تفسير سورة فصلت الصفحة 480 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 480 من المصحف


إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَٰمُوا۟ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا۟ وَلَا تَحْزَنُوا۟ وَأَبْشِرُوا۟ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30)


القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)يقول تعالى ذكره: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) وحده لا شريك له, وبرئوا من الآلهة والأنداد,( ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) على توحيد الله, ولم يخلطوا توحيد الله بشرك غيره به, وانتهوا إلى طاعته فيما أمر ونهى.وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبر عن رسوله الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وقاله أهل التأويل على اختلاف منهم, في معنى قوله: ( ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) ذُكر الخبر بذلك عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.حدثنا عمرو بن عليّ, قال: ثنا سالم بن قتيبة أبو قتيبة, قال: ثنا سهيل بن أبي حزم القطعي, عن ثابت البناني, عن أنس بن مالك, أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قرأ: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال: " قد قالها الناس, ثم كفر أكثرهم, فمن مات عليها فهو ممن استقام ".وقال بعضهم: معناه: ولم يشركوا به شيئا. ولكن تموا على التوحيد.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار. قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن عامر بن سعد, عن سعيد بن عمران, قال: قد قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال: هم الذين لم يشركوا بالله شيئا.حدثنا ابن وكيع. قال: ثنا أبي, عن سفيان بإسناده, عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه, مثله.قال ثنا جرير بن عبد الحميد. وعبد الله بن إدريس عن الشيباني, عن أبي بكر بن أبي موسى, عن الأسود بن هلال, عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لأصحابه ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال: قالوا: ربنا الله ثم عملوا بها, قال: لقد حملتموها على غير المحمل ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) الذين لم يعدلوها بشرك ولا غيره.حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا ثنا إدريس, قال: أخبرنا الشيباني, عن أبي بكر بن أبي موسى, عن الأسود بن هلال المحاربي, قال: قال أبو بكر: ما تقولون في هذه الآية: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال: ربنا الله ثم استقاموا من ذنب, قال: فقال أبو بكر: لقد حملتم على غير المحمل, قالوا: ربنا الله ثم استقاموا فلم يلتفتوا إلى إله غيره.حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن ليث, عن مجاهد ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال: أي على: لا إله إلا الله.قال: ثنا حكام عن عمرو, عن منصور, عن مجاهد ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال: أسلموا ثم لم يشركوا به حتى لحقوا به.قال: ثنا حكام عن عمرو, عن منصور, عن مجاهد, قوله ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال: أسلموا ثم لم يشركوا به حتى لحقوا به.قال: ثنا حكام, قال: ثنا عمرو, عن منصور, عن جامع بن شداد, عن الأسود بن هلال مثل ذلك.حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال: تموا على ذلك.حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: ثنا حفص بن عمر, قال: ثنا الحكم بن أبان, عن عكرمة قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله.وقال آخرون: معنى ذلك: ثم استقاموا على طاعته.* ذكر من قال ذلك:حدثنا أحمد بن منيع, قال: ثنا عبد الله بن المبارك, قال: ثنا يونس بن يزيد عن الزهري, قال: تلا عمر رضي الله عنه على المنبر: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال: استقاموا والله بطاعته, ولم يروغوا روغان الثعلب.حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال استقاموا على طاعة الله. وكان الحسن إذا تلاها قال: اللهمَّ فأنت ربنا فارزقنا الاستقامة.حدثني عليّ, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) يقول: على أداء فرائضه.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال: على عبادة الله وعلى طاعته.وقوله: ( تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) يقول: تتهبط عليهم الملائكة عند نزول الموت بهم.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزّة, عن مجاهد, في قوله: ( تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ) قال: عند الموت.حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) قال: عند الموت.وقوله: ( أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ) يقول: تتنزل عليهم الملائكة بأن لا تخافوا ولا تحزنوا; فإن في موضع نصب إذا كان ذلك معناه.وقد ذُكر عن عبد الله أنه كان يقرأ ذلك " تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا " بمعنى: تتنزل عليهم قائلة: لا تخافوا, ولا تحزنوا. وعنى بقوله: ( أَلا تَخَافُوا ) ما تقدمون عليه من بعد مماتكم ( وَلا تَحْزَنُوا ) على ما تخلفونه وراءكم.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ) قال لا تخافوا ما أمامكم, ولا تحزنوا على ما بعدكم.حدثني يونس, قال: أخبرنا يحيى بن حسان, عن مسلم بن خالد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ) قال: لا تخافوا ما تقدمون عليه من أمر الآخرة, ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم من أهل وولد, فإنا نخلفكم في ذلك كله.وقيل: إن ذلك في الآخرة.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّة ) فذلك في الآخرة.وقوله: ( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) يقول: وسروا بأن لكم في الآخرة الجنة التي كنتم توعدونها في الدنيا على إيمانكم بالله, واستقامتكم على طاعته.كما حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) في الدنيا.

نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلْءَاخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِىٓ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)


القول في تأويل قوله تعالى : نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل ملائكته التي تتنزل على هؤلاء المؤمنين الذين استقاموا على طاعته عند موتهم: ( نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ ) أيها القوم ( فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) كنا نتولاكم فيها; وذكر أنهم الحفظة الذين كانوا يكتبون أعمالهم.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا, ونحن أولياؤكم في الآخرة.وقوله: ( وَفِي الآخِرَةِ ) يقول: وفي الآخرة أيضا نحن أولياؤكم, كما كنا لكم في الدنيا أولياء, يقول: ولكم في الآخرة عند الله ما تشتهي أنفسكم من اللّذات والشهوات.وقوله: ( وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ) يقول: ولكم في الآخرة ما تدّعون.

نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (32)


وقوله: ( نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) يقول: أعطاكم ذلك ربكم نزلا لكم من ربّ غفور لذنوبكم, رحيم بكم أن يعاقبكم بعد توبتكم; ونصب نزلا على المصدر من معنى قوله: ( وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ) لأن في ذلك تأويل أنزلكم ربكم بما يشتهون من النعيم نزلا.

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ (33)


القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)يقول تعالى ذكره: ومن أحسن أيها الناس قولا ممن قال ربنا الله ثم استقام على الإيمان به, والانتهاء إلى أمره ونهيه, ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من ذلك.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: ثنا محمد بن ثور, عن معمر, قال: تلا الحسن: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) قال: هذا حبيب الله, هذا وليّ الله, هذا صفوة الله, هذا خيرة الله, هذا أحبّ الخلق إلى الله, أجاب الله في دعوته, ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته, وعمل صالحا في إجابته, وقال: إنني من المسلمين, فهذا خليفة الله.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ )... الآية, قال: هذا عبد صدّق قولَه عملُه, ومولَجه مخرجُه, وسرَّه علانيته, وشاهده مغيبه, وإن المنافق عبد خالف قوله عمله, ومولجه مخرجه, وسرَّه علانيته, وشاهده مغيبه.واختلف أهل العلم في الذي أريد بهذه الصفة من الناس, فقال بعضهم: عني بها نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ) قال: محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين دعا إلى الإسلام.حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) قال: هذا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. وقال آخرون: عُني به المؤذّن.* ذكر من قال ذلك:حدثني داود بن سليمان بن يزيد المكتب البصري, قال: ثنا عمرو بن جرير البجلي, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن قيس بن أبي حازم, في قول الله: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ) قال: المؤذن ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) قال: الصلاة ما بين الأذان إلى الإقامة.وقوله: ( وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) يقول: وقال: إنني ممن خضع لله بالطاعة, وذل له بالعبودة, وخشع له بالإيمان بوحدانيته.

وَلَا تَسْتَوِى ٱلْحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُۥ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُۥ وَلِىٌّ حَمِيمٌ (34)


وقوله: ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ) يقول تعالى ذكره: ولا تستوي حسنة الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا, فأحسنوا في قولهم, وإجابتهم وبهم إلى ما دعاهم إليه من طاعته, ودعوا عباد الله إلى مثل الذي أجابوا ربهم إليه, وسيئة الذين قالوا: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فكذلك لا تستوي عند الله أحوالهم ومنازلهم, ولكنها تختلف كما وصف جلّ ثناؤه أنه خالف بينهما, وقال جلّ ثناؤه: ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ) فكرر لا والمعنى: لا تستوي الحسنة ولا السيئة, لأن كلّ ما كان غير مساو شيئا, فالشيء الذي هو له غير مساو غير مساويه, كما أن كل ما كان مساويا لشيء فالآخر الذي هو له مساو, مساو له, فيقال: فلان مساو فلانا, وفلان له مساو, فكذلك فلان ليس مساويا لفلان, لا فلان مساويا له, فلذلك كرّرت لا مع السيئة, ولو لم تكن مكرّرة معها كان الكلام صحيحا. وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: يجوز أن يقال: الثانية زائدة; يريد: لا يستوي عبد الله وزيد, فزيدت لا توكيدا, كما قال لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ أي لأن يعلم, وكما قال: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ . وقد كان بعضهم ينكر قوله هذا في: لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ , وفي قوله: لا أُقْسِمُ فيقول: لا الثانية في قوله: لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أن لا يقدرون ردّت إلى موضعها, لأن النفي إنما لحق يقدرون لا العلم, كما يقال: لا أظنّ زيدا لا يقوم, بمعنى: أظن زيدا لا يقوم; قال: وربما استوثقوا فجاءوا به أوّلا وآخرا, وربما اكتفوا بالأول من الثاني.وحُكي سماعا من العرب: ما كأني أعرفها: أي كأني لا أعرفها. قال: وأما " لا " في قوله لا أُقْسِمُ فإنما هو جواب, والقسم بعدها مستأنف, ولا يكون حرف الجحد مبتدأ صلة.وإنما عنى يقوله.( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَة ) ولا يستوي الإيمان بالله والعمل بطاعته والشرك به والعمل بمعصيته.وقوله: ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ادفع يا محمد بحلمك جهل من جهل عليك, وبعفوك عمن أساء إليك إساءة المسيء, وبصبرك عليهم مكروه ما تجد منهم, ويلقاك من قِبلهم.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في تأويله.* ذكر من قال ذلك.حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب, والحلم والعفو عند الإساءة, فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان, وخضع لهم عدوُّهم, كأنه وليّ حميم.وقال آخرون: معنى ذلك: ادفع بالسلام على من أساء إليك إساءته.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن بشار, قال: ثنا أبو عامر, قال: ثنا سفيان, عن طلحة بن عمرو, عن عطاء ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال: بالسلام.حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: ثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عبد الكريم الجزري, عن مجاهد ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال: السلام عليك إذا لقيته.وقوله: ( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) يقول تعالى ذكره: افعل هذا الذي أمرتك به يا محمد من دفع سيئة المسيء إليك بإحسانك الذي أمرتك به إليه, فيصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة, كأنه من ملاطفته إياك. وبرّه لك, وليّ لك من بني أعمامك, قريب النسب بك, والحميم: هو القريب.كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد. قال: ثنا سعيد, , عن قتادة ( كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) : أي كأنه وليّ قريب.

وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلَّذِينَ صَبَرُوا۟ وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)


القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)يقول تعالى ذكره: وما يعطى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا لله على المكاره, والأمور الشاقة; وقال: ( وَمَا يُلَقَّاهَا ) ولم يقل: وما يلقاه, لأن معنى الكلام: وما يلقى هذه الفعلة من دفع السيئة بالتي هي أحسن.وقوله: ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ). يقول: وما يلقى هذه إلا ذو نصيب وجدّ له سابق في المبرات عظيم.كما حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) : ذو جدّ.وقيل: إن ذلك الحظ الذي أخبر الله جلّ ثناؤه في هذه الآية أنه لهؤلاء القوم هو الجنة.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا )... الآية. والحظّ العظيم: الجنة. ذكر لنا أن أبا بكر رضي الله عنه شتمه رجل ونبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم شاهد, فعفا عنه ساعة, ثم إن أبا بكر جاش به الغضب, فردّ عليه, فقام النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فاتبعه أبو بكر, فقال يا رسول الله شتمني الرجل, فعفوت وصفحت وأنت قاعد, فلما أخذت أنتصر قمت يا نبيّ الله, فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " إنَّهُ كانَ يَرُدُّ عَنْكَ مَلَكٌ من المَلائكَةِ, فَلَمَّا قَرُبْتَ تَنْتَصِرُ ذَهَبَ المَلَكُ وَجاءَ الشَّيْطانُ, فَوَاللهِ ما كُنْتُ لأجالِسَ الشَّيْطانَ يا أبا بَكْرٍ".حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) يقول: الذين أعدّ الله لهم الجنة.

وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ (36)


وقوله: ( وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ )... الآية, يقول تعالى ذكره: وإما يلقين الشيطان يا محمد في نفسك وسوسة من حديث النفس إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة, ودعائك إلى مساءته, فاستجر بالله واعتصم من خطواته, إن الله هو السميع لاستعاذتك منه واستجارتك به من نزغاته, ولغير ذلك من كلامك وكلام غيرك, العليم بما ألقى في نفسك من نزغاته, وحدثتك به نفسك ومما يذهب ذلك من قبلك, وغير ذلك من أمورك وأمور خلقه.كما حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ ) قال: وسوسة وحديث النفس ( فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ).حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد ( وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ ) هذا الغضب.

وَمِنْ ءَايَٰتِهِ ٱلَّيْلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا۟ لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُوا۟ لِلَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)


القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)يقول تعالى ذكره: ومن حجج الله تعالى على خلقه ودلالته على وحدانيته, وعظيم سلطانه, اختلاف الليل والنهار, ومعاقبة كلّ واحد منهما صاحبه, والشمس والقمر, لا الشمس تدرك القمر وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فلك يسبحون لا تسجدوا أيها الناس للشمس ولا للقمر, فإنهما وإن جريا في الفلك بمنافعكم, فإنما يجريان به لكم بإجراء الله إياهما لكم طائعين له في جريهما ومسيرهما, لا بأنهما يقدران بأنفسهما على سير وجري دون إجراء الله إياهما وتسييرهما, أو يستطيعان لكم نفعا أو ضرّا, وإنما الله مسخرهما لكم لمنافعكم ومصالحكم, فله فاسجدوا, وإياه فاعبدوا دونها, فإنه إن شاء طمس ضوءهما, فترككم حيارى في ظلمة لا تهتدون سبيلا ولا تبصرون شيئا. وقيل: ( وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ) فجمع بالهاء والنون, لأن المراد من الكلام: واسجدوا لله الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر, وذلك جمع, وأنث كنايتهن, وإن كان من شأن العرب إذا جمعوا الذكر إلى الأنثى أن يخرجوا كنايتهما بلفظ كناية المذكر فيقولوا: أخواك وأختاك كلموني, ولا يقولوا: كلمنني, لأن من شأنهم أن يؤنثوا أخبار الذكور من غير بني آدم في الجمع, فيقولوا: رأيت مع عمرو أثوابا فأخذتهن منه. وأعجبني خواتيم لزيد قبضتهنّ منه.وقوله: ( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) يقول: إن كنتم تعبدون الله, وتذلون له بالطاعة; وإن من طاعته أن تخلصوا له العبادة, ولا تشركوا في طاعتكم إياه وعبادتكموه شيئا سواه, فإن العبادة لا تصلح لغيره ولا تنبغي لشيء سواه.

فَإِنِ ٱسْتَكْبَرُوا۟ فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُۥ بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْـَٔمُونَ (38)


القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38)يقول تعالى ذكره: فإن استكبر يا محمد هؤلاء الذين أنت بين أظهرهم من مشركي قريش, وتعظموا عن أن يسجدوا لله الذي خلقهم وخلق الشمس والقمر, فإن الملائكة الذين عند ربك لا يستكبرون عن ذلك, ولا يتعظمون عنه, بل يسبحون له, ويصلون ليلا ونهارًا,( وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ) يقول وهم لا يفترون عن عبادتهم, ولا يملون الصلاة له.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي. عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) قال: يعني محمدا, يقول: عبادي, ملائكة صافون يسبحون ولا يستكبرون.

الصفحة السابقة الصفحة التالية