تفسير سورة ص الصفحة 453 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 453 من المصحف


بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ صٓ وَٱلْقُرْءَانِ ذِى ٱلذِّكْرِ (1)


القول في تأويل قوله تعالى : ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قول الله عزّ وجلّ: (ص) فقال بعضهم: هو من المصاداة, من صاديت فلانا, وهو أمر من ذلك, كأن معناه عندهم: صاد بعملك القرآن: أي عارضه به, ومن قال هذا تأويله, فإنه يقرؤه بكسر الدال, لأنه أمر, وكذلك رُوي عن الحسن .* ذكر الرواية بذلك:حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قال: قال الحسن (ص) قال: حادث القرآن.وحُدثت عن عليّ بن عاصم, عن عمرو بن عبيد, عن الحسن, في قوله (ص) قال: عارض القرآن بعملك.حُدثت عن عبد الوهاب, عن سعيد, عن قتادة, عن الحسن, في قوله (ص والقرآن) قال: عارض القرآن, قال عبد الوهاب: يقول اعرضه على عملك, فانظر أين عملك من القرآن.حدثني أحمد بن يوسف, قال: ثنا القاسم, قال: ثنا حجاج, عن هارون, عن إسماعيل, عن الحسن أنه كان يقرأ: (ص والقرآن) بخفض الدال, وكان يجعلها من المصاداة, يقول: عارض القرآن.وقال آخرون: هي حرف هجاء.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ: أما(ص) فمن الحروف. وقال آخرون: هو قسم أقسم الله به.* ذكر من قال ذلك:حدثني علي, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله (ص) قال: قسم أقسمه الله, وهو من أسماء الله.وقال آخرون: هو اسم من أسماء القرآن أقسم الله به.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة (ص) قال: هو اسم من أسماء القرآن أقسم الله به. وقال آخرون: معنى ذلك: صدق الله.* ذكر من قال ذلك:حُدثت عن المسيب بن شريك, عن أبي روق, عن الضحاك فى قوله (ص) قال: صدق الله.واختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن عمر, بسكون الدال, فأما عبد الله بن أبي إسحاق فإنه كان يكسرها لاجتماع الساكنين, ويجعل ذلك بمنزلة الأداة, كقول العرب: تركته حاثِ باثِ, وخازِ بازِ يخفضان من أجل أن الذي يلي آخر الحروف ألف فيخفضون مع الألف, وينصبون مع غيرها, فيقولون حيث بيث, ولأجعلنك في حيص بيص: إذا ضيق عليه. وأما عيسى بن عمر فكان يوفق بين جميع ما كان قبل آخر الحروف منه ألف, وما كان قبل آخره ياء أو واو فيفتح جميع ذلك وينصبه, فيقول: ص و ق و ن ويس, فيجعل ذلك مثل الأداة كقولهم: ليتَ, وأينَ وما أشبه ذلك.والصواب من القراءة في ذلك عندنا السكون في كل ذلك, لأن ذلك القراءة التي جاءت بها قرّاء الأمصار مستفيضة فيهم, وأنها حروف هجاء لأسماء المسميات, فيعرب إعراب الأسماء والأدوات والأصوات, فيسلك به مسالكهن, فتأويلها إذ كانت كذلك تأويل نظائرها التي قد تقدم بيانها قبل فيما مضى.وكان بعض أهل العربية يقول: (ص) في معناها كقولك: وجب والله, نزل والله, وحق والله, وهي جواب لقوله (والقرآن) كما تقول: حقا والله, نزل والله.وقوله ( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) وهذا قسم أقسمه الله تبارك وتعالى بهذا القرآن فقال: ( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ )واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( ذِي الذِّكْرِ ) فقال بعضهم: معناه: ذي لشرف.* ذكر من قال ذلك:حدثنا نصر بن عليّ, قال: ثنا أبو أحمد, عن قيس, عن أبي حصين, عن سعيد ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) قال: ذي الشرف.حدثنا نصر بن عليّ وابن بشار, قالا ثنا أبو أحمد, عن مسعر, عن أبي حصين (ذي الذكر) : ذي الشرف.قال: ثنا أبو أحمد, عن سفيان, عن إسماعيل, عن أبي صالح أو غيره (ذي الذكر) : ذي الشرف.حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ(والقرآن ذي الذكر) قال: ذي الشرف.حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا معاوية بن هشام, عن سفيان, عن يحيى بن عُمارة, عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس (ص والقرآن ذي الذكر) ذي الشرف.وقال بعضهم: بل معناه: ذي التذكير, ذكَّركمُ الله به.* ذكر من قال ذلك:حُدثت عن المسيب بن شريك, عن أبي روق, عن الضحاك (ذي الذكر) قال: فيه ذكركم, قال: ونظيرتها: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ .حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة (ذي الذكر) : أي ما ذكر فيه.وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ذي التذكير لكم, لأن الله أتبع ذلك قوله (بل الذين كفروا في عزة وشقاق) فكان معلوما بذلك أنه إنما أخبر عن القرآن أنه أنزله ذكرًا لعباده ذكرهم به, وأن الكفار من الإيمان به في عزّة وشقاق.

بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)


واختلف في الذي وقع عليه اسم القسم, فقال بعضهم; وقع القسم على قوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ )* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة.( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ ) قال: ها هنا وقع القسم.وكان بعض أهل العربية يقول: " بل " دليل على تكذيبهم, فاكتفى ببل من جواب القسم, وكأنه قيل: ص, ما الأمر كما قلتم, بل أنتم في عزة وشقاق. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: زعموا أن موضع القسم في قوله إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ وقال بعض نحويي الكوفة: قد زعم قوم أن جواب (والقرآن) قوله إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ قال: وذلك كلام قد تأخر عن قوله (والقرآن) تأخرا شديدا, وجرت بينهما قصص مختلفة, فلا نجد ذلك مستقيما في العربية, والله أعلم.قال: ويقال: إن قوله (والقُرآنِ) يمين اعترض كلام دون موقع جوابها, فصار جوابها للمعترض ولليمين, فكأنه أراد: والقرآن ذي الذكر, لَكَمْ أهلكنا, فلما اعترض قوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ ) صارت كم جوابا للعزة واليمين. قال: ومثله قوله وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا اعترض دون الجواب قوله وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فصارت قد أفلح تابعة لقوله: فألهمها, وكفى من جواب القسم, فكأنه قال: والشمس وضحاها لقد أفلح.والصواب من القول في ذلك عندي, القول الذي قاله قتادة, وأن قوله (بَلْ) لما دلّت على التكذيب وحلَّت محلّ الجواب استغني بها من الجواب, إذ عرف المعنى, فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك: ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) ما الأمر, كما يقول هؤلاء الكافرون: بل هم في عزّة وشقاق.وقوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) يقول تعالى ذكره: بل الذين كفروا بالله من مشركي قريش في حمية ومشاقة, وفراق لمحمد وعداوة, وما بهم أن لا يكونوا أهل علم, بأنه ليس بساحر ولا كذاب.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله (في عزة وشقاق) قال: مُعَازِّين.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة (في عزة وشقاقٍ) : أي في حَمِيَّة وفراق.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) قال: يعادون أمر الله ورسله وكتابه, ويشاقون, ذلك عزّة وشِقاق, فقلت له: الشقاق: الخلاف, فقال: نعم.

كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا۟ وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)


القول في تأويل قوله تعالى : كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)يقول تعالى ذكره: كثيرا أهلكنا من قبل هؤلاء المشركين من قريش الذين كذّبوا رسولنا محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيما جاءهم به من عندنا من الحقّ( مِنْ قَرْنٍ ) يعني: من الأمم الذين كانوا قبلهم, فسلكوا سبيلهم في تكذيب رسلهم فيما أتوهم به من عند الله (فَنَادَوْا) يقول: فعجوا إلى ربهم وضجوا واستغاثوا بالتوبة إليه, حين نزل بهم بأس الله وعاينوا به عذابه فرارا من عقابه, وهربا من أليم عذابه ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) يقول: وليس ذلك حين فرار ولا هرب من العذاب بالتوبة, وقد حَقَّت كلمة العذاب عليهم, وتابوا حين لا تنفعهم التوبة, واستقالوا في غير وقت الإقالة. وقوله (مَنَاصٍ) مفعل من النوص, والنوص في كلام العرب: التأخر, والمناص: المفرّ; ومنه قول امرئ القيس:أمِنْ ذِكْر سَلْمَى إذْ نأتْكَ تَنُوصُفَتقْصِرُ عَنْها خَطْوَةً وَتَبوصُ (1)يقول: أو تقدم يقال من ذلك: ناصني فلان: إذا ذهب عنك, وباصني: إذا سبقك, وناض في البلاد: إذا ذهب فيها, بالضاد. وذكر الفراء أن العقيلي أنشده:إذَا عاشَ إسْحاقُ وَشَيْخُهُ لَمْ أُبَلْفَقِيدًا وَلَمْ يَصْعُبْ عَليَّ مَناضُ (2)وَلَوْ أشْرَفَتْ مِنْ كُفَّةِ السِّتْرِ عاطِلالَقُلْتُ غَزَالٌ مَا عَلَيْهِ خُضَاضُوالخُضاض: الحلي.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن أبي إسحاق عن التميمي, عن ابن عباس في قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: ليس بحين نزو, ولا حين فرار.حدثنا أبو كُريب, قال: ثنا ابن عطية, قال: ثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن التميمي, قال: قلت لابن عباس: أرأيت قول الله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: ليس بحين نزو ولا فرار ضبط القوم.حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن أبي إسحاق الهمداني, عن التميمي, قال: سألت ابن عباس, قول الله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: ليس حين نزو ولا فرار.حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: ليس حين نزو ولا فرار.حدثني عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) يقول: ليس حين مَغاث.حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن. قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: ليس هذا بحين فرار.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: نادى القوم على غير حين نداء, وأرادوا التوبة حين عاينوا عذاب الله فلم يقبل منهم ذلك.حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال: حين نزل بهم العذاب لم يستطيعوا الرجوع إلى التوبة, ولا فرارا من العذاب.حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) يقول: وليس حين فرار.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) ولات حين مَنْجى ينجون منه, ونصب حين في قوله ( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) تشبيها للات بليس, وأضمر فيها اسم الفاعل.وحكى بعض نحويِّي أهل البصرة الرفع مع لات في حين زعم أن بعضهم رفع " ولاتَ حينُ مَناصٍ" فجعله في قوله ليس, كأنه قال: ليس وأضمر الحين; قال: وفي الشعر:طَلَبُوا صُلْحَنا وَلاتَ أوَانفَأَجَبْنَا أنْ لَيْسَ حِينَ بقاءِ (3)فجرّ" أوان " وأضمر الحين إلى أوان, لأن لات لا تكون إلا مع الحين; قال: ولا تكون لات إلا مع حين. وقال بعض نحويي الكوفة: من العرب من يضيف لات فيخفض بها, وذكر أنه أنشد:لات ساعة مندم (4)بخفض الساعة; قال: والكلام أن ينصب بها, لأنها في معنى ليس, وذكر أنه أنشد:تَذَكَّرَ حُبَّ لَيْلَى لاتَ حِيناوأضْحَى الشَّيْبُ قَدْ قَطَعَ القَرِينا (5)قال: وأنشدني بعضهم:طَلَبُوا صُلْحَنا وَلاتَ أوَانٍفأجَبْنَا أنْ لَيْسَ حَينَ بَقاءِ (6)بخفض " أوانٍ"; قال: وتكون لات مع الأوقات كلها.واختلفوا في وجه الوقف على قراءة: (لاتَ حينَ) فقال بعض أهل العربية: الوقف عليه ولاتْ بالتاء, ثم يبتدأ حين مناص, قالوا: وإنما هي" لا " التي بمعنى: " ما ", وإن في الجحد وُصلت بالتاء, كما وُصلت ثم بها, فقيل: ثمت, وكما وصلت ربّ فقيل: ربت.وقال آخرون منهم: بل هي هاء زيدت في لا فالوقف عليها لاه, لأنها هاء زيدت للوقف, كما زيدت في قولهم:العاطِفُونَةَ حِينَ ما مِنْ عاطِفٍوالمُطْعِمُونَةَ حِينَ أيْنَ المَطْعَمُ (7)فإذا وُصلت صارت تاء. وقال بعضهم: الوقف على " لا ", والابتداء بعدها تحين, وزعم أن حكم التاء أن تكون في ابتداء حين, وأوان, والآن; ويستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر:تَوَلّى قَبْلَ يَوْمِ سَبْيٍ جُماناوَصَلِينا كما زَعَمْتِ تَلانا (8)وأنه ليس ها هنا " لا " فيوصل بها هاء أو تاء; ويقول: إن قوله (لاتَ حِينَ) إنما هي: ليس حين, ولم توجد لات في شيء من الكلام.والصواب من القول في ذلك عندنا: أن " لا " حرف جحد كما، وإن وَصلت بها تصير في الوصل تاء, كما فعلت العرب ذلك بالأدوات, ولم تستعمل ذلك كذلك مع " لا " المُدَّة إلا للأوقات دون غيرها, ولا وجه للعلة التي اعتل بها القائل: إنه لم يجد لات في شيء من كلام العرب, فيجوز توجيه قوله ( وَلاتَ حِينَ ) إلى ذلك, لأنها تستعمل الكلمة في موضع, ثم تستعملها في موضع آخر بخلاف ذلك, وليس ذلك بأبعد في القياس من الصحة من قولهم: رأيت بالهمز, ثم قالوا: فأنا أراه بترك الهمز لما جرى به استعمالهم, وما أشبه ذلك من الحروف التي تأتي في موضع على صورة, ثم تأتي بخلاف ذلك في موضع آخر للجاري من استعمال العرب ذلك بينها. وأما ما استشهد به من قول الشاعر: " وكما زعمت تلانا ", فإن ذلك منه غلط في تأويل الكلمة; وإنما أراد الشاعر بقوله: " وَصِلِينَا كما زَعمْتِ تَلانا ": وصلينا كما زعمت أنت الآن, فأسقط الهمزة من أنت, فلقيت التاء من زعمت النون من أنت وهي ساكنة, فسقطت من اللفظ, وبقيت التاء من أنت, ثم حذفت الهمزة من الآن, فصارت الكلمة في اللفظ كهيئة تلان, والتاء الثانية على الحقيقة منفصلة من الآن, لأنها تاء أنت. وأما زعمه أنه رأى في المصحف الذي يقال له الإمام التاء متصلة بحين, فإن الذي جاءت به مصاحف المسلمين في أمصارها هو الحجة على أهل الإسلام, والتاء في جميعها منفصلة عن حين, فلذلك اخترنا أن يكون الوقف على الهاء في قوله ( وَلاتَ حِينَ )----------------------الهوامش :(1) ‌البيت لامرئ القيس" مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة الحلبي 127) قال : نأتك : بعدت عنك . وتنوص تتأخر ؛ فتقصر عنها : يقال : أقصر عنه خطوه : إذا كفه عنه . وتبوص : تتقدم يقول : أمن حقك إذ نأت عنك سلمى ، وذكرتها واشتقت إليها أن تتأخر عنها . وتقصر خطابك دونها أم تتقدم نحوها ، جادا في أثرها . والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (276) قال في تفسير قوله تعالى :" ولات حين مناص" يقول : ليس بحين فرار . والنوص : التأخر في كلام العرب . والبوص : التقدم ، وقال امرؤ القيس :" أمن ذكر ... البيت . فمناص : مفعل ، مثل مقام . ومن العرب من يضيف" لات" ، فبخفض . أنشدوني :" لات ساعة مندم" . أ ه .(2) قال المؤلف إن الفراء ذكر أن العقيلي أنشده البيتين. ويفهم منه أن البيتين نقلهما الفراء في معاني القرآن عند تفسير قوله تعالى :" ولات حين مناص" فلعلهما في نسخة غير التي في أيدينا منه وذكر صاحب اللسان البيت الثاني في (خضض) وقال قبله : الخضاض الشيء اليسير من الحلي وأنشد القناني :" ولو أشرفت ... البيت" - قلت : ولعل لفظتا العقيلي والقناني محرفة إحداهما عن الأخرى . ومحل الشاهد في البيت الأول في قوله" مناض" أي ذهاب في الأرض ، فهو مصدر ميمي . وهو قريب في معناه مناص بالصاد المهملة ، أي مفر قال في (اللسان نوض) وناض فلان ينوض نوضا في البلاد وناض نوضا ، كناص عدل أ ه(3) وهذا البيت لأبي زبيد المنذر بن حرملة الطائي النصراني وقد أدرك الإسلام . وكان عثمان رضي الله عنه يقربه ويدني مجلسه (فرائد القلائد ، في مختصر شرح الشواهد ، للعيني) قال : والشاهد في قوله : ولات أوان حيث وقع خبره (خبر لات) لفظة أوان كالحين أي ليس الأوان صلح ، فحذف المضاف ، ثم بني أوان ، كما بني قبل وبعد . عند حذف المضاف إليه ، ولكنه بنى على الكسر ، يشبهه بنزال في الوزن ، ثم نون للضرورة . وأن تفسيرية . وليس للنفي واسمه محذوف . وحين بقاء : خبره . أي ليس الحين حين بقاء الصلح . أ ه . قال الفراء بعد كلامه الذي نقلناه تحت الشاهد السابق : وأنشدني بعضهم :" طلبوا صلحنا ..." فخفض أوان . أ ه . قلت : ولم يقل إنه بنى على الكسر .(4) هذا جزء من بيت . وهو بتمامه كما في" فرائد القلائد ، في مختصر شرح الشواهد ، للعيني ( ص 105 مستقلة عن الخزانة للبغدادي ) .نَدِم البُغاةُ ولاتَ ساعَةَ مَنْدَمٍوالْبَغْيُ مَرْتَعٌ مُبْتَغِيهِ وَخِيمُوالرواية فيه عند العيني بنصب ساعة ، لا بجرها . وقال في شرحه وقائله محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي وقيل مهلهل بن مالك الكناني . وقال الفراء . بعد أن أنشد البيت (276) والكلام : أن ينصب بها في معنى ليس . أ ه . قلت : وفي خزانة الأدب للبغدادي (2 : 144 - 147) نقاش كثير بين النحويين في إعراب" ساعة" في البيت : أبا لنصب ، وهي الرواية المشهورة وقد وافق عليها الفراء في آخر كلامه . وأما الجر فإنه يحكيه عمن أنشده هذا الجزء من البيت ، الذي قال إنه لا يحفظ صدره ، ولم يرض الفراء عن الجر بلات ، وإنما قرر أن وجه الكلام النصب بها ، لأنها في معنى ليس ، وأنشد عليه الشاهد الذي بعده ، مؤكدا كلامه ، في عملها النصب .وأما رواية البيت فقد ذكرنا روايته عند ابن عقيل وغيره من شراح الألفية . ونسبته إلى رجل من طييء وفي خزانة الأدب (2 : 147) أن ابن السكيت رواه في كتاب الأضداد ، وهو :وَلَتَعْرِفَنَّ خَلائِقا مَشْمُولَةًوَلَتَنْدَمَنَّ ولاتَ سَاعةَ مَنْدَمِقال ابن الأعرابي في تفسير قوله" مشمولة" : يقال أخلاق مشمولة : أي مشئومة ، وأخلاق سوء . قال : ويقال أيضا : رجل مشمول الخلائق : أي كريم الأخلاق.(5) البيت من شواهد الفراء (الورقة 276) على أن لات تعمل النصب فيما بعدها . قال في معاني القرآن مبينا الوجه في عمل ليت : والكلام : أن ينصب بها في معنى ليس . أنشدني المفضل :" تذكر حب ... البيت" . ثم قال : بعده : فهذا نصب ، ثم أنشد شاهدا آخر على الجر بها ، وهو قول الشاعر :" طلبوا صلحنا ولات أوان ... البيت" . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 210 - 1 ) في أول سورة ص : و" لات حين مناص" : إنما هي :" ولا" . وبعض العرب يزيد فيها الهاء ، فيقول: " ولاه" فيزيد فيها هاء للوقف ، فإذا اتصلت صارت تاء . والمناص : مصدر ناص ينوص . وهو المنحى والفوت . وقال عمرو بن شاس الأسدي :" تذكرت ليلى لات حين تذكر" . وقال الفراء في معاني القرآن (276) : أقف على" لات" بالتاء . والكسائي يقف عليها بالهاء . أ ه .(6) تقدم الكلام على البيت قريبا ، فراجعه في موضعه.(7) هذا الشاهد أيضا أنشده صاحب الخزانة (2 : 147) ونقل كثيرا من أقوال النحويين في تخريجه . ومن احسن تخريجاته قول ابن جني الذي نقله صاحب الخزانة عن" سر صناعة الإعراب" لابن جني ، قال : وسبقه ابن السيرافي في شرح شواهد الغريب المصنف ، وأبو علي الفارسي ، في المسائل المنثورة . وهو أنها (التاء في العاطفونة) في الأصل هاء السكت ، لاحقه لقوله :" العاطفون" ، اضطر الشاعر إلى تحريكها ، فأبدلها تاء ، وفتحها ، قال ابن جني أراد أن يجريه في الأصل على حد ما يكون عليه في الوقف . وذلك أن يقال في الوقف : هؤلاء مسلمونه ، وضاربونه ، فتلحق الهاء لبيان حركة النون . فصار التقرير : العاطفونه . ثم إنه شبه هاء الوقف بهاء التأنيث ، فلما احتاج لإقامة الوزن ، إلى حركة الهاء ، قلبها بتاء ، كما تقول في الوقف : هذا طلحه فإذا وصلت صارت الهاء تاء ، فقلت : فقلت هذا طلحتنا . وعلى هذا قال : العاطفونة . قال : ويؤنس لصحة هذا قول الراجز :من بعد ما وبعد ما وبعد متصارت نفوس القوم عند الغلصمتأراد : وبعد ما ، فأبدل الألف في التقديرها ، فصارت : بعدمه ، ثم إنه أبدل الهاء تاء ، لتوافق بقية القوافي التي تليها . وشجعه شبه الهاء المقدرة في قوله :" وبعدمه" بهاء التأنيث في طلحة وحمزة ... الخ . وذكر ابن مالك في التسهيل أن التاء بقية لات . فحذفت لا ، وبقيت التاء . وربما استغنى مع التقدير عن (لا) بالتاء ... أ ه . والبيت من قصيدة لأبي وجزة السعدي ، مدح بها آل الزبير بن العوام ، لكنه مركب من مصراعي بيتين . والمصراع الثاني منه" والمسبغون يدا إذا ما أنعموا" .(8) البيت لعمرو بن أحم الباهلي . كما في هامش رقم 1 من الجزء الأول من سر صناعة الإعراب 185 طبعة الحلبي وروايته في الأصل :نولي قبل نأي دار جماناوصليه كما زعمت تلاناورواه ابن الأنباري في كتاب" الإنصاف في مسائل الخلاف . طبعة ليدن سنة 1913 ص 51" :نولي قبل يوم ناي جماناوصلينا كما زعمت تلانانولي : من النوال ، وأصله العطاء . والمراد هنا ما يزود به المحب من قبله . وجمانا : مرخم : جمانة ، وهم اسم امرأة ، والألف للإطلاق . والشاهد في قوله" تلانا" حيث زاد تاء قبل الآن ، كما تزاد قبل حين ..

وَعَجِبُوٓا۟ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ ٱلْكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٌ كَذَّابٌ (4)


القول في تأويل قوله تعالى : وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)يقول تعالى ذكره: وعجب هؤلاء المشركون من قريش أن جاءهم منذر ينذرهم بأس الله على كفرهم به من أنفسهم, ولم يأتهم ملك من السماء بذلك ( وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) يقول: وقال المنكرون وحدانية الله: هذا, يعنون محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, ساحر كذّاب.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) يعني محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ( وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ )حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) يعني محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.

أَجَعَلَ ٱلْءَالِهَةَ إِلَٰهًا وَٰحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ (5)


وقوله ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ) يقول: وقال هؤلاء الكافرون الذين قالوا: محمد ساحر كذاب: أجعل محمد المعبودات كلها واحدا, يسمع دعاءنا جميعنا, ويعلم عبادة كل عابد عبدَه منا( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) : أي إن هذا لشيء عجيب.كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) قال: عجب المشركون أن دُعوا إلى الله وحده, وقالوا: يسمع لحاجاتنا جميعا إله واحد! ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة.وكان سبب قيل هؤلاء المشركين ما أخبر الله عنهم أنهم قالوه, من ذلك, أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال لهم: ( أسألكم أن تجيبوني إلى واحدة تدين لكم بها العرب, وتعطيكم بها الخراج العجم ، فقالوا: وما هي؟ فقال:تقولون لا إله إلا الله, فعند ذلك قالوا: ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ) تعجبا منهم من ذلك ).* ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو كُرَيب وابن وكيع, قالا ثنا أبو أسامة, قال: ثنا الأعمش, قال: ثنا عباد, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس, قال: ( لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا, ويفعل ويفعل, ويقول ويقول, فلو بعثت إليه فنهيته; فبعث إليه, فجاء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فدخل البيت, وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل, قال: فخشي أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه, فوثب فجلس في ذلك المجلس, ولم يجد رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مجلسا قرب عمه, فجلس عند الباب, فقال له أبو طالب: أي ابن أخي, ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم, وتقول وتقول; قال: فأكثروا عليه القول, وتكلم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: " يا عَمّ إنّي أُرِيدهُمْ عَلى كَلِمَةٍ وَاحِدةٍ يَقُولُونَهَا, تَدِينُ لَهُمْ بِها العَرَبُ, وتُؤَدِّي إلَيْهِم بِها العَجَمُ الجِزْيَةَ", ففزعوا لكلمته ولقوله, فقال القوم: كلمة واحدة؟ نعم وأبيك عَشْرًا; فقالوا: وما هي؟ فقال أبو طالب: وأيّ كلمة هي يا ابن أخي؟ قال: " لا إلَهَ إلا الله "; قال: فقاموا فزِعين ينفضون ثيابهم, وهم يقولون: ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) قال: ونزلت من هذا الموضع إلى قوله لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ اللفظ لأبي كريب.حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا معاوية بن هشام, عن سفيان, عن يحيى بن عمارة, عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس, قال: مرض أبو طالب, فأتاه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يعوده, وهم حوله جلوس, وعند رأسه مكان فارغ, فقام أبو جهل فجلس فيه, فقال أبو طالب: يا ابن أخي ما لقومك يشكونك؟ قال: يا عَمّ أُرِيدُهُمْ عَلى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ, وتُؤَدِّي إلَيْهِمْ بِهَا العَجَمُ الجِزْيَةَ قال: ما هي؟ قال: لا إلَهَ إلا الله " فقاموا وهم يقولون: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ونزل القرآن: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ذي الشرف بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ حتى قوله ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ) .حدثنا ابن وكيع, قال: ثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان, عن الأعمش, عن يحيى بن عمارة, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس, قال: مرض أبو طالب, ثم ذكر نحوه, إلا أنه لم يقل ذي الشرف, وقال: إلى قوله ( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ).حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن الأعمش, عن يحيى بن عمارة, عن سعيد بن جُبَير, قال: مرض أبو طالب, قال: فجاء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يعوده, فكان عند رأسه مقعدُ رجل, فقام أبو جهل, فجلس فيه, فشَكَوا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى أبي طالب, وقالوا: إنه يقع في آلهتنا, فقال: يا ابن أخي ما تريد إلى هذا؟ قال: " يا عمّ إنَّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ, وتُؤَدِّي إلَيْهِمُ العَجَمُ الْجِزْيَةَ" قال: وما هي؟ قال: " لا إلَهَ إلا الله ", فقالوا: ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ).

وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُوا۟ وَٱصْبِرُوا۟ عَلَىٰٓ ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ (6)


القول في تأويل قوله تعالى : وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)يقول تعالى ذكره: وانطلق الأشراف من هؤلاء الكافرين من قريش, القائلين: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا بأن امضُوا فاصبروا على دينكم وعبادة آلهتكم. ف " أن " من قوله ( أَنِ امْشُوا ) في موضع نصب يتعلق انطلقوا بها, كأنه قيل: انطلقوا مشيا, ومضيا على دينكم. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: " وَانْطَلَقَ المَلأ مِنْهُمْ يَمْشُونَ أنِ اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ". وذُكر أن قائل ذلك كان عُقْبَة بن أبي مُعيط.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد: ( وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ ) قال: عقبة بن أبى معيط.وقوله ( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) : أي إن هذا القول الذي يقول محمد, ويدعونا إليه, من قول لا إله إلا الله, شيء يريده منا محمد يطلب به الاستعلاء علينا, وأن نكون له فيه أتباعا ولسنا مجيبيه إلى ذلك.

مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلْءَاخِرَةِ إِنْ هَٰذَآ إِلَّا ٱخْتِلَٰقٌ (7)


وقوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) اختلف أهل التأويل في تأويله, فقال بعضهم: معناه: ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من البراءة من جميع الآلهة إلا من الله تعالى ذكره, وبهذا الكتاب الذي جاء به في الملة النصرانية, قالوا: وهي الملة الآخرة.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) يقول: النصرانية.حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) يعني النصرانية; فقالوا: لو كان هذا القرآن حقا أخبرتنا به النصارى.حدثني محمد بن إسحاق, قال: ثنا يحيى بن معين, قال: ثنا ابن عيينة, عن ابن أبي لبيد, عن القرطبي في قوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) قال: ملة عيسى.حدثني محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط عن السديّ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) النصرانية.وقال آخرون: بل عنوا بذلك: ما سمعنا بهذا في ديننا دين قريش.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بَزّة, عن مجاهد, في قوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) قال: ملة قريش.حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) قال: ملة قريش.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) : أي في ديننا هذا, ولا في زماننا قَطُّ.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) قال: الملة الآخرة: الدين الآخر. قال: والملة الدين. وقيل: إن الملأ الذين انطلقوا نفر من مشيخة قريش, منهم أبو جهل, والعاص بن وائل, والأسود بن عبد يغوث.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ أن أناسا من قُرَيش اجتمعوا, فيهم أبو جهل بن هشام, والعاص بن وائل, والأسود بن المطلب, والأسود بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش, فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى أبي طالب, فلنكلمه فيه, فلينصفنا منه, فيأمره فليكفّ عن شتم آلهتنا, وندعه وإلهه الذي يَعبُد, فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ, فيكون منا شيء, فتعيرنا العرب فيقولون: تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه, قال: فبعثوا رجلا منهم يُدعى المطَّلب, فاستأذن لهم على أبي طالب, فقال: هؤلاء مشيخة قومك وسَرَواتهم يستأذنون عليك, قال: أدخلهم; فلما دخلوا عليه قالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا, فأنصفنا من ابن أخيك, فمُره فليكفّ عن شتم آلهتنا, ونَدَعَه وإلهه; قال: فبعث إليه أبو طالب; فلما دخل عليه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسَرَواتهم, وقد سألوك النَّصَف أن تكفّ عن شتم آلهتهم, ويدعوك وإلهك; قال: فقال: " أي عم أولا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها؟" قال: وإلامَ تَدْعُوهُمْ؟ قال: " أدعوهم إلى أن يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِها العَرَبُ وَيَمْلِكُونَ بِهَا العَجَمَ"; قال: فقال أبو جهل من بين القوم: ما هي وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها, قال: " تَقُولُونَ لا إلَهَ إلا الله ". قال: فنفروا وقالوا: سلنا غير هذه, قال: " لَوْ جِئْتُمُونِي بالشَّمْسِ حتى تَضَعُوها في يَدِي ما سأَلْتُكُمْ غيرَها "; قال: فغضبوا وقاموا من عنده غضابا وقالوا: والله لنشتمنك والذي يأمرك بهذا( وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) .. إلى قوله ( إِلا اخْتِلاقٌ ) وأقبل على عمه, فقال له عمه: يا ابن أخي ما شططت عليهم, فأقبل على عمه فدعاه, فقال: " قُلْ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ, تَقُولُ: لا إلَهَ إلا الله ", فقال: لولا أن تعيبكم بها العرب يقولون جزع من الموت لأعطيتكها, ولكن على مِلَّة الأشياخ; قال: فنزلت هذه الآية إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ .حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمى, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) قال: نزلت حين انطلق أشراف قريش إلى أبي طالب فكلموه في النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.وقوله ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء المشركين في القرآن: ما هذا القرآن إلا اختلاق: أي كذب اختلقه محمد وتخرَّصه.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) يقول: تخريص.حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) قال: كذب.حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) : يقول: كذب.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) إلا شيء تخْلُقه.حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) اختلقه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) قالوا: إن هذا إلا كذب.

أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِنۢ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُوا۟ عَذَابِ (8)


القول في تأويل قوله تعالى : أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء المشركين من قريش: أأنزل على محمد الذكر من بيننا فخصّ به, وليس بأشرف منا حسبا. وقوله ( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي ) يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين أن لا يكونوا أهل علم بأن محمدا صادق, ولكنهم في شك من وحينا إليه, وفي هذا القرآن الذي أنزلناه إليه أنه من عندنا( بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ) يقول: بل لم ينزل بهم بأسنا, فيذوقوا وبال تكذيبهم محمدا, وشكهم في تنزيلنا هذا القرآن عليه, ولو ذاقوا العذاب على ذلك علموا وأيقنوا حقيقة ما هم به مكذِّبون, حين لا ينفعهم علمهم

أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ٱلْعَزِيزِ ٱلْوَهَّابِ (9)


( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) يقول تعالى ذكره: أم عند هؤلاء المشركين المنكرين وحي الله إلى محمد خزائن رحمة ربك, يعنى مفاتيح رحمة ربك يا محمد, العزيز في سلطانه, الوهاب لمن يشاء من خلقه, ما يشاء من ملك وسلطان ونبوة, فيمنعوك يا محمد, ما من الله به عليك من الكرامة, وفضَّلك به من الرسالة.

أَمْ لَهُم مُّلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا۟ فِى ٱلْأَسْبَٰبِ (10)


القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ (10)يقول تعالى ذكره: أم لهؤلاء المشركين الذين هم في عزّة وشقاق ( مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) فإنه لا يُعازُّني ويُشاقُّني من كان في مُلكي وسلطاني. وقوله ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) يقول: وإن كان لهم ملك السموات والأرض وما بينهما, فليصعدوّا في أبواب السماء وطرقها, فإن كان له مُلك شيء لم يتعذر عليه الإشراف عليه, وتفقُّده وتعهُّده.واختلف أهل التأويل في معنى الأسباب التي ذكرها الله في هذا الموضع, فقال بعضهم: عُنِي بها أبواب السماء.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) قال: طرق السماء وأبوابها.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) يقول: في أبواب السماء.حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( فِي الأسْبَابِ ) قال: أسباب السموات.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) قال: طرق السموات.حُدثت عن المحاربي, عن جُوَيبر, عن الضحاك ( أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول: إن كان ( لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) يقول: فليرتقوا إلى السماء السابعة.حدثني عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) يقول: في السماء.وذُكر عن الربيع بن أنس في ذلك ما حُدثت عن المسيب بن شريك, عن أبي جعفر الرازيّ, عن الربيع بن أنس, قال: الأسباب: أدقّ من الشعر, وأشدّ من الحديد, وهو بكل مكان, غير أنه لا يرى.وأصل السبب عند العرب: كل ما تسبب به إلى الوصول إلى المطلوب من حبل أو وسيلة, أو رحم, أو قرابة أو طريق, أو محجة وغير ذلك.

جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ ٱلْأَحْزَابِ (11)


وقوله ( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ ) يقول تعالى ذكره: هم ( جُنْد ) يعني الذين في عزّة وشقاق هنالك, يعني: ببدر مهزوم. وقوله ( هُنَالِكَ ) من صلة مهزوم وقوله ( مِنَ الأحْزَابِ ) يعني من أحزاب إبليس وأتباعه الذين مضوا قبلهم, فأهلكهم الله بذنوبهم. و " مِنْ" من قوله ( مِنَ الأحْزَابِ ) من صلة قوله جند, ومعنى الكلام: هم جند من الأحزاب مهزوم هنالك, وما في قوله ( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ ) صلة.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ ) قال: قُريش من الأحزاب, قال: القرون الماضية.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ ) قال: وعده الله وهو بمكة يومئذ أنه سيهزم جندا من المشركين, فجاء تأويلها يوم بدر.وكان بعض أهل العربية يتأول ذلك ( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ ) مغلوب عن أن يصعد إلى السماء.

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو ٱلْأَوْتَادِ (12)


القول في تأويل قوله تعالى : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ (12)يقول تعالى ذكره: كذّبت قبل هؤلاء المشركين من قريش, القائلين: أجعل الآلهة إلها واحدا, رسلها, قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد.واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله قيل لفرعون ذو الأوتاد, فقال بعضهم: قيل ذلك له لأنه كانت له ملاعب من أوتاد, يُلْعَب له عليها.* ذكر من قال ذلك:حُدثت عن عليّ بن الهيثم, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس ( وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ ) قال: كانت ملاعب يلعب له تحتها.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ ) قال: كان له أوتاد وأرسان, وملاعب يلعب له عليها.وقال آخرون: بل قيل ذلك له كذلك لتعذيبه الناس بالأوتاد.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ,, قوله ( ذُو الأوْتَادِ ) قال: كان يعذِّب الناسَ بالأوتاد, يعذّبهم بأربعة أوتاد, ثم يرفع صخرة تُمَدّ بالحبال, ثم تُلْقى عليه فتشدخه.حُدثت عن عليّ بن الهيثم, عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: كان يعذب الناس بالأوتاد.وقال آخرون: معنى ذلك: ذو البنيان, قالوا: والبنيان: هو الأوتاد.* ذكر من قال ذلك:حُدثت عن المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك ( ذُو الأوْتَادِ ) قال: ذو البنيان.

وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَٰبُ لْـَٔيْكَةِ أُو۟لَٰٓئِكَ ٱلْأَحْزَابُ (13)


وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك الأوتاد, إما لتعذيب الناس, وإما للعب, كان يُلْعَب له بها, وذلك أن ذلك هو المعروف من معنى الأوتاد, وثمود وقوم لوط، وقد ذكرنا أخبار كل هؤلاء فيما مضى قبل من كتابنا هذا.( وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ ) يعني: وأصحاب الغَيْضَة.وكان أبو عمرو بن العلاء فِيما حُدثت عن معمر بن المثني, عن أبي عمرو يقول: الأيكة: الحَرَجَة من النبع والسدر, وهو الملتفّ منه, قال الشاعر:أفَمِنْ بُكَاءِ حَمَامَةٍ فِي أيْكَةٍيَرْفَضُّ دَمْعُكَ فَوْقَ ظَهْرِ المَحْمِلِ (9)يعني: مَحْمِل السيف.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ ) قال: كانوا أصحاب شجر, قال: وكان عامَّة شجرهم الدوم.حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ ) قال: أصحاب الغَيْضَة.وقوله ( أُولَئِكَ الأحْزَابُ ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الجماعات المجتمعة, والأحزاب المتحزّبة على معاصي الله والكفر به, الذين منهم يا محمد مشركو قومك, وهم مسلوك بهم سبيلهم.------------------الهوامش :(9) البيت لعنترة العبسي (مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي 387) وهو الرابع من قصيدة يهجو بها قيس بن زهير قائد تميم في بعض حروبها مع عبس . قال شارحه : الأيكة الشجر الكثير الملتف . وذرفت دموعك : سالت . والمحمل علاقة السيف . واستشهد به أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 213 - 1 ( وقال : الأيكة : الحرجة : من النبع والسدر . وهو الملتف قال رجل ، وهو يسند على عنترة :" أفمن بكاء ..." البيت . يعني محمل السيف . وهو الحمالة والحمائل . وجماع المحمل : محامل . وبعضهم يقول :" ليكة" . لا يقطعون الألف ، ولم يعرفوا معناها . أ ه .

إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)


( إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ ) يقول: ما كلّ هؤلاء الأمم إلا كذّب رسل الله; وهي في قراءة عبد الله كما ذكر لي: " إنْ كُلٌّ لَمَّا كَذَّبَ الرُّسُل فَحَقَّ عِقَابِ" يقول: فوجب عليهم عقاب الله إياهم.كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ) قال: هؤلاء كلهم قد كذبوا الرسل, فحقّ عليهم العذاب.

وَمَا يَنظُرُ هَٰٓؤُلَآءِ إِلَّا صَيْحَةً وَٰحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ (15)


القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)يقول تعالى ذكره: ( وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ ) المشركون بالله من قُريش ( إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً ) يعني بالصيحة الواحدة: النفخة الأولى في الصور ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يقول: ما لتلك الصيحة من فيقة, يعني من فتور ولا انقطاع.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً ) يعني: أمة محمد ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ )حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا المحاربي, عن إسماعيل بن رافع, عن يزيد بن زياد, عن رجل من الأنصار, عن محمد بن كعب القرظي, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " إنَّ الله لما فَرغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ خَلَقَ الصُّورَ, فَأَعْطَاهُ إسْرَافِيلَ, فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ شَاخِص بِبَصَرِهِ إلَى العَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ". قال أبو هريرة: يا رسول الله وما الصور؟ قال: " قَرْنٌ", قال: كيف هو؟ قال: " قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخَاتٍ: نَفْخَةُ الفَزَعِ الأولى, والثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ, والثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ القِيَامِ لِرَبّ العَالَمِينَ, يَأْمُرُ الله إسْرَافِيلَ بالنَّفْخَةِ الأولى, فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ, فَيَفْزَعُ أهْلُ السَّمَاوَاتِ وَأهْلُ الأرْضِ إلا مَنْ شَاءَ الله, وَيَأْمُرُهُ الله فَيُدِيمُهَا وَيُطَوِّلُهَا, فَلا يَفْتُرُ وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ الله ( مَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) . واختلف أهل التأويل في معنى قوله ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ )" فقال بعضهم: يعني بذلك: ما لتلك الصيحة من ارتداد ولا رجوع.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يقول: من ترداد.حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يقول: ما لها من رجعة.حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) قال: من رجوع.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يعني الساعة ما لها من رجوع ولا ارتداد.وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما لهؤلاء المشركين بعد ذلك إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يقول: ليس لهم بعدها إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا.وقال آخرون: الصيحة في هذا الموضع: العذاب. ومعنى الكلام: ما ينتظر هؤلاء المشركون إلا عذابا يهلكهم, لا إفاقة لهم منه.* ذكر من قال ذلك:حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) قال: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ما لها من فواق, يا لها من صيحة لا يفيقون فيها كما يفيق الذي يغشي عليها وكما يفيق المريض تهلكهم, ليس لهم فيها إفاقة.واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة ( مِنْ فَوَاقٍ ) بفتح الفاء. وقرأته عامة أهل الكوفة: " مِنْ فُوَاقٍ" بضم الفاء.واختلفت أهل العربية في معناها إذا قُرئت بفتح الفاء وضمها, فقال بعض البصريين منهم: معناها, إذا فتحت الفاء: ما لها من راحة, وإذا ضمت جعلها فُواق ناقة ما بين الحلبتين. وكان بعض الكوفيين منهم يقول: معنى الفتح والضم فيها واحد, وإنما هما لغتان مثل السَّوَاف والسُّواف, وجَمام المكوك وجُمامه, وقَصاص الشعر وقُصاصه.والصواب من القول في ذلك أنهما لغتان, وذلك أنا لم نجد أحدا من المتقدمين على اختلافهم في قراءته يفرّقون بين معنى الضمّ فيه والفتح, ولو كان مختلف المعنى باختلاف الفتح فيه والضم, لقد كانوا فرقوا بين ذلك في المعنى. فإذ كان ذلك كذلك, فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب; وأصل ذلك من قولهم: أفاقت الناقة, فهي تفيق إفاقة, وذلك إذا ردت ما بين الرضعتين ولدها إلى الرضعة الأخرى, وذلك أن ترضع البهيمة أمها, ثم تتركها حتى ينزل شيء من اللبن, فتلك الإفاقة; يقال إذا اجتمع ذلك في الضرع فيقة, كما قال الأعشى:حَتَّى إذَا فِيْقَةٌ فِي ضَرْعِها اجْتَمَعَتْجاءَتْ لِتُرْضِعَ شِقَّ النَّفْسِ لوْ رَضَعا (10)-------------------------الهوامش :(10) البيت في ديوان الأعشى ميمون بن قيس ص 13 وهو الثالث والثلاثون من قصيدة يمدح بها هوذة بن علي الحنفي . والفيقة : اللبن الذي يجتمع في الضرع بين الحلبتين . وشق الشيء : شطره ، والقطعة منه ، وشق النفس : ولدها ، لأنه قطعة منها . ويقول : حتى إذا اجتمع اللبن في ضرعها ، عادت ترضع ولدها ، لو أنه حي يرضع . والضمير في ضرعها : راجع إلى راحلته المذكورة قبل . واستشهد المؤلف بالبيت على معنى قوله تعالى :"ما لها من فواق" . قال أبو عبيدة ( 213 - 1) من فتحها قال : ما لها من راحة . ومن ضمها قال فواق ، وجعلها من" فواق ناقة" : ما بين الحلبتين . وقوم قالوا : هما واحد . بمنزلة جمام المكوك وجمام المكوك ، وقصاص الشعر وقصاص الشعر (الأول بضم أوله ، والثاني بفتحه فيهن) . أ ه . وقال الفراء في معاني القرآن (الورقة 277) :" ما لها من فواق" : من راحة ولا إفاقة . وأصله من الإفاقة في الرضاع ، إذا ارتضعت البهيمة أمها ، ثم تركتها حتى تنزل شيئا من اللبن ، فتلك الإفاقة والفواق بغير همز . وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" العيادة قدر فواق ناقة" . وقرأها الحسن ، وأهل المدينة ، وعاصم : فواق بالفتح ؛ وهي لغة جيدة عالية . وضم حمزة ، ويحيي ، والأعمش ، والكسائي . أ ه.

وَقَالُوا۟ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ (16)


وقوله ( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون بالله من قريش: يا ربنا عجل لنا كتبنا قبل يوم القيامة. والقطّ في كلام العرب: الصحيفة المكتوبة; ومنه قول الأعشى:وَلا المَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيتُهُبِنِعْمَتِهِ يُعْطِي القُطُوطَ وَيأْفِقُ (11)يعني بالقُطوط: جمع القط, وهي الكتب بالجوائز.واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أراد هؤلاء المشركون بمسألتهم تعجيل القطّ لهم, فقال بعضهم: إنما سألوا ربهم تعجيل حظهم من العذاب الذي أعد لهم في الآخرة في الدنيا, كما قال بعضهم: إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ .* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) يقول: العذاب.حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) قال: سألوا الله أن يعجل لهم العذاب قبل يوم القيامة.حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزّة, عن مجاهد, في قوله ( لَنَا قِطَّنَا ) قال: عذابنا.حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) قال: عذابنا.حدثني بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) أي نصيبنا حظنا من العذاب قبل يوم القيامة, قال: قد قال ذلك أبو جهل: اللهمّ إن كان ما يقول محمد حقا فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ... الآية.وقال آخرون: بل إنما سألوا ربهم تعجيل أنصبائهم ومنازلهم من الجنة حتى يروها فيعلموا حقيقة ما يعدهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيؤمنوا حينئذ به ويصدّقوه.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله ( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) قالوا: أرنا منازلنا في الجنة حتى نتابعك.وقال آخرون: مسألتهم نصيبهم من الجنة, ولكنهم سألوا تعجيله لهم في الدنيا.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن ثابت الحدّاد, قال: سمعت سعيد بن جُبَير يقول في قوله ( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) قال: نصيبنا من الجنة.وقال آخرون: بل سألوا ربهم تعجيل الرزق.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمر بن عليّ, قال: ثنا أشعث السجستاني, قال: ثنا شعبة, عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله ( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) قال: رزقنا.وقال آخرون: سألوا أن يعجل لهم كتبهم التي قال قال الله فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ في الدنيا, لينظروا بأيمانهم يعطونها أم بشمائلهم؟ ولينظروا من أهل الجنة هم, أم من أهل النار قبل يوم القيامة استهزاء منهم بالقرآن وبوعد الله.وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن القوم سألوا ربهم تعجيل صِكاكهم بحظوظهم من الخير أو الشر الذي وعد الله عباده أن يؤتيهموها في الآخرة قبل يوم القيامة في الدنيا استهزاء بوعيد الله.وإنما قلنا إن ذلك كذلك, لأن القطّ هو ما وصفت من الكتب بالجوائز والحظوظ, وقد أخبر الله عن هؤلاء المشركين أنهم سألوه تعجيل ذلك لهم, ثم أتبع ذلك قوله لنبيه: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ فكان معلوما بذلك أن مسألتهم ما سألوا النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لو لم تكن على وجه الاستهزاء منهم لم يكن بالذي يتبع الأمر بالصبر عليه, ولكن لما كان ذلك استهزاء, وكان فيه لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أذى, أمره الله بالصبر عليه حتى يأتيه قضاؤه فيهم, ولما لم يكن في قوله ( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) بيان أيّ القطوط إرادتهم, لم يكن لما توجيه ذلك إلى أنه معني به القطوط ببعض معاني الخير أو الشرّ, فلذلك قلنا إن مسألتهم كانت بما ذكرت من حظوظهم من الخير والشر.------------------------الهوامش:(11) البيت للأعمش ميمون بن قيس (ديوان طبع القاهرة ص 33) من قصيدة يمدح بها المحلق بن خنثم بن شداد بن ربيعة. وفيه"بأمته" في مكان"بنعمته" . والقطوط : جمع قط بكسر القاف ، وهو الصك بالجائزة ، ويأفق كيضرب يفضل بعض الناس في الجوائز على بعض وهو من شواهد أبي عبيدة في (مجاز القرآن ، الورقة 2131) قال في قوله تعالى :" ربنا عجل لنا قطنا" القط : الكتاب قال الأعشى :"ولا الملك" البيت القطوط : الكتب بالجوائز يأفق يفضل ويعلو . يقال : ناقة أفقة ، وفرس آفق إذا فضله على غيره.

الصفحة التالية