تفسير سورة ص - تفسير الطبري الصفحة رقم 458 من القرآن الكريم
تفسير الصفحة رقم 458 من المصحف
قَالَ فَٱلْحَقُّ وَٱلْحَقَّ أَقُولُ (84)
القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)اختلفت القرّاء في قراءة قوله ( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) فقرأه بعض أهل الحجاز وعامة الكوفيين برفع الحقّ الأوّل, ونصب الثاني. وفي رفع الحقّ الأول إذا قرئ كذلك وجهان: أحدهما رفعه بضمير لله الحق, أو أنا الحق وأقول الحق.
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
والثاني: أن يكون مرفوعا بتأويل قوله ( لأمْلأنَّ ) فيكون معنى الكلام حينئذ: فالحق أن أملأ جهنم منك, كما يقول: عزمة صادقة لآتينك, فرفع عزمة بتأويل لآتينك, لأن تأويله أن آتيك, كما قال: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ فلا بدّ لقوله بَدَا لَهُمْ من مرفوع, وهو مضمر في المعنى. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض المكيين والكوفيين بنصب الحقّ الأوّل والثاني كليهما, بمعنى: حقا لأملأن جهنم والحقّ أقول, ثم أدخلت الألف واللام عليه, وهو منصوب, لأن دخولهما إذا كان كذلك معنى الكلام وخروجهما منه سواء, كما سواء قولهم: حمدا لله, والحمد لله عندهم إذا نصب. وقد يحتمل أن يكون نصبه على وجه الإغراء بمعنى: الزموا الحقّ, واتبعوا الحقّ, والأوّل أشبه لأنه خطاب من الله لإبليس بما هو فاعل به وبتُبَّاعه.وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار, فبأيتهما قرأ القاريّ فمصيب, لصحة معنييهما.وأما الحقّ الثاني, فلا اختلاف في نصبه بين قرّاء الأمصار كلهم, بمعنى: وأقول الحق.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن الأعمش, عن مجاهد, في قوله ( فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) يقول الله: أنا الحقُّ, والحقَّ أقول.وحُدثت عن ابن أبي زائدة, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد ( فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) يقول الله: الحقُّ مني, وأقول الحقَّ.حدثنا أحمد بن يوسف, قال: ثنا القاسم, قال: ثنا حجاج, عن هارون, قال: ثنا أبان بن تغلب, عن طلحة اليامي, عن مجاهد, أنه قرأها( فَالحَقُّ ) بالرفع ( وَالْحَقَّ أَقُولُ ) نصبا وقال: يقول الله: أنا الحق, والحق أقول.حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله ( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) قال: قسم أقسم الله به.وقوله ( لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ) يقول لإبليس: لأملأن جهنم منك وممن تبعك من بني آدم أجمعين.
قُلْ مَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ (86)
وقوله ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك, القائلين لك أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا : ما أسألكم على هذا الذكر وهو القرآن الذي أتيتكم به من عند الله أجرًا, يعني ثوابًا وجزاء ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) يقول: وما أنا ممن يتكلف تخرصه وافتراءه, فتقولون: إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ و إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ .كما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) قال: لا أسألكم على القرآن أجرا تعطوني شيئا, وما أنا من المتكلفين أتخرّص وأتكلف ما لم يأمرني الله به.
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَٰلَمِينَ (87)
القول في تأويل قوله تعالى : إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87)يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء المشركين من قومك: ( إِنْ هُوَ ) يعني: ما هذا القرآن ( إِلا ذِكْرٌ ) يقول: إلا تذكير من الله ( لِلْعَالَمِينَ ) من الجنّ والإنس, ذكرهم ربهم إرادة استنقاذ من آمن به منهم من الهَلَكة.
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُۥ بَعْدَ حِينٍۭ (88)
وقوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) يقول: ولتعلمن أيها المشركون بالله من قريش نبأه, يعني: نبأ هذا القرآن, وهو خبره, يعني حقيقة ما فيه من الوعد والوعيد بعد حين.وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ ) قال: صدق هذا الحديث نبأ ما كذّبوا به., قيل: ( نَبَأَهُ ) حقيقة أمر محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه نبيّ.ثم اختلفوا في مدة الحين الذي ذكره الله في هذا الموضع: ما هي, وما نهايتها؟ فقال بعضهم: نهايتها الموت.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) : أي بعد الموت; وقال الحسن: يابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.وقال بعضهم: كانت نهايتها إلى يوم بدر.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) قال: يوم بدر.وقال بعضهم: يوم القيامة. وقال بعضهم: نهايتها القيامة.* ذكر من قال ذلك:حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) قال: يوم القيامة يعلمون نبأ ما كذبوا به بعد حين من الدنيا وهو يوم القيامة. وقرأ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قال: وهذا أيضا الآخرة يستقرّ فيها الحقّ, ويبطل الباطل.وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أعلم المشركين المكذبين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين من غير حد منه لذلك الحين بحد, وقد علم نبأه من أحيائهم الذين عاشوا إلى ظهور حقيقته, ووضوح صحته في الدنيا, ومنهم من علم حقيقة ذلك بهلاكه ببدر, وقبل ذلك, ولا حد عند العرب للحين, لا يُجاوز ولا يقصر عنه. فإذ كان ذلك كذلك فلا قول فيه أصح من أن يطلق كما أطلقه الله من غير حصر ذلك على وقت دون وقت.وبنحو الذين قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني يعقوب ابن إبراهيم, قال: ثنا ابن عُلَية, قال: ثنا أيوب, قال: قال عكرمة: سُئِلْت عن رجل حلف أن لا يصنع كذا وكذا إلى حين, فقلت: إن من الحين حينا لا يُدرك, ومن الحين حين يدرك, فالحين الذي لا يُدرك قوله ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) والحين الذي يدرك قوله تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وذلك من حين تُصْرَم النخلة إلى حين تُطْلِع, وذلك ستة أشهر.آخر تفسير سورة ص