تفسير سورة النساء الصفحة 88 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 88 من المصحف


أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا۟ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓا۟ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوٓا۟ أَن يَكْفُرُوا۟ بِهِۦ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَٰلًۢا بَعِيدًا (60)


القول في تأويل قوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا (60)قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: " ألم تر "، يا محمد، بقلبك، فتعلم = إلى الذين يزعمون أنهم صدقوا بما أنزل إليك من الكتاب، وإلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبلك من الكتب، يريدون أن يتحاكموا في خصومتهم إلى الطاغوت = يعني إلى: من يعظمونه، ويصدرون عن قوله، ويرضون بحكمه من دون حكم الله، (1) =" وقد أمروا أن يكفروا به "، يقول: وقد أمرهم الله أن يكذبوا بما جاءهم به الطاغوتُ الذي يتحاكون إليه، فتركوا أمرَ الله واتبعوا أمر الشيطان =" ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا "، يعني: أن الشيطان يريد أن يصدَّ هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت عن سبيل الحق والهدى، فيضلهم عنها ضلالا بعيدًا = يعني: فيجور بهم عنها جورًا شديدًا (2) .* * *وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين دعا رجلا من اليهود في خصومة كانت بينهما إلى بعض الكهَّان، ليحكم بينهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهُرهم.*ذكر من قال ذلك:9891 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت "، قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود، لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين، لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة. فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جُهَيْنة، فأنزل الله فيه هذه الآية: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك " حتى بلغ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .9892 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك "، فذكر نحوه = وزاد فيه: فأنزل الله: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك "، يعني المنافقين =" وما أنزل من قبلك "، يعني اليهود =" يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت "، يقول: إلى الكاهن =" وقد أمروا أن يكفروا به "، أمر هذا في كتابه، وأمر هذا في كتابه، أن يكفر بالكاهن.9893 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال: كانت بين رجل ممن يزعم أنه مسلم، وبين رجل من اليهود، خصومة، فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك = أو قال: إلى النبي = لأنه قد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ الرشوة في الحكم، فاختلفا، فاتفقا على أن يأتيا كاهنًا في جهينة، قال: فنزلت: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك "، يعنى: الذي من الأنصار =" وما أنزل من قبلك "، يعني: اليهوديّ (3) " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت "، إلى الكاهن =" وقد أمروا أن يكفروا به "، يعني: أمر هذا في كتابه، وأمر هذا في كتابه. وتلا " ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا "، وقرأ: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ إلى وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .9894 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم حضرميٌّ أن رجلا من اليهود كان قد أسلم، فكانت بينه وبين رجل من اليهود مدارأة في حق، (4) فقال اليهودي له: انطلق إلى نبي الله. فعرف أنه سيقضي عليه. قال: فأبى، فانطلقا إلى رجل من الكهان فتحاكما إليه. قال الله: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ".9895 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك "، الآية، حتى بلغ " ضلالا بعيدًا "، ذُكر لنا أن هذه الآية نزلت في رجلين: رجل من الأنصار يقال له " بشر "، وفي رجل من اليهود، في مدارأة كانت بينهما في حق، فتدارءا بينهما، فتنافرا إلى كاهن بالمدينة يحكم بينهما، وتركا نبي الله صلى الله عليه وسلم. فعاب الله عز وجل ذلك = وذُكر لنا أن اليهودي كان يدعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وقد علم أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لن يجور عليه. فجعل الأنصاري يأبى عليه وهو يزعم أنه مسلم، ويدعوه إلى الكاهن، فأنزل الله تبارك وتعالى ما تسمعون، فعابَ ذلك على الذي يزعم أنه مسلم، وعلى اليهودي الذي هو من أهل الكتاب، فقال: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك " إلى قوله: صُدُودًا .9896 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت "، قال: كان ناس من اليهود قد أسلموا ونافق بعضهم. وكانت قُرَيظة والنَّضير في الجاهلية، إذا قُتِل الرجل من بني النضير قتلته بنو قريظة، قتلوا به منهم. فإذا قُتِل الرجل من بني قريظة قتلته النضير، أعطوْا ديتَه ستين وَسْقًا من تمر. (5) فلما أسلم ناس من بني قريظة والنضير، قتل رجلٌ من بني النضير رجلا من بني قريظة، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النضيري: يا رسول الله، إنا كنا نعطيهم في الجاهلية الدية، فنحن نعطيهم اليوم ذلك. فقالت قريظة: لا ولكنا إخوانكم في النسب والدين، ودماؤنا مثل دمائكم، ولكنكم كنتم تغلبوننا في الجاهلية، فقد جاء الله بالإسلام! فأنزل الله يُعَيِّرهم بما فعلوا فقال: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [سورة المائدة: 45]، فعيَّرهم، ثم ذكر قول النضيري: " كنا نعطيهم في الجاهلية ستين وسقًا، ونقتل منهم ولا يقتلونا "، فقال أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [سورة المائدة: 50]. وأخذ النضيري فقتله بصاحبه، فتفاخرت النضير وقريظة، فقالت النضير: نحن أكرم منكم! وقالت قريظة: نحن أكرم منكم! ودخلوا المدينة إلى أبي بُرْدة، (6) الكاهن الأسلمي، فقال المنافق من قريظة والنضير: انطلقوا إلى أبي بردَة ينفِّر بيننا! (7) وقال المسلمون من قريظة والنضير: لا بل النبي صلى الله عليه وسلم يُنفِّر بيننا، فتعالوا إليه! فأبى المنافقون، وانطلقوا إلى أبي بردة فسألوه، (8) فقال: أعظِموا اللُّقمة = يقول: أعظِموا الخَطَر (9) = فقالوا: لك عشرة أوساق. قال: لا بل مئة وسْق، ديتي، (10) فإني أخاف أن أنفِّر النضير فتقتلني قريظة، أو أنفِّر قريظة فتقتلني النضير! فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوساق، وأبى أن يحكم بينهم، فأنزل الله عز وجل: " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " = وهو أبو بردة (11) =" وقد أمروا أن يكفروا به " إلى قوله: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .* * *وقال آخرون: " الطاغوت "، في هذا الموضع، هو كعب بن الأشرف.*ذكر من قال ذلك:9897 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به "، و " الطاغوت " رجل من اليهود كان يقال له: كعب بن الأشرف، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا، بل نحاكمكم إلى كعب! فذلك قوله: " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت "، الآية.9798 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك "، قال: تنازع رجلٌ من المنافقين ورجلٌ من اليهود، فقال المنافق: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف. وقال اليهودي: اذهب بنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال الله تبارك وتعالى: " ألم تر إلى الذين يزعمون " الآية، والتي تليها فيهم أيضًا. (12)9899 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك "، فذكر مثله = إلا أنه قال: وقال اليهودي: اذهب بنا إلى محمد.9900 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " إلى قوله: " ضلالا بعيدًا "، قال: كان رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بينهما خصومة، أحدهم مؤمن والآخر منافق، فدعاه المؤمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، فأنزل الله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا .9901 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت "، قال: تنازع رجل من المؤمنين ورجل من اليهود، فقال اليهودي: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف. وقال المؤمن: اذهب بنا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال الله: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك " إلى قوله: " صُدُودًا " = قال ابن جريج: " يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك "، قال: القرآن =" وما أنزل من قبلك "، قال: التوراة. قال: يكون بين المسلم والمنافق الحق، فيدعوه المسلم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليحاكمه إليه، فيأبى المنافق ويدعوه إلى الطاغوت = قال ابن جريج: قال مجاهد: " الطاغوت "، كعب بن الأشرف.9902 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت "، هو كعب بن الأشرف.* * *وقد بينا معنى: " الطاغوت " في غير هذا الموضع، فكرهنا إعادته. (13)------------------الهوامش :(1) انظر تفسير"الطاغوت" فيما سلف 5: 416 - 419 / 8: 461 - 465.(2) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف: 8 : 428 ، تعليق: 4 ، والمراجع هناك.(3) في المخطوطة: "اليهود".(4) المدرأة: المدافعة والخصومة.(5) "الوسق" مكيلة معلومة في زمانهم ، كانت تبلغ حمل بعير.(6) في المطبوعة: "أبو برزة الأسلمي" وهو خطأ محض ، والصواب ما كان في المخطوطة ، فإن أبا برزة الأسلمي - نضلة بن عبيد - فهو صحابي جليل ، و"برزة" بفتح الباء بعدها راء ساكنة بعدها زاي. وأما "أبو بردة" فهو بالباء المضمومة بعدها راء ساكنة بعدها دال.وذكر الثعلبي في تفسيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبا بردة الأسلمي إلى الإسلام ، فأبى ، ثم كلمه ابناه في ذلك ، فأجاب إليه وأسلم. وقال الحافظ ابن حجر: "وعند الطبراني بسند جيد عن ابن عباس قال: كان أبو بردة الأسلمي كاهنًا يقضي بين اليهود ، فذكر القصة في نزول قوله تعالى: ألم تر إلى الذين يزعمون..." الإصابة في ترجمته. وذكر الهيثمي خبر ابن عباس في مجمع الزوائد 7: 6 ، وفيه أيضًا"أبو برزة الأسلمي" ، وهو خطأ ، وقال: "رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح". وكذلك رواه ابن كثير في تفسيره 2: 500 وفيه أيضًا"أبو برزة" وهو خطأ.(7) في المطبوعة هنا أيضًا"أبو برزة" ، وانظر التعليق السالف. ويقال: "نفر الحاكم أحد المتخاصمين على صاحبه تنفيرًا": أي قضى عليه بالغلبة. وهو من"المنافرة" وذلك أن يتفاخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه ، ثم يحكما بينهما رجلا ، يغلب أحدهما على الآخر.(8) في المطبوعة هنا مرة ثالثة: "أبو برزة".(9) "الخطر" هو المال الذي يجعل رهنًا بين المتراهنين ، وأراد به الجعل الذي يدفعه كل واحد من المتنافرين إلى الحكم. وسماه"اللقمة" مجازًا ، وهذا كله لم تقيده كتب اللغة ، ولم أجده في أخبار المنافرات. فيستفاد من هذا الخبر. أن الحكم في المنافرة كانوا يجعلون له جعلا يأخذه بعد استماعه للمنافرة ، وبعد الحكم.(10) "أوساق" جمع"وسق" ومضى تفسيره"الوسق" فيما سلف ص: 510 ، تعليق: 1.(11) في المطبوعة هنا مرة رابعة"أبو برزة".(12) في المخطوطة: "الآية التي تليها منهم فيهما أيضًا" ، ولا أدري ما هو ، وما في المطبوعة أقرب إلى الصواب.(13) انظر ما سلف: 507 والتعليق: 1 ، والمراجع هناك.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا۟ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61)


القول في تأويل قوله : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر، يا محمد، إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك من المنافقين، وإلى الذي يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبلك من أهل الكتاب، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت =" وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله "، يعني بذلك: " وإذا قيل لهم تعالوا "، هلُمُّوا إلى حكم الله الذي أنزله في كتابه، وإلى الرسول ليحكم بيننا (14) =" رأيت المنافقين يصدون عنك "، يعني بذلك: يمتنعون من المصير إليك لتحكم بينهم، ويمنعون من المصير إليك كذلك غيرهم =" صدودًا ". (15)* * *وقال ابن جريج في ذلك بما:-9903 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول "، قال: دعا المسلمُ المنافقَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم، قال: " رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا ".* * *= وأما على تأويل قول من جعل الدَّاعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديّ، والمدعوَّ إليه المنافق، على ما ذكرت من أقوال من قال ذلك في تأويل قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ = فإنه على ما بيَّنت قبل.------------------الهوامش :(14) انظر تفسير"تعالوا" فيما سلف 6: 474 ، 483 ، 485.(15) انظر تفسير"الصد" فيما سلف 4: 300 / 7: 53 / 8: 482.

فَكَيْفَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌۢ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلَّآ إِحْسَٰنًا وَتَوْفِيقًا (62)


القول في تأويل قوله : فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فكيف بهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك =" إذا أصابتهم مصيبة "، يعني: إذا نزلت بهم نقمة من الله =" بما قدمت أيديهم "، يعني: بذنوبهم التي سلفت منهم، (16) =" ثم جاؤوك يحلفون بالله "، يقول: ثم جاؤوك يحلفون بالله كذبًا وزورًا =" إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا ". وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين أنهم لا يردعهم عن النفاق العِبر والنِّقم، وأنهم إن تأتهم عقوبة من الله على تحاكمهم إلى الطاغوت لم ينيبوا ولم يتوبوا، (17) ولكنهم يحلفون بالله كذبًا وجرأة على الله: ما أردنا باحتكامنا إليه إلا الإحسان من بعضنا إلى بعض، والصوابَ فيما احتكمنا فيه إليه.--------------------الهوامش :(16) انظر تفسير"قدمت أيديهم" فيما سلف 2: 368 / 7: 447.(17) في المطبوعة والمخطوطة: "وأنهم وإن تأتهم" ، والأجود حذف الواو.

أُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِىٓ أَنفُسِهِمْ قَوْلًۢا بَلِيغًا (63)


القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا (63)قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " أولئك "، هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم =" يعلم الله ما في قلوبهم " في احتكامهم إلى الطاغوت، وتركهم الاحتكام إليك، وصدودهم عنك = من النفاق والزيغ، (18) وإن حلفوا بالله: ما أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا =" فأعرض عنهم وعظهم "، يقول: فدعهم فلا تعاقبهم في أبدانهم وأجسامهم، ولكن عظهم بتخويفك إياهم بأسَ الله أن يحلّ بهم، وعقوبته أن تنزل بدارهم، وحذِّرهم من مكروهِ ما هم عليه من الشك في أمر الله وأمر رسوله = ،" وقل لهم في أنفسهم قولا بليغًا "، يقول: مرهم باتقاء الله والتصديق به وبرسوله ووعده ووعيده.----------------------الهوامش :(18) السياق: "يعلم الله ما في قلوبهم... من النفاق والزيغ".

وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَٱسْتَغْفَرُوا۟ ٱللَّهَ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُوا۟ ٱللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64)


القول في تأويل قوله : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِقال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولم نرسل، يا محمد، رسولا إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه. يقول تعالى ذكره: فأنت، يا محمد، من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلتُه إليه.وإنما هذا من الله توبيخ للمحتكمين من المنافقين = الذين كانوا يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم = فيما اختصموا فيه إلى الطاغوت، صدودًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول لهم تعالى ذكره: ما أرسلتُ رسولا إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه، فمحمد صلى الله عليه وسلم من أولئك الرسل، فمن ترك طاعته والرِّضى بحكمه واحتكم إلى الطاغوت، فقد خالف أمري، وضيَّع فرضي.* * *ثم أخبر جل ثناؤه: أن من أطاع رسله، فإنما يطيعهم بإذنه = يعني: بتقديره ذلك وقضائه السابق في علمه ومشيئته، (19) كما:-9904 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: " إلا ليطاع بإذن الله "، واجب لهم أن يطيعهم من شاء الله، ولا يطيعهم أحد إلا بإذن الله.9905 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.9906 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.* * *قال أبو جعفر: إنما هذا تعريض من الله تعالى ذكره لهؤلاء المنافقين، بأن تركهم طاعة الله وطاعة رسوله والرضى بحكمه، إنما هو للسابق لهم من خِذْلانه وغلبة الشقاء عليهم، ولولا ذلك لكانوا ممن أذن له في الرضى بحكمه، والمسارعة إلى طاعته.* * *القول في تأويل قوله : وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولو أن هؤلاء المنافقين = الذين وصف صفتهم في هاتين الآيتين، الذين إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله صدّوا صدودًا =،" إذ ظلموا أنفسهم "، باكتسابهم إياها العظيم من الإثم في احتكامهم إلى الطاغوت، وصدودهم عن كتاب الله وسنة رسوله إذا دعوا إليها =" جاؤوك "، يا محمد، حين فعلو ما فعلوا من مصيرهم إلى الطاغوت راضين بحكمه دون حكمك، جاؤوك تائبين منيبين، فسألوا الله أن يصفح لهم عن عقوبة ذنبهم بتغطيته عليهم، وسأل لهم اللهَ رسولهُ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. وذلك هو معنى قوله: " فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول ".* * *= وأما قوله: " لوجدوا الله توابًا رحيمًا "، فإنه يقول: لو كانوا فعلوا ذلك فتابوا من ذنبهم =" لوجدوا الله توابًا "، يقول: راجعًا لهم مما يكرهون إلى ما يحبون (20) =" رحيمًا " بهم، في تركه عقوبتهم على ذنبهم الذي تابوا منه.* * *وقال مجاهد: عُنِي بذلك اليهوديُّ والمسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.9907 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: " ظلموا أنفسهم " إلى قوله: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ، قال: إن هذا في الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف.----------------------الهوامش :(19) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف 8: 192 تعليق: 2 والمراجع هناك.(20) انظر تفسير"الاستغفار" و"التوبة" فيما سلف من فهارس اللغة.

فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا۟ فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا۟ تَسْلِيمًا (65)


القول في تأويل قوله : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " فلا " فليس الأمر كما يزعمون: أنهم يؤمنون بما أنزل إليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدّون عنك إذا دعوا إليك يا محمد = واستأنف القسم جل ذكره فقال: " وربك "، يا محمد =" لا يؤمنون "، أي: لا يصدقون بي وبك وبما أنزل إليك =" حتى يحكموك فيما شجر بينهم "، يقول: حتى يجعلوك حكمًا بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهم، فالتبس عليهم حكمه. يقال: " شجَر يشجُر شُجورًا وشَجْرًا "، و " تشاجر القوم "، إذا اختلفوا في الكلام والأمر،" مشاجرة وشِجارًا ".* * *=" ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت "، يقول: لا يجدوا في أنفسهم ضيقًا مما قضيت. وإنما معناه: ثم لا تحرَج أنفسهم مما قضيت = أي: لا تأثم بإنكارها ما قضيتَ، وشكّها في طاعتك، وأن الذي قضيت به بينهم حقٌّ لا يجوز لهم خلافه، كما:-9908 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " حرجًا مما قضيت "، قال: شكًّا.9909 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: " حرجًا مما قضيت "، يقول: شكًّا.9910 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.9911 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: " ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت "، قال: إثمًا =" ويسلموا تسليما "، يقول: ويسلّموا لقضائك وحكمك، إذعانًا منهم بالطاعة، وإقرارًا لك بالنبوة تسليمًا.* * *واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نزلت؟فقال بعضهم: نزلت في الزبير بن العَوَّام وخصم له من الأنصار، اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور.ذكر الرواية بذلك:9912 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس والليث بن سعد، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدَّثه: أن عبد الله بن الزبير حدثه، عن الزبير بن العوام: أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِرَاج من الحرّة كانا يسقيان به كَلأهما النخل، (21) فقال الأنصاري: سَرِّح الماء يمرّ! (22) فأبى عليه، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أنْ كان ابن عمتك؟ (23) فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدْر، (24) ثم أرسل الماء إلى جارك. واستوعَى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه = قال أبو جعفر: والصواب: " استوعب " (25) = وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه الشفقة له وللأنصاري. فلما أحفظَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الأنصاريُّ، (26) استوعب للزبير حقه في صريح الحكم = قال فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم "، الآية. (27)9913 - حدثني يعقوب قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري عن عروة، قال: خاصم الزبير رجل من الأنصار في شَرْج من شِراج الحَرَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا زبير، أَشْرِب، ثم خلِّ سبيل الماء. فقال الذي من الأنصار من بني أمية: (28) اعدل يا نبيَّ الله، وإن كان ابن عمتك! قال: فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عُرف أن قد ساءه ما قال، ثم قال: يا زبير، احبس الماء إلى الجدْرِ = أو: إلى الكعبين = ثم خل سبيل الماء. قال: ونزلت: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ". (29)9914 - حدثني عبد الله بن عمير الرازي قال، حدثنا عبد الله بن الزبير قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا عمرو بن دينار، عن سلمة رجلٍ من ولد أم سلمة، عن أم سلمة: أن الزبير خاصم رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير، فقال الرجل لما قضى للزبير: أن كان ابن عمتك! فأنزل الله: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا ". (30)* * *وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في المنافق واليهوديّ اللذين وصف الله صفتهما في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ .*ذكر من قال ذلك:9915 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليما "، قال: هذا الرجل اليهوديُّ والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.9916 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.9917 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، بنحوه = إلا أنه قال: إلى الكاهن. (31)* * *قال أبو جعفر: وهذا القول = أعني قول من قال: عني به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ = أولى بالصواب، لأن قوله: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " في سياق قصة الذين ابتدأ الله الخبر عنهم بقوله: (32) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، ولا دلالة تدل على انقطاع قصتهم، فإلحاق بعض ذلك ببعض = ما " لم تأت دلالة على انقطاعه = أولى.* * *فإن ظن ظانٌّ أن في الذي روي عن الزبير وابن الزبير من قصته وقصة الأنصاري في شِراج الحرة، وقولِ من قال في خبرهما:فنزلت " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " = ما ينبئ عن انقطاع حكم هذه الآية وقصتها من قصة الآيات قبلها، فإنه غير مستحيل أن تكون الآية نزلت في قصة المحتكمين إلى الطاغوت، (33) ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاري، إذ كانت الآية دلالة دالة (34) وإذ كان ذلك غير مستحيل، كان إلحاق معنى بعض ذلك ببعضٍ، أولى، ما دام الكلام متسقة معانيه على سياق واحد، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض، فيُعْدَل به عن معنى ما قبله.* * *وأما قوله: " ويسلموا "، فإنه منصوب عطفًا، على قوله: " ثم لا يجدوا في أنفسهم " = وقوله: " ثم لا يجدوا في أنفسهم "، نصبٌ عطفًا على قوله: " حتى يحكموك فيما شجر بينهم ".* * *--------------------------------------------------------------------------------(21) "الشراج" (بكسر الشين) جمع"شرج" (بفتح فسكون) ، وهو مسيل الماء من الحرة إلى السهل. و"الحرة" موضع معروف بالمدينة ، وهي أرض ذات حجارة سود نخرة ، كأنما أحرقت بالنار. و"الكلأ" هو العشب ترعاه الأنعام. وكان في المطبوعة: "كلاهما" بغير همز ، وهو خطأ يوهم.(22) قوله: "سرح الماء" ، أي أطلقه ، لأن الماء كان يمر على أرض الزبير قبل أرض الأنصاري ، فكان يحبسه حتى يسقي أرضه.(23) قوله: "أن كان..." ، "أن" (بفتح الألف وسكون النون) ، التعليل ، يقول أمن أجل أنه ابن عمتك؟ وأم الزبير هي: صفية بنت عبد المطلب ، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(24) "الجدر" (بفتح الجيم وسكون الدال) ، وهي الحواجز التي تحبس الماء.(25) الظاهر أن قول أبي جعفر: "والصواب: استوعب" ، إنما عنى به صواب الرواية في هذا الخبر بهذا الإسناد ، ولا أظن أبا جعفر ينكر"استوعى" أن تكون صحيحة ، فإن"استوعى" بمعنى: استوعب الحق واستوفاه ، عربي صحيح لا شك فيه.(26) "أحفظه" أغضبه.(27) الحديث: 9912 - سياق هذا الإسناد ظاهره أنه من حديث"الزبير بن العوام" - لقوله"أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام". ويحتمل أن يكون من حديث"عبد الله بن الزبير" حكاية عن القصة. وقد جاء الحديث بسياقات أخر ، بعضها ظاهره أنه من حديث عروة بن الزبير - يحكي القصة ، فيكون ظاهره الإرسال. وبعضها ظاهره أنه من رواية عروة عن أبيه الزبير ، كما سيأتي:فرواه ابن أبي حاتم - فيما نقل عنه ابن كثير 2: 503 - بإسناد الطبري هذا: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، به.وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى ، ص: 453 ، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن ابن وهب.وكذلك رواه الإسماعيلي ، فيما نقله عند الحافظ في الفتح 5: 26.ورواه النسائي 2: 308 - 309 ، كرواية الطبري هذه. ولكن عن شيخين: يونس بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين - كلاهما عن ابن وهب ، بهذا الإسناد - وعند هؤلاء جميعًا - كما هنا: "أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام".ورواه أحمد في المسند: 16185 (ج4 ص4 - 5 حلبي) ، في مسند عبد الله بن الزبير - عن هاشم بن القاسم ، عن الليث ، عن ابن شهاب ، "عن عروة بن الزبير ، عن عبد الله بن الزبير ، قال: خاصم رجل من الأنصار الزبير" ، إلخ.وبنحو ذلك رواه البخاري 5: 26 - 28 ، ومسلم 2: 221 ، وأبو داود: 3637 ، والترمذي 2: 289 - 290 ، وابن ماجه: 2480 ، وابن حبان في صحيحه: 23 (بتحقيقنا) - كلهم من طريق الليث بن سعد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عبد الله بن الزبير ، حكاية للقصة. وفي بعض ألفاظهم: "عن عروة: أن عبد الله بن الزبير حدثه". وظاهر هذه الأسانيد أنه من حديث"عبد الله بن الزبير" - حكاية للقصة ، ليس فيها التصريح بروايته عن أبيه الزبير بن العوام.وقال البخاري عقب هذه الرواية: "ليس أحد يذكر: عروة عن عبد الله - إلا الليث فقط".وقد تعقبه الحافظ ابن حجر برواية"النسائي وغيره" - المطابقة لرواية الطبري هنا وابن الجارود وابن أبي حاتم - أن يونس بن يزيد الأيلي ذكر فيه"عن عبد الله بن الزبير" ، كما ذكره الليث. بل زاد ابن وهب في روايته هذه عن يونس والليث: أنه"عن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه الزبير بن العوام".ورواه أحمد في المسند: 1419 ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن الزهري ، قال ، "أخبرني عروة بن الزبير: أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا من الأنصار" - إلخ.وكذلك رواه البخاري 5: 227 (فتح) ، عن أبي اليمان ، بهذا الإسناد ، كرواية أحمد.فهذه الرواية ظاهرها أن عروة يروي الحديث فيها عن أبيه الزبير بن العوام مباشرة.وقد نقل ابن كثير 2: 502 - 503 هذه الرواية عن المسند. ثم قال: "هكذا رواه الإمام أحمد ، وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير ، فإنه لم يسمع منه. والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله".وقد تعقبته في شرح المسند: 1419 فقلت: إن الحديث حديث الزبير ، ولا يبعد أن يكون سمعه منه أبناه عبد الله وعروة ، وأن يكون عروة سمعه أيضًا من أخيه عبد الله ، أو ثبته عبد الله فيه. وأما ادعاء أن عروة لم يسمع من أبيه فالأدلة تنقضه ، فإنه كان مراهقًا أو بالغًا عند مقتل أبيه ، كانت سنه 13 سنة. وفي التهذيب 7: 185: "قال مسلم بن الحجاج في كتاب التمييز: حج عروة مع عثمان ، وحفظ عن أبيه فمن دونهما من الصحابة".وأزيد هنا أن البخاري صرح في ترجمة"عروة" في التاريخ الكبير 4 / 1 / 31 بسماعه من أبيه ، فقال: "سمع أباه وعائشة وعبد الله بن عمر". وأن الإمام أحمد روى حديثًا آخر قبله: 1418 ، من طريق هشام بن عروة ، "عن عروة ، قال: أخبرني أبي الزبير" - وإسناده صحيح ، وفيه التصريح بسماع عروة من أبيه ، وأن الحافظ في الفتح 5: 26 قال: "وإنما صححه البخاري - مع هذا الاختلاف - اعتمادًا على صحة سماع عروة من أبيه".ورواه عروة أيضًا من عند نفسه ، حكاية للقصة ، دون أن يذكر أنه عن اخيه أو عن أبيه - فيكون ظاهره أنه حديث مرسل ، كما في الرواية الآتية عقب هذه ، وسيأتي باقي الكلام هناك.(28) في المطبوعة: حذف قوله: "من بني أمية" ، كأنه ظن أن"بني أمية" هنا هم القرشيون!! و"بنو أمية" هنا: هم بنو أمية بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس.(29) الحديث: 9913 - إسماعيل بن إبراهيم: هو ابن علية.عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن كنانة: ثقة ، وثقه ابن معين والبخاري وغيرهما. وأخرج له مسلم في صحيحه. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 212 - 213.وهذا الحديث صورته صورة الإرسال ، كما أشرنا في الحديث قبله. لأن عروة بن الزبير - وهو تابعي - يحكي القصة ، دون أن يذكر روايته إياها عن أبيه أو عن أخيه.وكذلك رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج ، رقم: 337 (بتحقيقنا) ، عن ابن علية ، كرواية الطبري هذه.وبهذه الصورة - صورة الإرسال - رواه البخاري 5: 29 (فتح) ، من طريق معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، قال: "خاصم الزبير رجلا". - إلخ. وكذلك رواه مرة أخرى 8: 191 ، من طريق معمر.وكذلك رواه 5: 30 ، من طريق ابن جريج ، عن الزهري - على صوره الإرسال.وأشار الحافظ في الفتح 5: 26 إلى روايات أخر عن الزهري توافق روايتي معمر وابن جريج على روايته بصورة الحديث المرسل.والراجح عندي أن عروة سمع الحديث من أبيه مع أخيه عبد الله ، ولعله لم يتثبت من حفظه تمامًا لصغر سنه ، فسمعه مرة أخرى من أخيه. فحدث به على تارات: يذكر أنه عن أخيه عن أبيه. أو يذكر أنه عن أبيه مباشرة. أو يرسل القصة إرسالا دون ذكر واحد منهما لثقته بسماعها واطمئنانه.ولذلك أخرج البخاري في صحيحه الرواية التي صورتها صورة الإرسال في موضعين ، توثيقًا منه لثبوته موصولا. وأريد الحافظ في الفتح 5: 26 صنيع البخاري هذا بقوله: "ثم الحديث ورد في شيء يتعلق بالزبير ، فداعية ولده متوفرة على ضبطه".والحديث - في أصله - ذكره السيوطي 2: 180 ، وزاد نسبته لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي.(30) الحديث: 9914 - عبد الله بن عمير الرازي - شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من المراجع.عبد الله بن الزبير بن عيسى الأسدي: هو الحميدي الإمام الثقة المشهور ، من شيوخ البخاري. قال أبو حاتم: "هو أثبت الناس في ابن عيينة ، وهو رئيس أصحابه ، وهو ثقة إمام". مات سنة 219.سفيان: هو ابن عيينة."سلمة رجل من ولد أم سلمة": هو"سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة". مضت ترجمته في: 8368 ، 8369.وهذا الحديث فيه القصة السابقة التي رواها عروة بن الزبير.وقد أشار إليه الحافظ في الفتح 5: 26 ، قال: "وقد جاءت هذه القصة من وجه آخر ، أخرجها الطبري والطبراني ، من حديث أم سلمة".وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7 ص4) بنحوه. وقال: "رواه الطبراني ، وفيه يعقوب بن حميد ، وثقه ابن حبان ، وضعفه غيره".وليس"يعقوب بن حميد" في هذا الإسناد - إسناد الطبري - فهو وجه آخر.وقد ذكره ابن كثير 2: 503 - 504 من كتاب ابن مردويه ، من طريق الفضل بن دكين ، عن ابن عيينة ، بهذا الإسناد. ولكن فيه: "عن رجل من آل أبي سلمة ، قال: خاصم الزبير رجلا" - إلخ. فلم يذكر فيه"عن أم سلمة".وذكره السيوطي 2: 180 ، وزاد نسبته للحميدي - وهو الوجه الذي في الطبري هنا - وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر.(31) وهناك قول آخر ذكر الطبري فيما سلف ، دليله في الأثر رقم: 5819 ، أن الآية نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين ، كان له ابنان فتنصرا. وقد بينت آنفًا في 5: 410 ، تعليق: 4 ، أن هذا من الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره هذا.(32) في المطبوعة: "الذين أسدى الله الخبر عنهم" ، وهو كلام خلو من كل معنى ، أوقعه فيه أنه لم يحسن قراءة المخطوطة ، ولم يعرف قط قاعدة ناسخها ، فإنه يكتب"ابتدأ" هكذا: "ابتدى" غير منقوطة.(33) في المطبوعة: "في حصة المحتكمين" ، وهو خطأ في الطباعة.(34) في المطبوعة: "إذ كانت الآية دالة على ذلك" ، وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب.

الصفحة السابقة الصفحة التالية