُوٓا۟ أَمْرَ ٱلْمُسْرِفِينَ (151)


يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل صالح لقومه من ثمود: لا تطيعوا أيها القوم أمر المسرفين على أنفسهم في تماديهم في معصية الله, واجترائهم على سخطه.

ٱلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)


وهم الرهط التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض, ولا يصلحون من ثمود الذين وصفهم الله جلّ ثناؤه بقوله: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ يقول: الذين يسعون في أرض الله بمعاصيه, ولا يصلحون, يقول: ولا يصلحون أنفسهم بالعمل بطاعة الله.

قَالُوٓا۟ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ (153)


وقوله: ( إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) اختلف أهل التأويل في تأويله, فقال بعضهم: معناه إنما أنت من المسحورين.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) قال: من المسحورين.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, مثله.حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتاده, في قوله: ( إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) قال: إنما أنت من المسحورين.وقال آخرون: معناه: من المخلوقين.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عبيد, قال: ثنا موسى بن عمرو, عن أبي صالح, عن ابن عباس, في قوله: ( إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) قال: من المخلوقين.واختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك, فكان بعض أهل البصرة يقول: كل من أكل من إنس أو دابة فهو مسحر, وذلك لأن له سحرا يقري ما أكل فيه, واستشهد على ذلك بقول لبيد:فَإِنْ تَسْأَلينا فِيمَ نَحْنُ فإنَّناعَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الأنامِ المُسَحَّر (2)وقال بعض نحويي الكوفيين نحو هذا, غير أنه قال: أخذ من قولك: انتفخ سحرك: أي أنك تأكل الطعام والشراب, فتُسَحَّر به وتعلل. وقال: معنى قول لبيد: " من هذا الأنام المسحر ": من هذا الأنام المعلل المخدوع. قال: ويُروى أن السحر من ذلك, لأنه كالخديعة.والصواب من القول في ذلك عندي: القول الذي ذكرته عن ابن عباس, أن معناه: إنما أنت من المخلوقين الذين يعللون بالطعام والشراب مثلنا, ولست ربا ولا ملكا فنطيعك, ونعلم أنك صادق فيما تقول. والمسحر: المفعل من السحرة, وهو الذي له سحرة.------------------------الهوامش :(2) سبق الاستشهاد ببيت لبيد هذا في (15 : 96) وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة الورقة 174) قال: وكل من أكل من إنس أو دابة فهو مسحر، وذلك أن له سحرًا يقرى فيه ما أكل، قال لبيد (وأنشد البيت). وفي (اللسان: سحر)/ سحره بالطعام والشراب يسحره سحرًا، وسحره: غذاه وعلله. وقيل: خدعه. والسحر: الغذاء. قال امرؤ القيس:أرَانَا مُوضِعِينَ لأَمْرِ غَيْبٍوَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالْشَّرَابِموضعين: مسرعين. ولأمر غيب: يريد الموت وأنه قد غيب عنا وقته، ونحن نلهى عنه بالطعام والشراب والسحر: الخديعة. وقول لبيد: "فإن تسألينا.." البيت. يكون على وجهين. وقوله تعالى: (إنما أنت من المسحرين) يكون من التغذية ومن الخديعة وقال الفراء: (إنما أنت من المسحرين): قالوا لنبي الله: لست بملك، إنما أنت بشر مثلنا. قال: والمسحر: المجوف؛ كأنه أعلم، أخذ من قولك: انتفخ سحرك، أي أنك تأكل الطعام والشراب، فتعلل به. وقيل: (من المسحرين) أي: ممن سحر مرة بعد مرة.

مَآ أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِـَٔايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ (154)


يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل ثمود لنبيها صالح: ( مَا أَنْتَ -يَا صَالِحُ- إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) من بني آدم, تأكل ما نأكل, وتشرب ما نشرب, ولست بربّ ولا ملك, فعلام نتبعك؟ فإن كنت صادقا في قيلك, وأن الله أرسلك إلينا( فَأْتِ بِآيَةٍ ) يعني: بدلالة وحجة على أنك محقّ فيما تقول, إن كنت ممن صدقنا في دعواه أن الله أرسله إلينا.وقد حدثنا أحمد بن عمرو البصري, قال: ثنا عمرو بن عاصم الكلابي, قال: ثنا داود بن أبي الفرات, قال: ثنا علباء بن أحمر, عن عكرمة, عن ابن عباس: أن صالحا النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه الله إلى قومه, فآمنوا به واتبعوه, فمات صالح, فرجعوا عن الإسلام, فأتاهم صالح, فقال لهم: أنا صالح, قالوا: إن كنت صادقا فأتنا بآية, فأتاهم بالناقة, فكذبوه وعقروها, فعذّبهم الله.

قَالَ هَٰذِهِۦ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (155)


وقوله: ( قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) يقول تعالى ذكره: قال صالح لثمود لما سألوه آية يعلمون بها صدقه, فأتاهم بناقة أخرجها من صخرة أو هضبة: هذه ناقة يا قوم, لها شرب ولكم مثله شرب يوم آخر معلوم, ما لكم من الشرب, ليس لكم في يوم وردها أن تشربوا من شربها شيئا, ولا لها أن تشرب في يومكم مما لكم شيئا. ويعني بالشرب: الحظّ والنصيب من الماء, يقول: لها حظّ من الماء, ولكم مثله, والشُّرْب والشَّرْب والشِّرْب مصادر كلها بالضم والفتح والكسر.وقد حُكي عن العرب سماعا: آخرها أقلها شُربا وشِربا.

وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)


وقوله: ( وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ ) يقول: لا تمسوها بما يؤذيها من عقر وقتل ونحو ذلك.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, في قوله: ( وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ ) لا تعقروها. وقوله: ( فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) يقول: فيحل بكم من الله عذاب يوم عظيم عذابه.

فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا۟ نَٰدِمِينَ (157)


يقول تعالى ذكره, فخالفت ثمود أمر نبيها صالح صلى الله عليه وسلم, فعقروا الناقة التي قال لهم صالح: لا تمسوها بسوء, فأصبحوا نادمين على عقرها, فلم ينفعهم ندمهم.

فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (158)


وأخذهم عذاب الله الذي كان صالح توعدهم به فأهلكهم.( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) يقول: إنّ في إهلاك ثمود بما فعلت من عقرها ناقة الله وخلافها أمر نبي الله صالح لعبرة لمن اعتبر به يا محمد من قومك.( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) يقول: ولن يؤمن أكثرهم في سابق علم الله.

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ (159)


( وَإِنَّ رَبَّكَ ) يا محمد ( لَهُوَ الْعَزِيزُ ) في انتقامه من أعدائه ( الرَّحِيمُ ) بمن آمن به من خلقه.

الصفحة السابقة الصفحة التالية