تفسير سورة النساء الصفحة 96 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 96 من المصحف


وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (106)


القول في تأويل قوله : وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)" واستغفر الله "، يا محمد، وسَلْه أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن من خان مالاً لغيره=" إن الله كان غفورًا رحيمًا "، يقول: إن الله لم يزل يصفح عن ذنوب عباده المؤمنين، بتركه عقوبتهم عليها إذا استغفروه منها=" رحيما " بهم. (1)فافعل ذلك أنت، يا محمد، يغفر الله لك ما سلف من خصومتك عن هذا الخائن.* * *وقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خاصم عن الخائن، ولكنه هَّم بذلك، فأمره الله بالاستغفار مما هَمَّ به من ذلك.* * *وذكر أن الخائنين الذين عاتب الله جلَّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم في خصومته عنهم: بنو أُبَيْرِق.* * *واختلف أهل التأويل في خيانته التي كانت منه، فوصفه الله بها.فقال بعضهم: كانت سرقًة سرقها.*ذكر من قال ذلك:10409- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ إلى قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ، فيما بين ذلك، في ابن أبيرق، (2) ودرعه من حديد، من يهود، التي سرق، (3) وقال أصحابه من المؤمنين للنبي: " اعذره في الناس بلسانك "، ورموا بالدّرع رجلا من يهود بريئًا.10410- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. (4)10411- حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني قال، حدثنا محمد بن سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بشر وبَشِير، ومُبَشِّر، وكان بشير رجلا منافقًا، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله إلى بعض العرب، ثم يقول: " قال فلان كذا "، و " قال فلان كذا "، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث! فقال: (5)أَوَ كُلَّمَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَةًأَضِمُوا وَقَالُوا: ابْنُ الأبَيْرِقِ قَالَهَا! (6)قال: وكانوا أهل بيت فاقةٍ وحاجة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشَّعير، وكان الرجل إذا كان له يَسَار فقدمت ضَافِطة من الشأم بالدَّرْمك، (7) ابتاع الرجل منها فخصَّ به نفسه. (8) فأما العِيال، فإنما طعامهم التمر والشَّعير. فقدمت ضافطة من الشأم، فابتاع عمي رِفاعة بن زيد حملا من الدَّرمك، فجعله في مَشْرُبة له، (9) وفي المشربة سلاح له: دِرْعَان وسيفاهما وما يصلحهما. فعُدِي عليه من تحت الليل، (10) فنُقِبَت المشربة، وأُخِذَ الطعام والسّلاح. فلما أصبح، أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي، تعلَّم أنه قد عُدي علينا في ليلتنا هذه، (11) فنقبت مشرُبتنا، فذُهِب بسلاحنا وطعامنا! قال: فتحسّسنا في الدار، (12) وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم.= قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل!= رجلا منا له صلاح وإسلام. (13) فلما سمع بذلك لبيد، اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال: (14) والله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتُبَيّننَّ هذه السرقة. قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها! فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال عمي: يا ابن أخي، لو أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له!= قال قتادة: فأتيت رَسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: يا رسول الله، إن أهل بيت منا أهلَ جفاءٍ، (15) عَمَدُوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشرُبة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردّوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. (16) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظر في ذلك. (17) فلما سمع بذلك بنو أبيرق، أتوا رجلا منهم يقال له: " أسير بن عروة "، فكلموه في ذلك. واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عَمَدوا إلى أهل بيت منا أهلَ إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بَيِّنةٍ ولا ثَبَت. (18)= قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال: عَمدت إلى أهل بيت ذُكر منهم إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثَبَت!! قال: فرجعت ولوِددْتُ أنِّي خرجت من بعض مالي ولم أكلِّم رَسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأتيت عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي، ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان!= فلم نلبث أن نزل القرآن: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ، يعني: بني أبيرق=" واستغفر الله "، أي: مما قلت لقتادة= إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ، أي: بني أبيرق= إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ إلى قوله: ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ، أي: إنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم= وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ، قولهم للبيد= وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ، يعني: أسيرًا وأصحابه= وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ إلى قوله: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا .فلما نزل القرآن، أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فردَّه إلى رفاعة. = قال قتادة: فلما أتيتُ عمي بالسلاح، وكان شيخًا قد عَسَا في الجاهلية، (19) وكنت أرى إسلامه مَدْخولا (20) فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي، هو في سبيل الله. قال: فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا. فلما نزل القرآن، لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة ابنة سعد بن شُهَيد، (21) فأنزل الله فيه: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إلى قوله: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا . فلما نزل على سلافة، رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، (22)فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت فرمتْ به في الأبطح، (23) ثم قالت: أهديتَ إليّ شعر حسان! ما كنت تأتيني بخير! (24)10412- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ، يقول: بما أنزل الله عليك وبيَّن لك= وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ، فقرأ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا . ذُكر لنا أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طُعْمة بن أبيرق، وفيما همَّ به نبي الله صلى الله عليه وسلم من عذره، وبين الله شأن طعمة بن أبيرق، ووعظ نبيَّه وحذّره أن يكون للخائنين خصيمًا.= وكان طعمة بن أبيرق رجلا من الأنصار، ثم أحد بني ظفر، سرق درعًا لعمّه كانت وديعة عنده، ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم، (25) يقال له: " زيد بن السمين ". (26) فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يُهْنِف، (27) فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر، جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم، وكان نبي الله عليه السلام قد همَّ بعُذْره، حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل، فقال: وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إلى قوله: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يعني بذلك قومه= وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ، وكان طعمة قذَف بها بريئًا. فلما بيَّن الله شأن طعمة، نافق ولحق بالمشركين بمكة، فأنزل الله في شأنه:وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا .10413- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ، وذلك أن نفرًا من الأنصار غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظَنَّ بها رجلا من الأنصار، (28) فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ طعمة بن أبيرق سرق درعي. فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأى السارق ذلك، عَمَد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني قد غيَّبْتُ الدرعَ وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ليلا (29) فقالوا: يا نبيّ الله، إن صاحبنا بريء، وإن سارق الدرع فلان، وقد أحطْنا بذلك علمًا، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه، فإنه إلا يعصمه الله بك يهلك! (30) فقام رسول الله صلى الله &;عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس، فأنزل الله: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ، يقول: احكم بينهم بما أنزل الله إليك في الكتاب= وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ الآية. ثم قال للذين أتوا رسول الله عليه السلام ليلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ إلى قوله: أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ، يعني: الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائن= ثم قال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ، يعني: الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب (31) = ثم قال: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ، يعني: السارقَ والذين يجادلون عن السارق.10414- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ الآية، قال: كان رجل سرق درعًا من حديد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وطرحه على يهودي، فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت عليّ! وكان للرجل الذي سرق جيرانٌ يبرِّئونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون: يا رسول الله، إن هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به! قال: حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض القول، فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ بما قلت لهذا اليهودي=" إن الله كان غفورًا رحيمًا "= ثم أقبل على جيرانه فقال: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فقرأ حتى بلغ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا . قال: ثم عرض التوبة فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فما أدخلكم أنتم أيها الناس، على خطيئة هذا تكلَّمون دونه= وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا ، وإن كان مشركًا= فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ، فقرأ حتى بلغ: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ، (32) فقرأ حتى بلغ: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى . قال: أبى أن يقبل التوبة التي عرَض الله له، وخرج إلى المشركين بمكة، فنقب بيتًا يسرقه، (33) فهدمه الله عليه فقتله. فذلك قول الله تبارك وتعالى (34) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ، فقرأ حتى بلغ وَسَاءَتْ مَصِيرًا = ويقال: هو طعمة بن أبيرق، وكان نازلا في بني ظَفر.* * *وقال آخرون: بل الخيانة التي وصف الله بها من وصفه بقوله: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ، جحودُه وديعة كان أودِعها.*ذكر من قال ذلك:10415- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ، قال: أما " ما أراك الله "، فما أوحى الله إليك. قال: نزلت في طعمة بن أبيرق، استودعه رجل من اليهود درعًا، فانطلق بها إلى داره، فحفر لها اليهودي ثم دفنها. فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها. فلما جاء اليهودي يطلب درعه، كافره عنها، (35) فانطلق إلى ناس من اليهود من عشيرته فقال: انطلقوا معي، فإني أعرف موضع الدرع. فلما علم بهم طعمة، أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مُلَيْلٍ الأنصاري. فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها، وقع به طعمة وأناس من قومه فسبُّوه، وقال: أتخوِّنونني! فانطلقوا يطلبونها في داره، فأشرفوا على بيت أبي مليل، فإذا هم بالدرع. وقال طعمة: أخذها أبو مليل! وجادلت الأنصار دون طعمة، وقال لهم: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له يَنْضَح عني ويكذِّب حجة اليهودي، (36) فإني إن أكذَّب كذب على أهل المدينة اليهودي! فأتاه أناس من الأنصار فقالوا: يا رسول الله، جادل عن طعمة وأكذب اليهودي. فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، فأنزل الله عليه: " وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ " مما أردت= إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا = ثم ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه فقال: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ، يقول: يقولون ما لا يرضى من القول (37) = هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ = ثم دعا إلى التوبة فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا = ثم ذكر قوله حين قال: " أخذها أبو مليل " فقال: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ = وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا = ثم ذكر الأنصار وإتيانها إياه: (38) أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه، فقال: لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، يقول: النبوة= ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذِّبوا عن طعمة، فقال: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ . فلما فضح الله طعمة بالمدينة بالقرآن، هرب حتى أتى مكة، فكفر بعد إسلامه، ونزل على الحجاج بن عِلاط السُّلَمي، فنقب بيت الحجاج، فأراد أن يسرقه، فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقعةَ جلودٍ كانت عنده، (39) فنظر فإذا هو بطعمة فقال: ضيفي وابنَ عمي وأردتَ أن تسرقني!! فأخرجه، فمات بحرَّة بني سُلَيم كافرًا، (40) وأنزل الله فيه: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى إلى وَسَاءَتْ مَصِيرًا .10416- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: استودع رجل من الأنصار طعمةَ بن أبيرق مشرُبة له فيها درع، (41) وخرج فغاب. فلما قدم الأنصاري فتح مشربته، فلم يجد الدرع، فسأل عنها طعمة بن أبيرق، فرمى بها رجلا من اليهود يقال له زيد بن السمين: فتعلَّق صاحب الدرع بطُعمة في درعه. فلما رأى ذلك قومه، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فكلموه ليدْرأ عنه، فهمّ بذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ، يعني: طعمة بن أبيرق وقومه= هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ، محمد صلى الله عليه وسلم وقوم طعمة= وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ، محمد وطعمة وقومه= قال: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ الآية، طعمة= وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا ، يعني زيد بن السمين= فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ، طعمة بن أبيرق= وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ يا محمد= لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ، قوم طعمة بن أبيرق= وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا يا محمد (42) = لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ، حتى تنقضي الآية للناس عامة= وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الآية. قال: لما نزل القرآن في طعمة بن أبيرق، لحق بقريش ورجع في دينه، ثم عدا على مشرُبة للحجاج بن عِلاط البَهْزِيّ ثم السُّلمي، (43) حليفٌ لبني عبد الدار، فنقبها، فسقط عليه حجر فلَحِج. (44) فلما أصبح أخرجوه من مكة. فخرجَ فلقي ركبًا من بَهْرَاء من قضاعة، فعرض لهم فقال: ابن سبيل مُنْقَطَعٌ به! فحملوه، حتى إذا جنَّ عليه الليل عَدَا عليهم فسرقهم، ثم انطلق. فرجعوا في طلبه فأدركوه، فقذفوه بالحجارة حتى مات= قال ابن جريج: فهذه الآيات كلها فيه نزلت إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ، أنزلت في طعمة بن أبيرق= ويقولون: إنه رمى بالدرع في دار أبي مليل بن عبد الله الخَزْرجي، فلما نزل القرآن لحق بقريش، فكان من أمره ما كان.10417- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ، يقول: بما أنزل عليك وأراكه في كتابه. ونزلت هذه الآية في رجل من الأنصار استُودع درعًا فجحد صاحبها، فخوّنه رجال من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم، فغضب له قومه، وأتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: خوَّنوا صاحبنا، وهو أمين مسلم، فاعذره يا نبي الله وازْجُر عنه! فقام نبي الله فعذره وكذَّب عنه، وهو يرى أنه بريء، وأنه مكذوب عليه، فأنزل الله بيان ذلك فقال: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " إلى قوله: أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ، فبين الله خيانته، فلحق بالمشركين من أهل مكة وارتدّ عن الإسلام، فنزل فيه: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى إلى قوله: وَسَاءَتْ مَصِيرًا .* * *قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بما دل عليه ظاهر الآية، قول من قال: كانت خيانته التي وصفه الله بها في هذه الآية، جحودَه ما أودع، لأن ذلك هو المعروف من معاني" الخيانات " في كلام العرب. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من معاني كلام العرب ما وجد إليه سبيل، أولى من غيره.----------------------الهوامش :(1) انظر تفسير"الاستغفار" ، و"كان" و"غفور" و"رحيم" فيما سلف في فهارس اللغة.(2) في المطبوعة: "طعمة بن أبيرق" ، وسيأتي ذكر"طعمة بن أبيرق" في رقم: 10412 ، ولكنه في المخطوطة هنا"ابن أبيرق" ، وسترى الاختلاف في الآثار في بني أبيرق هؤلاء.(3) قوله"من يهود" أثبتها من المخطوطة.(4) الأثر: 10410 - هذا الأثر غير ثابت في المخطوطة.(5) في المطبوعة: "إلا هذا الخبيث" ، وأثبت ما في المخطوطة.(6) في المخطوطة: "نحلت وقالوا" ، وتركت ما في المطبوعة على حاله ، وقد جاء هذا البيت في المستدرك للحاكم خطأ:. . . . . . . . . . . . . . . . . . .ضموا إلى بان أبيرق قالهاوالذي هنا هو صوابه ، وأنشد بعده هناك:مُتَخَمِّطِينَ كأنَّنِي أَخْشَاهُمجَدَعَ الإِلهُ أُنُوفَهُمْ فَأَبَانَهَاهكذا جاء على الإقواء ، على الخلاف بين القافية في"قالها" و"أبانها" وهو عيب جاء مثله في الشعر ، لتقارب مخرج اللام والنون ، وأعانه على ذلك وجود الهاء والألف صلة للقافية.وقوله: "أضموا" أي: غضبوا عليه وحقدوا. وقوله: "متخمطين" ، قد غضبوا وهدروا وثاروا وأجلبوا. رجل متخمط: شديد الغضب له ثورة وجلبة. وفي المستدرك: "متخطمين" بتقدم الطاء على الميم ، وهو خطأ ، صوابه ما أثبت.(7) الضافطة: كانوا قومًا من الأنباط يحملون إلى المدينة الدقيق والزيت وغيرهما. ثم قالوا للذي يجلب الميرة والمتاع إلى المدن ، والمكاري الذي يكري الأحمال"الضافطة" و"الضفاط". و"الدرمك" هو الدقيق النقي الحواري ، الأبيض.(8) في المطبوعة: "ابتاع الرجل منهم" ، وفي المخطوطة: "منا" ، وأثبت ما في المراجع.(9) "المشربة" (بفتح الميم وسكون الشين وفتح الراء أو ضمها): وهي الغرفة ، أو العلية ، أو الصفة بين يدي الغرفة. والمشارب: العلالي.(10) في المراجع الأخرى: "من تحت البيت" ، وكأن الذي في الطبري هو صواب الرواية.(11) "تعلم" (بتشديد اللام) ، بمعنى: اعلم.(12) في المطبوعة والمخطوطة: "فتجسسنا" بالجيم ، وهي صواب ، وأجود منها بالحاء ، كما في سائر المراجع."تحسس الخبر": تطلبه وتبحثه ، وفي التنزيل: "يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه".و"الدار" هنا: المحلة التي تنزلها القبيلة أو البطن منها ، ويعني بها القبيلة أو البطن ، كما جاء في الحديث: "ألا أنبئكم بخير دور الأنصار؟ دور بني النجار ، ثم دور بني عبد الأشهل ، وفي كل دور الأنصار خير". يعني القبيلة المجتمعة في محلة تسكنها.(13) في المطبوعة: "رجل" بالرفع ، كأنه استنكر النصب! وهو صواب محض عال.(14) "اخترط سيفه": سله من غمده.(15) "الجفاء" غلظ الطبع.(16) في المخطوطة: "فلا حاجة لنا به" ، وهما سواء.(17) في المطبوعة: "سأنظر في ذلك" ، وفي الترمذي وابن كثير: "سآمر في ذلك" ، وأثبت ما في المخطوطة.(18) "الثبت" (بفتحتين): الحجة والبينة والبرهان.(19) "عسا في الجاهلية" أي: كبر وأسن ، من قولهم: "عسا العود" أي: يبس واشتد وصلب.(20) "المدخول" ، من"الدخل" (بفتحتين) وهو العيب والفساد والغش ، يعني أن إيمانه كان فيه نفاق. ورجل مدخول: أي في عقله دخل وفساد.(21) في المطبوعة: "سلافة بنت سعد بن سهل" ، وفي المخطوطة: " ... بنت سعد بن سهيل" ، وفي الترمذي وابن كثير"بنت سعد بن سمية" وفي المستدرك: "سلامة بنت سعد بن سهل ، أخت بني عمرو بن عوف ، وكانت عند طلحة بن أبي طلحة بمكة".والصواب الذي لا شك فيه هو ما أثبته ، وقد جاءت على الصواب في الدر المنثور ، ثم جاءت كذلك في ديوان حسان بن ثابت.و"سلافة بنت سعد بن شهيد" أنصارية من بني عوف بن عمرو بن مالك بن الأوس ، استظهرت نسبها: "سلافة بنت سعد بن شهيد بن عمرو بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس". وذلك من جمهرة الأنساب لابن حزم ، ص: 314 ، إذ ذكر"عويمر بن سعد بن شهيد بن عمرو ..." وقال: "له صحبة ، ولاه عمر فلسطين". ولم أجد في تراجم الصحابة وسائر المراجع"عويمر بن سعد بن شهيد". هذا ، ولكن نقل ابن حزم صحيح بلا شك. فإن يكن ذلك ، فعويمر هذا أخو سلافة هذه. و"سلافة بنت سعد بن شهيد الأنصارية" معروفة غير منكورة ، فهي زوج طلحة بن أبي طلحة ، وهي أم مسافع ، والجلاس ، وكلاب ، بنو طلحة بن أبي طلحة (ابن هشام 3 : 66) ، وقد قتلوا يوم أحد هم وأبوهم ، قتل مسافعًا والجلاس ، عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ، حمى الدبر ، فنذرت سلافة: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر! فمنعته الدبر (النحل) حين أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة (ابن هشام 3 : 180).فهذا تحقيق اسمها إن شاء الله ، يصحح به ما في الترمذي والمستدرك ومن نقل عنهما.(22) شعر حسان هذا في ديوانه: 271 يقول في أوله يذكر سلافة بالسوء من القول ، قال:وَمَا سَارِقُ الدِّرْعَيْنِ إنْ كُنْتَ ذاكِرًابذي كَرَمٍ من الرجالِ أُوَادِعُهْفَقَدْ أَنْزَلَتْهُ بِنْتُ سَعْدٍ، فأَصْبَحَتْيُنَازِعُهَا جِلْدَ اسْتِها وَتُنَازِعُهْ(23) في المطبوعة: "فرمته بالأبطح" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما في الترمذي. و"الأبطح" ، هو أبطح مكة ، أو: بطحاء مكة ، وهو مسيل واديها.(24) الأثر: 10411 -"الحسن بن أحمد بن أبي شعيب عبد الله بن مسلم الأموي" أبو مسلم الحراني. من أهل حران ، سكن بغداد. قال الخطيب: "ثقة مأمون". وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "يغرب". روى عن محمد بن سلمة. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 2 ، وتاريخ بغداد 7 : 266.وهذا الأثر رواه الترمذي في السنن ، في تفسير هذه الآية ، بإسناد الطبري نفسه ، أعني عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب. ورواه الحاكم في المستدرك 4 : 385 ، وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 574-576 ، والسيوطي في الدر 2 : 214 ، 215 ، وزاد نسبته لابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.وإسناد الحاكم في المستدرك: "حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثني محمد بن إسحاق ..." ، وساق إسناده مرفوعًا إلى قتادة بن النعمان ، كما في التفسير والترمذي.وأشار الخطيب البغدادي إلى هذا الخبر بإسناده: "أخبرنا عثمان بن محمد بن يوسف العلاف ، أخبر محمد بن عبد الله الشافعي قال ، حدثنا عبد الله بن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب (وهو أبو شعيب) ، حدثنا جدي وأبي جميعًا فقالا ، حدثنا محمد بن سلمة" وساقه كإسناد أبي جعفر.وقد ذكر الحافظ ابن حجر في التهذيب أن أبا مسلم الحراني (الحسن بن أحمد) روى عن أبيه وجده ، وأخشى أن يكون وهم ، وجاءه الوهم من هذا الإسناد لقوله"حدثني جدي وأبي جميعًا" ، وإنما قائل ذلك هو عبد الله بن الحسن بن أحمد ، لا الحسن بن أحمد.ثم قال الخطيب البغدادي: "قال أبو شعيب: "قال أبي (يعني الحسن بن أحمد): سمعه مني يحيى بن معين ببغداد في مسجد الجامع ، وأحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، وإسحاق بن أبي إسرائيل". وأما في ابن كثير ، فقائل هذا: "محمد بن سلمة" ، وهو الصواب.وقال الحاكم في المستدرك (ولفظه مخالف لفظ الطبري): "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه".أما الترمذي فقد قال: "هذا حديث غريب ، لا نعلم أحدًا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني. وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، مرسلا ، لم يذكروا فيه: عن أبيه عن جده".غير أن الحاكم: رواه كما ترى من طريق يونس بن بكير ، مرفوعًا إلى قتادة بن النعمان.(25) في المخطوطة والدر المنثور: "فقدمها" والصواب ما في المطبوعة.(26) في أسباب النزول للواحدي: 134: "زيد بن السمير" بالراء ، وسائر الكتب كما هنا في المطبوعة والمخطوطة.(27) في المطبوعة والمخطوطة: "يهتف" بالتاء ، كأنه أراد يصيح ويدعو رسول الله ويناشده. ولكني رجحت قراءتها بالنون ، من قولهم: "أهنف الصبي إهنافًا" ، إذا تهيأ للبكاء وأجهش. ويقال للرجال: "أهنف الرجل" ، إذا بكى بكاء الأطفال من شدة التذلل. وهذا هو الموافق لسياق القصة فيما أرجح.(28) "ظننت الرجل ، وأظننته" ، اتهمته. و"الظنة" (بالكسر): التهمة.(29) "ليلا" غير موجودة في المخطوطة ، ولكن سيأتي بعد أسطر ما يدل على صواب إثباتها.(30) في المطبوعة: "إن لم يعصمه الله" ، والذي في المخطوطة ، صواب عريق.(31) في المطبوعة ، سقط من الناشر من أول قوله: "يجادلون عن الخائن" إلى قوله: "بالكذب" ، فأثبتها من المخطوطة.(32) سقط من المطبوعة: "فقرأ حتى بلغ: لا خير في كثير من نجواهم" ، وزاد في التي بعدها: "حتى بلغ إلى قوله". وأثبت نص المخطوطة.(33) في المطبوعة: "ليسرقه" ، والذي في المخطوطة صواب معرق.(34) في المطبوعة: "فذلك قوله" ، وأثبت نص المخطوطة.(35) "كافره حقه": جحده ، و"كافره عنه" ، عربي صريح.(36) "نضح عنه": أي ذب عنه ودفع بحجة تنفي عنه ما اتهم به.(37) قوله: "يقول: يقولون ما لا يرضى من القول" ، غير موجودة في المخطوطة ، وأخشى أن تكون زيادة من ناسخ. وسيأتي معنى"التبيت" على وجه الدقة فيما يلي ص: 191 ، 192.(38) في المطبوعة: "وإتيانهم إياه" ، وأثبت ما في المخطوطة.(39) "الخشخشة": صوت حركة ، تكون من السلاح إذا احتك ، والثوب الجديد ، ويبيس النبات. و"القعقعة": أشد من الخشخشة ، صوت يكون من الجلد اليابس ، والسلاح إذا ارتطم بعضه ببعض.(40) "حرة بني سليم" في عالية نجد. و"الحرة" أرض ذات حجارة سود نخرة ، كأنها أحرقت بالنار.(41) المشربة: الغرفة ، كما أسلفت في التعليق.(42) في المطبوعة: "محمد صلى الله عليه وسلم" ، وأثبت ما في المخطوطة.(43) في المطبوعة والمخطوطة"البهري" ، وهو تصحيف. ولا يعجبني هذا ، بل الصحيح أن يقال: "السلمي ثم البهزي" بالتقديم والتأخير ، فإنه"بهز بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور" ، فبهز بطن من سليم بن منصور.(44) "لحج بالمكان": نشب فيه ولزمه وضاق عليه أن يخرج منه. و"لحج السيف": نشب في الغمد فلم يخرج.

وَلَا تُجَٰدِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)


القول في تأويل قوله : وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: " ولا تجادل " يا محمد، فتخاصم=" عن الذين يختانون أنفسهم "، يعني: يخوّنون أنفسهم، يجعلونها خَبوَنة بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه مالَه، وهم بنو أبيرق. يقول: لا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم وما خانوه فيه من أموالهم=" إن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيمًا "، يقول: إنّ الله لا يحب من كان من صفته خِيَانة الناس في أموالهم، وركوب الإثم في ذلك وغيره مما حرَّمه الله عليه.* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: وقد تقدم ذكر الرواية عنهم.10418- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: " ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم "، قال: اختان رجل عمًّا له درعًا، فقذف بها يهوديًا كان يغشاهم، فجادل عمُّ الرجل قومه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم عذره. ثم لحق بأرض الشرك، فنزلت فيه: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى الآية.* * *القول في تأويل قوله : يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " يستخفون من الناس "، يستخفي هؤلاء الذين يختانون أنفسهم، ما أتَوْا من الخيانة، وركبوا من العار والمعصية (45) =" من الناس "، الذين لا يقدرون لهم على شيء، إلا ذكرهم بقبيح ما أتَوْا من فعلهم، (46) وشنيع ما ركبوا من جُرْمهم إذا اطلعوا عليه، حياءً منهم وحذرًا من قبيح الأحدوثة=" ولا يستخفون من الله " الذي هو مطلع عليهم، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، وبيده العقاب والنَّكال وتعجيل العذاب، وهو أحق أن يُستحى منه من غيره، وأولى أن يعظَّم بأن لا يراهم حيث يكرهون أن يراهم أحد من خلقه=" وهو معهم "، يعني: والله شاهدهم=" إذ يبيتون ما لا يرضى من القول "، يقول: حين يسوُّون ليلا ما لا يرضى من القول، فيغيِّرونه عن وجهه، ويكذبون فيه.* * *وقد بينا معنى " التبييت " في غير هذا الموضع، وأنه كل كلام أو أمرٍ أصلح ليلا. (47)وقد حكى عن بعض الطائيين أن " التبييت " في لغتهم: التبديل، وأنشد للأسود بن عامر بن جُوَين الطائي في معاتبة رجل: (48)وَبَيَّتَّ قَوْلِيَ عَبْدَ الْمَلِيكِقاتلَكَ الله عَبْدًا كَنُودًا!! (49)بمعنى: بدَّلت قولي.* * *وروي عن أبي رزين أنه كان يقول في معنى قوله: " يبيتون "، يؤلّفون.10419- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين: " إذ يبيتون ما لا يرضى من القول "، قال: يؤلِّفون ما لا يرضى من القول.10420- حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال، حدثنا أبو يحيى الحماني، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين بنحوه.10421- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن أبي رزين، مثله. (50)* * *قال أبو جعفر: وهذا القول شبيه المعنى بالذي قلناه. وذلك أن " التأليف " هو التسوية والتغيير عما هو به، وتحويلُه عن معناه إلى غيره.* * *وقد قيل: عنى بقوله: " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله "، الرهطَ الذين مشوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة المدافعة عن ابن أبيرق والجدال عنه، (51) على ما ذكرنا قبل فيما مضى عن ابن عباس وغيره.* * *=" وكان الله بما يعملون محيطًا " يعني جل ثناؤه: وكان الله بما يعمل هؤلاء المستخفون من الناس، فيما أتَوْا من جرمهم، حياءً منهم، من تبييتهم ما لا يرضى من القول، وغيره من أفعالهم=" محيطًا "، محصيًا لا يخفى عليه شيء منه، حافظًا لذلك عليهم، حتى يجازيهم عليه جزاءهم. (52)---------------------الهوامش :(45) في المطبوعة في الموضعين: "ما أوتوا" ، والصواب من المخطوطة.(46) في المطبوعة في الموضعين: "ما أوتوا" ، والصواب من المخطوطة.(47) انظر ما سلف 8 : 562 ، 563.(48) في المطبوعة والمخطوطة: "... بن جرير" ، والصواب ما أثبت ، والأسود بن عامر بن جوين الطائي ، أبو عامر بن جوين الطائي ، الذي نزل به امرؤ القيس (الأغاني 8 : 90 ، 95) ، وقد ذكرهما ابن دريد في الاشتقاق: 233 وقال: "كانا سيدين رئيسين" ، وذكرهما ابن حزم في الجمهرة: 379 ، وقال في الأسود بن عامر: "شاعر" ، ثم قال: "فولد الأسود هذا: قبيصة بن الأسود ، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم".(49) لم أجد البيت في مكان ، وكنت أعرفه ولكن غاب عني مكانه ، فأرجو أن أجده وألحق به بيانه في طبعة أخرى ، أو في كتاب آخر.(50) الآثار: 10419 - 10421 -"أبو رزين" هو"أبو رزين الأسدي": "مسعود بن مالك" ، مضى برقم: 4291 - 4294 ثم: 4791 - 4793.(51) في المخطوطة والمطبوعة: "بني أبيرق" ، والسياق يقتضي ما أثبت.(52) انظر تفسير"الإحاطة" و"محيط" فيما سلف 2 : 284 / 5 : 396 / 7 : 158.

يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)


القول في تأويل قوله ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ( 108 ) )قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يستخفون من الناس " ، يستخفي هؤلاء الذين يختانون أنفسهم ما أتوا من الخيانة ، وركبوا من العار والمعصية من الناس الذين لا يقدرون لهم على شيء ، إلا ذكرهم بقبيح ما أتوا من فعلهم ، وشنيع ما ركبوا من جرمهم إذا اطلعوا عليه ، حياء منهم وحذرا من قبيح الأحدوثة " ولا يستخفون من الله " الذي هو مطلع عليهم ، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، وبيده العقاب والنكال وتعجيل العذاب ، وهو أحق أن يستحى منه من غيره ، وأولى أن يعظم بأن لا يراهم حيث يكرهون أن يراهم أحد من خلقه وهو معهم يعني : والله شاهدهم " إذ يبيتون ما لا يرضى من القول " ، يقول : حين يسوون ليلا ما لا يرضى من القول ، فيغيرونه عن وجهه ، ويكذبون فيه .وقد بينا معنى "التبييت" في غير هذا الموضع ، وأنه كل كلام أو أمر أصلح ليلا .وقد حكي عن بعض الطائيين أن "التبييت" في لغتهم : التبديل ، وأنشد للأسود بن عامر بن جوين الطائي في معاتبة رجل :[ ص: 192 ]وبيت قولي عبد المليك قاتلك الله عبدا كنودا!!بمعنى : بدلت قولي .وروي عن أبي رزين أنه كان يقول في معنى قوله : "يبيتون" ، يؤلفون .10419 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي رزين : " إذ يبيتون ما لا يرضى من القول " ، قال : يؤلفون ما لا يرضى من القول .10420 - حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال : حدثنا أبو يحيى الحماني ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي رزين بنحوه .10421 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي رزين ، مثله .قال أبو جعفر : وهذا القول شبيه المعنى بالذي قلناه . وذلك أن "التأليف" هو التسوية والتغيير عما هو به ، وتحويله عن معناه إلى غيره .وقد قيل : عنى بقوله : " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله " ، الرهط الذين مشوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة المدافعة عن ابن أبيرق والجدال عنه ، على ما ذكرنا قبل فيما مضى عن ابن عباس وغيره ." وكان الله بما يعملون محيطا " يعني جل ثناؤه : وكان الله بما يعمل هؤلاء [ ص: 193 ] المستخفون من الناس ، فيما أتوا من جرمهم ، حياء منهم ، من تبييتهم ما لا يرضى من القول ، وغيره من أفعالهم محيطا محصيا لا يخفى عليه شيء منه ، حافظا لذلك عليهم ، حتى يجازيهم عليه جزاءهم .

هَٰٓأَنتُمْ هَٰٓؤُلَآءِ جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فَمَن يُجَٰدِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)


القول في تأويل قوله : هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (109)قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا "، ها أنتم الذين جادلتم، (53) يا معشر من جادل عن بني أبيرق=" في الحياة الدنيا "= و " الهاء " و " الميم " في قوله: " عنهم " من ذكر الخائنين.=" فمن يجادل الله عنهم "، يقول: فمن ذا يخاصم الله عنهم=" يوم القيامة "، أي: يوم يقوم الناس من قبورهم لمحشرهم، (54) فيدافع عنهم ما الله فاعل بهم ومعاقبهم به. وإنما يعني بذلك: إنكم أيها المدافعون عن هؤلاء الخائنين أنفسهم، وإن دافعتم عنهم في عاجل الدنيا، فإنهم سيصيرون في آجل الآخرة إلى من لا يدافع عنهم عنده أحد فيما يحلُّ بهم من أليم العذاب ونَكال العقاب.= وأما قوله: " أم من يكون عليهم وكيلا "، فإنه يعني: ومن ذا الذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلا يوم القيامة= أي: ومن يتوكل لهم في خصومة ربهم عنهم يوم القيامة.* * *وقد بينا معنى: " الوكالة "، فيما مضى، وأنها القيام بأمر من توكل له. (55)-------------------الهوامش :(53) انظر ما قاله: في"ها أنتم أولاء" و"ها أنتم هؤلاء" فيما سلف 7 : 150 ، 151.(54) انظر تفسير"يوم القيامة" فيما سلف 2 : 518 / 8 : 592.(55) انظر تفسير"الوكيل" فيما سلف 7 : 405 / 8 : 566.

وَمَن يَعْمَلْ سُوٓءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُۥ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا (110)


القول في تأويل قوله : وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يعمل ذنبًا، وهو " السوء " (56) =" أو يظلم نفسه "، بإكسابه إياها ما يستحق به عقوبة الله=" ثم يستغفر الله "، يقول: ثم يتوب إلى الله بإنابته مما عمل من السوء وظُلْم نفسه، ومراجعته ما يحبه الله من الأعمال الصالحة التي تمحو ذنبَه وتذهب جرمه=" يجد الله غفورًا رحيمًا "، يقول: يجد ربه ساترًا عليه ذنبه بصفحه له عن عقوبة جرمه، رحيمًا به. (57)* * *واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.فقال بعضهم: عنى بها الذين وصفهم الله بالخيانة بقوله: وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ .* * *وقال آخرون: بل عني بها الذين كانوا يجادلون عن الخائنين، (58) الذين قال الله لهم: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وقد ذكرنا قائلي القولين كليهما فيما مضى.* * *قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أنه عنى بها كل من عمل سوءًا أو ظلم نفسه، وإن كانت نزلت في أمر الخائنين والمجادلين عنهم الذين ذكر الله أمرَهم في الآيات قبلها.* * *وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.*ذكر من قال ذلك:10422- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي وائل قال، قال عبد الله: كانت بنو إسرائيل إذا أصابَ أحدهم ذنبًا أصبح قد كُتِب كفارة ذلك الذنب على بابه. وإذا أصاب البولُ شيئًا منه، قَرَضه بالمقراض. (59) فقال رجل: لقد آتى الله بني إسرائيل خيرًا! فقال عبد الله: ما آتاكم الله خيرٌ مما آتاهم، جعل الله الماءَ لكم طهورًا وقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران: 135]، وقال: " ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا ".10423- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا ابن عون، عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاءت امرأة إلى عبد الله بن مُغَفّل، فسألته عن امرأة فَجرت فَحبِلت، فلما ولدتْ قتلت ولدها؟ فقال ابن مغفل: ما لها؟ لها النار! فانصرفت وهي تبكي، فدعاها ثم قال: ما أرى أمرَك إلا أحدَ أمرين: " من يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا "، قال: فَمَسحت عينها ثم مضت. (60)10424- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا "، قال: أخبر الله عبادَه بحلمه وعفوه وكرمه، وسعةِ رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنبًا صغيرًا كان أو كبيرًا، ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا، ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال.---------------------الهوامش :(56) انظر تفسير"السوء" فيما سلف من فهارس اللغة.(57) انظر تفسير"استغفر" ، "غفور" ، "رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.(58) في المطبوعة"الذين يجادلون عن الخائنين" ، وأثبت ما في المخطوطة.(59) "قرضه": قصه. و"المقراض": المقص.(60) الأثر: 10423 -"حبيب بن أبي ثابت الأسدي" مضى برقم: 9012 ، 9035. و"عبد الله بن مغفل المزني" من مشاهير الصحابة ، وهو أحد البكائين في غزوة تبوك. وهو أحد العشرة الذين بعثهم عمر ليفقه الناس بالبصرة.وهذا الخبر من محاسن الأخبار الدالة على عقل الفقيه ، وبصره بأمر دينه ، ونصيحته للناس في أمور دنياهم.

وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)


القول في تأويل قوله : وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يأت ذنبًا على عَمْدٍ منه له ومعرفة به، فإنما يجترح وَبَال ذلك الذنب وضُرَّه وخِزْيه وعاره على نفسه، دون غيره من سائر خلق الله. (61) يقول: فلا تجادلوا، أيها الذين تجادلون، عن هؤلاء الخونة، فإنكم وإن كنتم لهم عشيرةً وقرابةً وجيرانًا، برآء مما أتوه من الذنب ومن التَّبِعة التي يُتَّبعون بها، وإنكم متى دافعتم عنهم أو خاصمتم بسببهم، (62) كنتم مثلَهم، فلا تدافعوا عنهم ولا تخاصموا.= وأما قوله: " وكان الله عليمًا حكيمًا "، فإنه يعني: وكان الله عالمًا بما تفعلون، أيها المجادلون عن الذين يختانون أنفسهم، في جدالكم عنهم وغير ذلك من أفعالِكم وأفعال غيركم، وهو يحصيها عليكم وعليهم، حتى يجازي جميعكم بها=" حكيمًا " يقول: وهو حكيم بسياستكم وتدبيركم وتدبير جميع خلقه. (63)* * *وقيل: نزلت هذه الآية في بني أبيرق. وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى قبل. (64)-------------------------الهوامش :(61) انظر تفسير"كسب" فيما سلف 8 : 267 تعليق: 1 ، والمراجع هناك= وتفسير"الإثم" فيما سلف 4 : 328 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.(62) في المطبوعة والمخطوطة: "فإنكم متى دافعتم ..." والسياق يقتضي"وإنكم".(63) انظر تفسير"عليم" و"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.(64) يعني الآثار السالفة من 10409 - 10418.

وَمَن يَكْسِبْ خَطِيٓـَٔةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِۦ بَرِيٓـًٔا فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (112)


القول في تأويل قوله : وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يعمل خطيئة، وهي الذنب=" أو إثمًا "، وهو ما لا يحلّ من المعصية. (65)* * *وإنما فرق بين " الخطيئة " و " الإثم "، لأن " الخطيئة "، قد تكون من قبل العَمْد وغير العمد، و " الإثم " لا يكون إلا من العَمْد، ففصل جل ثناؤه لذلك بينهما فقال: ومن يأت " خطيئة " على غير عمد منه لها=" أو إثمًا " على عمد منه.* * *=" ثم يرم به بريئًا "، (66) يعني: ثم يُضيف ماله من خطئه أو إثمه الذي تعمده (67) =" بريئًا " مما أضافه إليه ونحله إياه=" فقد احتمل بُهتانًا وإثمًا مبينًا "، يقول: (68) فقد تحمّل بفعله ذلك فريَة وكذبًا وإثمًا عظيمًا= يعني، وجُرْمًا عظيمًا، على علم منه وعمدٍ لما أتى من معصيته وذنبه.* * *واختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: " بريئًا "، بعد إجماع جميعهم على أن الذي رمى البريءَ من الإثم الذي كان أتاه، ابن أبيرق الذي وصفنا شأنه قبل.فقال بعضهم: عنى الله عز وجل بالبريء، رجلا من المسلمين يقال له: " لبيد بن سهل ". (69)* * *وقال آخرون: بل عنى رجلا من اليهود يقال له: " زيد بن السمين "، وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى. (70)* * *وممن قال: " كان يهوديًّا "، ابنُ سيرين.10425- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا غندر، عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين: " ثم يرم به بريئًا "، قال: يهوديًّا.10426- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا بدل بن المحبر قال، حدثنا شعبة، عن خالد، عن ابن سيرين، مثله. (71)* * *وقيل: " يرم به بريئًا "، بمعنى: ثم يرم بالإثم الذي أتى هذا الخائن، من هو بريء مما رماه به= ف" الهاء " في قوله: " به " عائدة على " الإثم ". ولو جعلت كناية من ذكر " الإثم " و " الخطيئة "، كان جائزًا، لأن الأفعال وإن اختلفت العبارات عنها، فراجعة إلى معنى واحد بأنها فعلٌ. (72)* * *= وأما قوله: " فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا "، فإن معناه: فقد تحمل - هذا الذي رمَى بما أتى من المعصية وركب من الإثم الخطيئة، مَنْ هو بريء مما رماه به من ذلك=" بهتانًا "، وهو الفرية والكذب (73) =" وإثمًا مبينًا "، يعني وِزْرًا " مبينًا "، يعني: أنه يبين عن أمر متحمِّله وجراءته على ربه، (74) وتقدّمه على خلافه فيما نهاه عنه لمن يعرف أمرَه.--------------------الهوامش :(65) انظر تفسير"خطيئة" فيما سلف 2: 110 ، 284 ، 285.(66) في المطبوعة زيادة حذفتها ، كان الكلام: "ثم يرم به بريئًا ، يعني بالذي تعمده بريئًا ، يعني ..." وهو فساد في التفسير ، فحذفته لذلك وتابعت المخطوطة.(67) في المطبوعة: "ثم يصف ما أتى من خطئه ..." وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب.(68) انظر تفسير"البهتان" فيما سلف 5 : 432 / 8 : 124.(69) انظر الأثر رقم: 10411.(70) انظر رقم: 10412 ، 10416.(71) الأثر: 10426 -"بدل بن المحبر بن المنبه التميمي اليربوعي" روى عن شعبة ، والخليل بن أحمد صاحب العروض ، وغيرهما. وروى عنه البخاري ، والأربعة بواسطة محمد بن بشار. ثقة.و"بدل" بفتحتين.(72) هذا مختصر مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 286 ، 287.(73) انظر تفسير"البهتان" فيما سلف ص: 197 ، تعليق: 4.(74) انظر تفسير"مبين" فيما سلف ص: 3 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة: "يبين عن أمر عمله" ، والصواب من المخطوطة.

وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)


القول في تأويل قوله : وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: " ولولا فضل الله عليك ورحمته "، ولولا أن الله تفضل عليك، يا محمد، (75) فعصمك بتوفيقه وتبيانه لك أمر هذا الخائن، فكففت لذلك عن الجدال عنه، ومدافعة أهل الحق عن حقهم قِبَله=" لهمت طائفة منهم "، يقول: لهمت فرقة منهم، (76) يعني: من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم=" أن يضلوك "، يقول: يزلُّوك عن طريق الحق، (77) وذلك لتلبيسهم أمر الخائن عليه صلى الله عليه وسلم، وشهادتهم للخائن عنده بأنه بريء مما ادعى عليه، ومسألتهم إياه أن يعذره ويقوم بمعذرته في أصحابه، فقال الله تبارك وتعالى: وما يضل هؤلاء الذين هموا بأن يضلوك عن الواجب من الحكم في أمر هذا الخائن درعَ جاره،" إلا أنفسهم ".* * *فإن قال قائل: ما كان وجه إضلالهم أنفسَهم؟قيل: وجهُ إضلالهم أنفسهم: أخذُهم بها في غير ما أباح الله لهم الأخذَ بها فيه من سبله. وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان تقدّم إليهم فيما تقدّم في كتابه على لسان رسوله إلى خلقه، بالنهي عن أن يتعاونوا على الإثم والعدوان، والأمر بالتعاون على الحق. فكان من الواجب لله فيمن سعى في أمر الخائنين الذين وصف الله أمرهم بقوله: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ، معاونة من ظلموه، دون من خاصمهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب حقه منهم. فكان سعيهم في معونتهم، دون معونة من ظلموه، أخذًا منهم في غير سبيل الله. وذلك هو إضلالهم أنفسهم الذي وصفه الله فقال: " وما يضلون إلا أنفسهم ".* * *=" وما يضرونك من شيء "، وما يضرك هؤلاء الذين هموا لك أن يزلُّوك عن الحق في أمر هذا الخائن من قومه وعشيرته=" من شيء "، لأن الله مثبِّتك ومسدِّدك في أمورك، ومبيِّن لك أمر من سعوا في إضلالك عن الحق في أمره وأمرهم، ففاضِحُه وإياهم.= وقوله: " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة "، يقول: ومن فضل الله عليك، يا محمد، مع سائر ما تفضَّل به عليك من نعمه، أنه أنزل عليك " الكتاب "، وهو القرآن الذي فيه بيان كل شيء وهدًى وموعظة=" والحكمة "، يعني: وأنزل عليك مع الكتاب الحكمة، وهي ما كان في الكتاب مجملا ذكره، من حلاله وحرامه، وأمره ونهيه، وأحكامه، ووعده ووعيده (78) =" وعلمك ما لم تكن تعلم " من خبر الأولين والآخرين، وما كان وما هو كائن، فكل ذلك من فضل الله عليك، يا محمد، مُذْ خلقك، (79) فاشكره على ما أولاك من إحسانه إليك، بالتمسك بطاعته، والمسارعة إلى رضاه ومحبته، ولزوم العمل بما أنزل إليك في كتابه وحكمته، ومخالفة من حاول إضلالك عن طريقه ومنهاج دينه، فإن الله هو الذي يتولاك بفضله، ويكفيك غائلة من أرادك بسوء وحاول صدّك عن سبيله، كما كفاك أمر الطائفة التي همت أن تضلك عن سبيله في أمر هذا الخائن. ولا أحد دونه ينقذك من سوء إن أراد بك، إن أنت خالفته في شيء من أمره ونهيه، واتبعت هوى من حاول صدَّك عن سبيله.* * *وهذه الآية تنبيهٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم على موضع خطئه، (80) وتذكيرٌ منه له الواجبَ عليه من حقه.* * *---------------(75) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف من فهارس اللغة.(76) انظر تفسير"طائفة" فيما سلف 141 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.(77) انظر تفسير"الإضلال" فيما سلف 8 : 507 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.(78) انظر تفسير"الحكمة" فيما سلف 3 : 87 ، 88 ، 211 / 5 : 15 ، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة.(79) في المطبوعة والمخطوطة: "وما كان وما هو كائن قبل ذلك من فضل الله عليك" ، وهو غير مستقيم ، والصواب ما أثبت ، "فكل" مكان"قبل".(80) في المطبوعة: "موضع حظه" ، وهي في المخطوطة غير منقوطة ، وهذا صواب قراءتها موافقا لسياق القصة.

الصفحة السابقة الصفحة التالية