تفسير سورة الأنعام الصفحة 142 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 142 من المصحف


وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا۟ لِيُؤْمِنُوٓا۟ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)


القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد, آيسْ من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأصنام ، القائلين لك: " لئن جئتنا بآية لنؤمنن لك ", فإننا لو نزلنا إليهم الملائكة حتى يروها عيانًا، وكلمهم الموتى بإحيائنا إياهم حُجَّةً لك، ودلالة على نبوّتك, وأخبروهم أنك محقٌّ فيما تقول, وأن ما جئتهم به حقٌّ من عند الله, وحشرنا عليهم كل شيء فجعلناهُم لك قبلا ما آمنوا ولا صدّقوك ولا اتبعوك إلا أن يشاء الله ذلك لمن شاء منهم =(ولكن أكثرهم يجهلون)، يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن ذلك كذلك, يحسبون أن الإيمان إليهم، والكفرَ بأيديهم, متى شاؤوا آمنوا، ومتى شاؤوا كفروا . وليس ذلك كذلك, ذلك بيدي, لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته, ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته .* * *وقيل: إن ذلك نزل في المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم, وما جاء به من عند الله, من مشركي قريش .* ذكر من قال ذلك:13755- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال: نزلت في المستهزئين الذين سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم الآية, فقال: قُلْ ، يا محمد، إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ، ونزل فيهم: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا) .* * *وقال آخرون: إنما قيل: (ما كانوا ليؤمنوا)، يراد به أهل الشقاء, وقيل: (إلا أن يشاء الله)، فاستثنى ذلك من قوله: (ليؤمنوا)، يراد به أهل الإيمان والسعادة .* ذكر من قال ذلك:13756- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن ابن عباس قوله: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا)، وهم أهل الشقاء = ثم قال: (إلا أن يشاء الله)، وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان .* * *قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ ابن عباس, لأن الله جل ثناؤه عمَّ بقوله: (ما كانوا ليؤمنوا)، القوم الذين تقدّم ذكرهم في قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا .وقد يجوز أن يكون الذين سألوا الآية كانوا هم المستهزئين الذين قال ابن جريج إنهم عُنوا بهذه الآية، ولكن لا دلالة في ظاهر التنزيل على ذلك، ولا خبر تقوم به حجة بأن ذلك كذلك . والخبر من الله خارجٌ مخرجَ العموم, فالقول بأنَّ ذلك عنى به أهل الشقاء منهم أولى، لما وصفنا .* * *واختلفت القرأة في قراءة قوله: (وحشرنا عليهم كل شيء قبلا).فقرأته قرأة أهل المدينة: " قِبَلا "، بكسر " القاف " وفتح " الباء ", بمعنى: معاينةً= من قول القائل: " لقيته قِبَلا "، أي معاينة ومُجاهرةً .* * *وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين والبصريين: ( وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا )، بضم " القاف "،" والباء " .وإذا قرئ كذلك، كان له من التأويل ثلاثة أوجه:أحدها أن يكون " القبل " جمع " قبيل "، كالرُّغُف التي هي جمع " رغيف ", و " القُضُب " التي هي جمع " قضيب ", ويكون " القبل "، الضمناء والكفلاء= وإذا كان ذلك معناه, كان تأويل الكلام: وحشرنا عليهم كل شيء كُفَلاء يكفلون لهم بأن الذي نعدهم على إيمانهم بالله إن آمنوا، أو نوعدهم على كفرهم بالله إن هلكوا على كفرهم, ما آمنوا إلا أن يشاء الله .والوجه الآخر: أن يكون " القبل " بمعنى المقابلة والمواجهة, من قول القائل: " أتيتُك قُبُلا لا دُبُرًا ", إذا أتاه من قبل وجهه .والوجه الثالث: أن يكون معناه: وحشرنا عليهم كل شيء قبيلةً قبيلةً, صنفًا صنفًا, وجماعة جماعةً ، فيكون " القبل " حينئذ جمع " قبيل "، الذي هو ج مع " قبيلة ", فيكون " القبل " جمع الجمع . (1)* * *وبكل ذلك قد قالت جماعة من أهل التأويل .* ذكر من قال: معنى ذلك: معاينةً .13757- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: (وحشرنا عليهم كل شيء قبلا)، يقول: معاينة .13758- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (وحشرنا عليهم كل شيء قبلا)، حتى يعاينوا ذلك معاينة=(ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) .* * ** ذكر من قال: معنى ذلك: قبيلة قبيلة، صنفًا صنفًا .13759- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن يزيد: من قرأ: (قُبُلا)، معناه: قبيلا قبيلا .13760- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال مجاهد: (قُبُلا)، أفواجًا, قبيلا قبيلا .13761- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أحمد بن يونس, عن أبي خيثمة قال، حدثنا أبان بن تغلب قال، حدثني طلحة أن مجاهدًا قرأ في" الأنعام ": (كل شيء قُبُلا)، قال: قبائل, قبيلا وقبيلا وقبيلا .* * ** ذكر من قال: معناه: مقابلةً .13762- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا)، يقول: لو استقبلهم ذلك كله, لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله .13763- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وحشرنا عليهم كل شيء قبلا)، قال: حشروا إليهم جميعًا, فقابلوهم وواجهوهم .13764- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن يزيد: قرأ عيسى: (قُبُلا) ومعناه: عيانًا .* * *قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا, قراءةُ من قرأ: ( وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا )، بضم " القاف " و " الباء "، لما ذكرنا من احتمال ذلك الأوجهَ التي بينّا من المعاني, وأن معنى " القِبَل " داخلٌ فيه, وغير داخل في القبل معاني" القِبَل " .* * *وأما قوله: (وحشرنا عليهم)، فإن معناه: وجمعنا عليهم, وسقنا إليهم . (2)-------------------------الهوامش :(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 350 ، 351 .(2) انظر تفسير (( حشر )) فيما سلف 457 : 11 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَٰطِينَ ٱلْإِنسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)


القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًاقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مسلِّيَه بذلك عما لقي من كفرة قومه في ذات الله, وحاثًّا له على الصبر على ما نال فيه: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا)، يقول: وكما ابتليناك، يا محمد، بأن جعلنا لك من مشركي قومك أعداء شياطينَ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول، ليصدُّوهم بمجادلتهم إياك بذلك عن اتباعك والإيمان بك وبما جئتهم به من عند ربّك، كذلك ابتلينا من قبلك من الأنبياء والرسّل, بأن جعلنا لهم أعداءً من قومهم يؤذُونهم بالجدال والخصومات. يقول: فهذا الذي امتحنتك به، لم تخصص به من بينهم وحدك, بل قد عممتهم بذلك معك لأبتليهم وأختبرهم، مع قدرتي على منع من آذاهم من إيذائهم, فلم أفعل ذلك إلا لأعرف أولي العزم منهم من غيرهم. يقول: فاصبر أنتَ كما صبر أولو العزم من الرسل .* * *وأما " شياطين الإنس والجن "، فإنهم مَرَدتهم ، وقد بينا الفعل الذي منه بُنِي هذا الاسم، بما أغنى عن إعادته . (3)* * *ونصب " العدو " و " الشياطين " بقوله: (جعلنا) . (4)* * *وأما قوله: (يُوحِي بعضُهم إلى بعض زخرف القول غرورًا)، فإنه يعني أنّه يلقي الملقي منهم القولَ، الذي زيّنه وحسَّنه بالباطل إلى صاحبه, ليغترّ به من سمعه، فيضلّ عن سبيل الله . (5)* * *ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (شياطين الإنس والجن).فقال بعضهم: معناه: شياطين الإنس التي مع الإنس, وشياطين الجن التي مع الجنّ، وليس للإنس شياطين .* ذكر من قال ذلك:13765- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ولو شاء ربك ما فعلوه)، أما " شياطين الإنس "، فالشياطين التي تضلّ الإنس=" وشياطين الجن "، الذين يضلون الجنّ، يلتقيان، فيقول كل واحد منهما: " إني أضللت صاحبي بكذا وكذا, وأضللت أنت صاحبك بكذا وكذا ", فيعلم بعضُهم بعضًا .13766- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم, عن شريك, عن سعيد بن مسروق, عن عكرمة: (شياطين الإنس والجن)، قال: ليس في الإنس شياطين، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس, وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن . (6)13767- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن السدي في قوله: (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا)، قال: للإنسان شيطان, وللجنّي شيطان, فيلقَى شيطان الإنس شيطان الجن, فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا .* * *قال أبو جعفر: جعل عكرمة والسدي في تأويلهما هذا الذي ذكرت عنهما، عدوّ الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا)، أولادَ إبليس، دون أولاد آدم، ودون الجن= وجعل الموصوفين بأن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول غرورًا, ولدَ إبليس, وأن مَنْ مع ابن آدم من ولد إبليس يوحي إلى مَنْ مع الجن من ولده زخرفَ القول غرورًا .وليس لهذا التأويل وجه مفهوم, لأن الله جعل إبليس وولده أعداءَ ابن آدم, فكل ولده لكل ولده عدوّ. وقد خصّ الله في هذه الآية الخبر عن الأنبياء أنه جعل لهم من الشياطين أعداءً. فلو كان معنيًّا بذلك الشياطين الذين ذكرهم السدي, الذين هم ولد إبليس, لم يكن لخصوص الأنبياء بالخبرِ عنهم أنه جعل لهم الشياطين أعداءً، وجهٌ . وقد جعل من ذلك لأعدى أعدائه، مثل الذي جعل لهم. ولكن ذلك كالذي قلنا، من أنه معنيٌّ به أنه جعل مردة الإنس والجن لكل نبي عدوًّا يوحي بعضهم إلى بعض من القول ما يؤذيهم به .* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .13768- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن حميد بن هلال قال، حدثني رجل من أهل دمشق, عن عوف بن مالك, عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا ذر, هل تعوَّذت بالله من شر شياطين الإنس والجنّ؟ قال: قلت: يا رسول الله, هل للإنس من شياطين؟ قال: نعم! (7)13769- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة, عن ابن عائذ, عن أبي ذر, أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس, قال فقال: يا أبا ذر, هل صلَّيت؟ قال قلت: لا يا رسول الله. قال: قم فاركع ركعتين. قال: ثم جئت فجلستُ إليه فقال: يا أبا ذر، هل تعوَّذت بالله من شرِّ شياطين الإنس والجن؟ قال قلت: يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم, شرٌّ من شياطين الجن! (8)13770- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: بلغني أن أبا ذر قام يومًا يُصلّي, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تعوَّذ يا أبا ذر، من شياطين الإنس والجن. فقال: يا رسول الله، أوَ إنّ من الإنس شياطين؟ قال: نعم! (9)* * *وقال آخرون في ذلك بنحو الذي قلنا: من أن ذلك إخبارٌ من الله أنّ شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض .* ذكر من قال ذلك:13771- حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: (شياطين الإنس والجن)، قال: من الجن شياطين, ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض = قال قتادة: بلغني أن أبا ذر كان يومًا يصلّي, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تعوَّذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن. فقال: يا نبي الله, أوَ إن من الإنس شياطين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم!13772- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس والجن)، الآية, ذكر لنا أنّ أبا ذر قام ذات يوم يصلي, فقال له نبي الله: تعوّذ بالله من شياطين الجن والإنس. فقال: يا نبي الله، أوَ للإنس شياطين كشياطين الجن؟ قال: " نعم, أوَ كذَبْتُ عليه؟" (10)13773- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال مجاهد: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوَّا شياطين الإنس والجن)، فقال: كفار الجنّ شياطين، يوحون إلى شياطين الإنس، كفارِ الإنس، زخرفَ القول غرورًا .* * *وأما قوله: (زُخرف القول غرورًا)، فإنه المزيَّن بالباطل، كما وصفت قبل. يقال منه: " زخرف كلامه وشهادته "، إذا حسَّن ذلك بالباطل ووشّاه ، كما:-13774- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم, عن شريك, عن سعيد بن مسروق, عن عكرمة قوله: (زخرف القول غرورًا) قال: تزيين الباطل بالألسنة .13775- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما " الزخرف ", فزخرفوه، زيَّنوه .13776- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (زخرف القول غرورًا)، قال: تزيين الباطل بالألسنة .13777- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .13778- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (زخرف القول غرورًا)، يقول: حسَّن بعضهم لبعضٍ القول ليتّبعوهم في فتنتهم .13779- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (زخرف القول غرورًا) قال: " الزخرف "، المزيَّن, حيث زيَّن لهم هذا الغرور, كما زيَّن إبليس لآدم ما جاءه به وقاسمه إنه له لمن الناصحين . وقرأ: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ، [سورة فصلت: 25]. قال: ذلك الزخرف .* * *وأما " الغرور "، فإنه ما غرّ الإنسان فخدعه فصدَّه عن الصواب إلى الخطأ وعن الحق إلى الباطل (11) = وهو مصدر من قول القائل: " غررت فلانًا بكذا وكذا, فأنا أغرُّه غرورًا وغرًّا . كالذي:-13780- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( غرورًا ) قال: يغرّون به الناسَ والجنّ .* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شئت، يا محمد، أن يؤمن الذين كانوا لأنبيائي أعداءً من شياطين الإنس والجن فلا ينالهم مكرهم ويأمنوا غوائلهم وأذاهم, فعلتُ ذلك، ولكني لم أشأ ذلك، لأبتلي بعضهم ببعض، فيستحق كل فريق منهم ما سبق له في الكتاب السابق =(فذرهم)، يقول: فدعهم (12) = يعني الشياطين الذين يجادلونك بالباطل من مشركي قومك ويخاصمونك بما يوحي إليهم أولياؤهم من شياطين الإنس والجن=(وما يفترون)، يعني: وما يختلقون من إفك وزور. (13)يقول له صلى الله عليه وسلم: اصبر عليهم، فإني من وراء عقابهم على افترائهم على الله، واختلاقهم عليه الكذبَ والزور .---------------------الهوامش :(3) انظر تفسير (( الشيطان )) فيما سلف 1 : 111 ، 112 ، 296 .(4) انظر معاني القرآن 1 : 351 .(5) انظر تفسير (( الوحي )) فيما سلف من فهارس اللغة ( وحي ) .(6) الأثر : 13466 - (( سعيد بن مسروق الثوري )) ، مضى برقم : 7162 .(7) الأثر : 13768 - (( حميد بن هلال العدوي )) ، ثقة ، متكلم فيه . سمع من (( عوف ابن مالك )) ، ولكنه رواه بالوسطة ، عن مجهول : (( رجل من أهل دمشق )) . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 344 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 /230 .و (( عوف بن مالك بن نضلة الجشمي )) ، ثقة ، مضى برقم : 6172 ، 12825 ، 12826 لم يذكر أنه سمع من أبي ذر . وهذا الخبر فيه مجهول . ذكره ابن كثير في تفسيره 3 : 380(8) الأثر : 13769 - كان في إسناد هذا الخبر خطأ فاحش ، وقع شك من سهو الناسخ وعجلته ، فإنه كتب (( حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة ، عن أبي عن ابن عباس ، أبي عبد الله محمد بن أيوب )) ، ثم ضرب على (( ابن عباس )) . ولكنه ترك (( عن علي بن أبي طلحة )) ، وهو خطأ لا شك فيه كما سترى بعد . وسبب ذلك إسناد أبي جعفر المشهور وهو : (( حدثني المثنى ، قال حدثنا عبد الله صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس )) وهو إسناد دائر في التفسير ، آخره رقم : 13756 ، فجعل فكتب الإسناد المشهور ، ثم استدرك فضرب على (( ابن عباس )) ، والصواب أن يضرب أيضًا على (( علي بن أبي طلحة )) ، لأن هذا إسناد مختلف عن الأول كل الاختلاف ، ولذلك حذفت (( عن علي بن أبي طلحة )) ، مع ثبوته في المخطوطة والمطبوعة ، ولكن ابن كثير ذكره في التفسير على الصواب 3 : 379 ، كما أثبته .و (( أبو عبد الله محمد بن أيوب )) ، كأنه أيضًا خطأ من الناسخ ، وصوابه : (( أبو عبد الملك محمد بن أيوب )) لما سترى .(( محمد بن أيوب الأزدي )) ، (( أبو عبد الملك )) ، قال البخاري في الكبير 1 / 1 /29 ، 30 ( محمد بن أيوب أبو عبد الملك الأزدي ، عن ابن عائذ ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : آدم نبي مكلم . قال لنا : عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن محمد بن أيوب ، حديثه في الشاميين . سمع منه معاوية بن صالح )) وترجمة ابن أبي حاتم 3 / 2 / 196 ، 197 ، فذكر مثله .و (( ابن عائذ )) هو (( عبد الرحمن بن عائذ الثمالي )) ، ويقال : الأزدي الكندي ، ويقال : اليحصبي . وروى له الأربعة ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 270 ، وكان ابن عائذ من حملة العلم ، يطلبه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحاب أصحابه . روى عن عمر وعلي مرسلا . وفي التهذيب انه روى عنهما وعن أبي ذر ، وعن غيرهم من الصحابة ، ولم يذكر (( مرسلا )) .وذكر ابن كثير هذا الأثر والذي يليه في تفسيره 3 : 379 ثم قال : (( وهذا أيضًا فيه انقطاع )) ، وتبين من تفسيره إسناده أنه غير منقطع . ثم قال : (( وروى متصلا كما قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا المسعودي ، أنبأني أبو عمر الدمشقي ، عن عبيد بن الخشخاش ، عن أبي ذر قال : ... )) وذكر الحديث ، وهو بطوله في مسند أحمد 5 : 178 ، 179 .ثم ذكر ابن كثير طرقًا أخرى للحديث ثم قال : (( فهذه طرق لهذا الحديث ، ومجموعها يفيد قوته وصحته ، والله أعلم )) .(9) الأثر : 13770 - هذا أثر منقطع ، انظر التعليق على الخبر السالف ، وما قاله ابن كثير .(10) قوله : (( أو كذبت عليه )) ، استنكار من رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤال أبي ذر ، فإن نص التنزيل دال على ذلك ، ورسول الله هو الصادق المصدق المبلغ عن ربه الحق الذي لا كذب فيه .(11) انظر تفسير (( الغرور )) فيما سلف 7 : 453 / 9 : 224 .(12) انظر تفسير (( ذر )) فيما سلف ص : 46 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .(13) انظر تفسير (( الافتراء )) فيما سلف : 11 : 533 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

وَلِتَصْغَىٰٓ إِلَيْهِ أَفْـِٔدَةُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْءَاخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا۟ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113)


القول في تأويل قوله تعالى : وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا =(ولتصغى إليه)، يقول جل ثناؤه: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المزيَّن من القول بالباطل, ليغرّوا به المؤمنين من أتباع الأنبياء فيفتنوهم عن دينهم=(ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة)، يقول: ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة .* * *= وهو من " صغَوْت تَصْغَى وتصغُو "= والتنزيل جاء ب " تصغَى " =" صَغْوًا، وصُغُوًّا "، وبعض العرب يقول: " صغيت "، بالياء، حكي عن بعض بني أسد: " صَغيت إلى حديثه, فأنا أصغَى صُغِيًّا " بالياء, وذلك إذا ملت. يقال: " صَغْوِي معك "، إذا كان هواك معه وميلك, مثل قولهم: " ضِلَعِي معك ". ويقال: " أصغيت الإناء " إذا أملته ليجتمع ما فيه، ومنه قول الشاعر: (14)تَرَى السَّفِيهَ بِهِ عَنْ كُلِّ مُحْكَمَةٍزَيْغٌ, وفيهِ إلَى التَّشْبِيهِ إصْغَاءُ (15)ويقال للقمر إذا مال للغيوب: " صغا " و " أصغى " .* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .* ذكر من قال ذلك:13781- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن على بن أبي طلحة, عن ابن عباس: (ولتصغى إليه أفئدة)، يقول: تزيغ إليه أفئدة .13782- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة)، قال: لتميل .13783- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة)، يقول: تميل إليه قلوبُ الكفار، ويحبونه، ويرضون به .13784- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة )، قال: " ولتصغى "، وليهووا ذلك وليرضوه. قال: يقول الرجل للمرأة: " صَغَيْت إليها "، هويتها .* * *القول في تأويل قوله : وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وليكتسبوا من الأعمال ما هم مكتسبون .* * *حكي عن العرب سماعًا منها: " خرج يقترف لأهله ", بمعنى يكسب لهم. ومنه قيل: " قارف فلان هذا الأمر "، إذا واقعه وعمله .وكان بعضهم يقول: هو التهمة والادعاء. يقال للرجل: " أنت قَرَفْتَنِي"، أي اتهمتني. ويقال: " بئسما اقترفتَ لنفسك " ، وقال رؤبة:أَعْيَا اقْتِرَافُ الكَذِبِ المَقْرُوفِتَقْوَى التَّقِي وعِفَّةَ العَفِيفِ (16)* * *وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: (وليقترفوا)، قال أهل التأويل .* ذكر من قال ذلك:13785- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: (وليقترفوا ما هم مقترفون)، وليكتسبوا ما هم مكتسبون .13786- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (وليقترفوا ما هم مقترفون)، قال: ليعملوا ما هم عاملون .13787- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وليقترفوا ما هم مقترفون)، قال: ليعملوا ما هم عاملون .---------------------------الهوامش :(14) لم أعرف قائله .(15) اللسان ( صغا ) ، وأيضًا في تفسير أبي حيان 4 : 205 ، والقرطبي 7 : 69 ، وفي اللسان والقرطبي : (( عن كل مكرمة )) ، وكأن الصواب ما تفسير ابن جرير ، وأبي حيان ، وكأن الشاعر يريد الذين يتبعون ما تشابه من آيات كتاب الله ، ويعرضون عن المحكم من آياته .(16) ليسا في ديوانه ، وهما في مجاو القرآن 1 : 205 .

أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِى حَكَمًا وَهُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَٰبَ مُفَصَّلًا وَٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ (114)


القول في تأويل قوله : أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام, القائلين لك: " كفَّ عن آلهتنا، ونكف عن إلهك ": إن الله قد حكم عليّ بذكر آلهتكم بما يكون صدًّا عن عبادتها=(أفغير الله أبتغي حكمًا)، أي: قل: فليس لي أن أتعدَّى حكمه وأتجاوزه, لأنه لا حَكَم أعدل منه، ولا قائل أصدق منه (17) =(وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) يعني القرآن=" مفصَّلا ", يعني: مبينًا فيه الحكم فيما تختصمون فيه من أمري وأمركم .* * *وقد بينا معنى: " التفصيل "، فيما مضى قبل . (18)القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن أنكر هؤلاء العادلون بالله الأوثان من قومك توحيدَ الله, وأشركوا معه الأندادَ, وجحدوا ما أنزلته إليك, وأنكروا أن يكون حقًا وكذَّبوا به = فالذين آتيناهم الكتاب ، وهو التوراة والإنجيل ، من بني إسرائيل=(يعلمون أنه منزل من ربّك)، يعني: القرآن وما فيه =(بالحق) يقول: فصلا بين أهل الحق والباطل, يدلُّ على صدق الصادق في علم الله, (19) وكذبِ الكاذب المفتري عليه =(فلا تكونن من الممترين)، يقول: فلا تكونن، يا محمد، من الشاكين في حقيقة الأنباء التي جاءتك من الله في هذا الكتاب، وغيرِ ذلك مما تضمنه، لأن الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنَّه منزل من ربك بالحق .* * *وقد بيَّنا فيما مضى ما وجه قوله: (فلا تكونن من الممترين)، بما أغنى عن إعادته، مع الرواية المروية فيه ، (20) وقد:13788- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: (فلا تكونن من الممترين)، يقول: لا تكونن في شك مما قصَصنا عليك .---------------------الهوامش :(17) انظر تفسير (( الحكم )) فيما سلف من فهارس اللغة ( حكم ) .(18) انظر تفسير (( التفصيل )) فيما سلف 11 : 394 .(19) في المطبوعة : (( الصادق في علم الله )) ، وفي المخطوطة : (( الصادق علم الله )) ، والصواب ما أثبت .(20) انظر تفسير (( الأمتراء )) فيما سلف 3 : 190 - 192 / 6 : 472 ، 473 / 11 : 260

وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ (115)


القول في تأويل قوله : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكملت =" كلمة ربك ", يعني القرآن .* * *سماه " كلمة "، كما تقول العرب للقصيدة من الشعر يقولها الشاعر: " هذه كلمة فلان ". (21) .* * *=(صدقًا وعدلا)، يقول: كملت كلمة ربك من الصدق والعدل.* * *و " الصدق " و " العدل " نصبا على التفسير للكلمة, كما يقال: " عندي عشرون درهما " . (22)=(لا مبدِّل لكلماته)، يقول: لا مغيِّر لما أخبر في كتبه أنه كائن من وقوعه في حينه وأجله الذي أخبر الله أنه واقع فيه ، (23) وذلك نظير قوله جل ثناؤه يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ،[سورة الفتح:15]. فكانت إرادتهم تبديل كلام الله، مسألتهم نبيَّ الله أن يتركهم يحضرون الحرب معه, وقولهم له ولمن معه من المؤمنين: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ، بعد الخبر الذي كان الله أخبرهم تعالى ذكره في كتابه بقوله: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا الآية، [سورة التوبة: 83] , فحاولوا تبديل كلام الله وخبره بأنهم لن يخرجوا مع نبي الله في غَزاةٍ, ولن يقاتلوا معه عدوًّا بقولهم لهم: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ، فقال الله جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " يريدون أن يبدلوا "= بمسألتهم إياهم ذلك= كلامَ الله وخبره: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ . فكذلك معنى قوله: (لا مبدِّل لكلماته)، إنما هو: لا مغيِّر لما أخبرَ عنه من خبر أنه كائن، فيبطل مجيئه وكونه ووُقُوعه على ما أخبرَ جل ثناؤه، لأنه لا يزيد المفترون في كتب الله ولا ينقصون منها. وذلك أن اليهود والنصارى لا شك أنهم أهلُ كتب الله التي أنزلها على أنبيائه, وقد أخبر جل ثناؤه أنهم يحرِّفون غيرَ الذي أخبر أنَّه لا مبدِّل له .* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .* ذكر من قال ذلك:13789- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلا لا مبدل لكلماته)، يقول: صدقًا وعدلا فيما حكَم .* * *وأما قوله: (وهو السميع العليم)، فإن معناه: والله " السميع "، لما يقول هؤلاء العادلون بالله, المقسمون بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها, وغير ذلك من كلام خلقه=" العليم "، بما تؤول إليه أيمانهم من برٍّ وصدق وكذب وحِنْثٍ، وغير ذلك من أمور عباده . (24)----------------الهوامش :(21) انظر تفسير (( الكلمة )) فيما سلف 3 : 7 - 17 / 6 : 371 ، 410 - 412 / 8 : 432 / 9 : 410 / 10 : 129 ، 313(22) (( التفسير )) ، هو (( التميز )) ، انظر فهارس المصطلحات فيما سلف .(23) انظر تفسير (( التبديل )) فيما سلف 11 : 335 ، وفهارس اللغة ( بدل ) .(24) انظر تفسير (( السميع )) و (( العليم )) فيما سلف من فهارس اللغة ( سمع ) و ( علم ) .

وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)


القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (116)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تطع هؤلاء العادلين بالله الأنداد، يا محمد، فيما دعوك إليه من أكل ما ذبحوا لآلهتهم, وأهلُّوا به لغير ربهم، وأشكالَهم من أهل الزيغ والضلال, فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن دين الله، ومحجة الحق والصواب، فيصدُّوك عن ذلك .وإنما قال الله لنبيه: (وإن تطع أكثر من في الأرض)، من بني آدم, لأنهم كانوا حينئذ كفارًا ضلالا فقال له جل ثناؤه: لا تطعهم فيما دعوك إليه, فإنك إن تطعهم ضللت ضلالهم، وكنتَ مثلهم، لأنهم لا يدعونك إلى الهدى وقد أخطئوه . ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الذين نَهَى نبيه عن طاعتهم فيما دعوه إليه في أنفسهم, فقال: (إن يتبعون إلا الظن)، فأخبر جل ثناؤه أنهم من أمرهم على ظن عند أنفسهم, وحسبان على صحة عزمٍ عليه، (25) وإن كان خطأ في الحقيقة =(وإن هم إلا يخرصون)، يقول: ما هم إلا متخرِّصون، يظنون ويوقعون حَزْرًا، لا يقينَ علمٍ. (26)* * *يقال منه: " خرَصَ يخرُصُ خَرْصًا وخروصًا "، (27)أي كذب، و " تخرّص بظن "، و " تخرّص بكذب ", و " خرصتُ النخل أخرُصه ", و " خَرِصَتْ إبلك "، أصابها البردُ والجوع .------------------الهوامش :(25) هكذا في المطبوعة و المخطوطة ، وأنا في شك من صوابه .(26) انظر مجاز القرآن أبي عبيدة 1 : 206 .(27) في المطبوعة : (( خرصا وخرصا )) ، وأثبت ما في المخطوطة ، ولم أجد (( خروصًا )) ، مصدرًا لهذا الفعل ، في شيء مما بين يدي من كتب اللغة ، ولكن ذكره أبو حيان في تفسيره أيضًا 4 : 205 .

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ (117)


القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن ربك الذي نهاك أن تطيع هؤلاء العادلين بالله الأوثانَ, لئلا يُضِلوك عن سبيله, هو أعلم منك ومن جميع خلقه أيُّ خلقه يَضلّ عن سبيله بزخرف القول الذي يوحِي الشياطين بعضُهم إلى بعض, فيصدُّوا عن طاعته واتباع ما أمر به =(وهو أعلم بالمهتدين)، يقول: وهو أعلم أيضًا منك ومنهم بمن كان على استقامة وسدادٍ, لا يخفى عليه منهم أحد . يقول: واتبع، يا محمد، ما أمرتك به, وانته عما نهيتك عنه من طاعة مَنْ نهيتك عن طاعته, فإني أعلم بالهادي والمضلِّ من خلقي، منك .* * *واختلف أهل العربية في موضع: " مَن " في قوله: (إن ربك هو أعلم من يضل) .فقال بعض نحويي البصرة: موضعه خفض بنيّة " الباء ". قال: ومعنى الكلام: إن ربك هو أعلم بمن يضِلُّ . (28)* * *وقال بعض نحويي الكوفة: موضعه رفع, لأنه بمعنى " أيّ"، والرافع له " يضلّ" . (29)* * *قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنه رفع ب" يضل "، وهو في معنى " أيّ". وغير معلوم في كلام العرب اسم مخفوض بغير خافض، فيكون هذا له نظيرا.* * *وقد زعم بعضهم أن قوله: (أعلم)، في هذا الموضع بمعنى " يعلم ", واستشهد لقيله ببيت حاتم الطائي:فَحَالَفَتْ طَيّئٌ مِنْ دُونِنَا حِلِفًاوَاللهُ أَعْلَمُ ما كُنَّا لَهُمْ خُذْلا (30)وبقول الخنساء:القَوْمُ أَعْلَمُ أَنَّ جَفْنَتَهُتَعْدُو غَدَاةَ الرِّيحِ أَوْ تَسري (31)وهذا الذي قاله قائل هذا التأويل، وإن كان جائزًا في كلام العرب, فليس قولُ الله تعالى ذكره: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله)، منه. وذلك أنه عطف عليه بقوله: (وهو أعلم بالمهتدين)، فأبان بدخول " الباء " في" المهتدين " أن " أعلم " ليس بمعنى " يعلم ", لأن ذلك إذ كان بمعنى " يفعل "، لم يوصل بالباء, كما لا يقال: " هو يعلم بزيد ", بمعنى: يعلم زيدًا .------------------الهوامش :(28) انظر ما سلف 11 : 560 ، تعليق : 1 ، وأن قائله هو الأخفش .(29) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1 : 352 ، وهذا قول الفراء .(30) البيت ليس في ديوان حاتم ، وهو في تفسير القرطبي 7 : 72 ، عن هذا الموضع من تفسير أبي جعفر : وقوله : (( حلف )) هو بكسر الحاء واللام ، ألحق اللام كسرة الحاء لضرورة الشعر . ولو قال (( حلفا )) ( بفتح وكسر اللام ) وهو مصدر (( حلف يحلف )) مثل (( الحلف )) ( بكسر فسكون ) ، لكان صوابًا ، لأن (( الحلف )) الذي هو العهد ، إنما سمى (( حلفًا )) بمصدر (( حلف )) بمعنى أقسم ، لأن العهد يوثق باليمين والقسم .(31) ديوانها : 104 ، في رثاء أخيها صخر ، وبعده :فَإِذَا أَضَاءَ وَجَاشَ مِرْجَلُهُفَلَنِعْمَ رَبُّ النَّارِ والقِدْرِوقولها : (( تغدو )) ، أي تغدو على قومه وضيوفه . و (( غداة الريح )) ، أي غدوة في زمن الشتاء ، في زمان القحط وقلة الألبان ، (( و تسرى )) . يعني في الليل . وقولها : (( أضاء )) ، أي أوقد ناره لتوضع عليها القدور ، ويراها الضيفان .

فَكُلُوا۟ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِـَٔايَٰتِهِۦ مُؤْمِنِينَ (118)


القول في تأويل قوله : فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين به وبآياته: " فكلوا "، أيها المؤمنون، مما ذكّيتم من ذبائحكم وذبحتموه الذبح الذي بينت لكم أنه تحلّ به الذبيحة لكم, وذلك ما ذبحه المؤمنون بي من أهل دينكم دين الحق, أو ذبحه مَنْ دان بتوحيدي من أهل الكتاب, دون ما ذبحه أهل الأوثان ومَنْ لا كتاب له من المجوس =(إن كنتم بآياته مؤمنين)، يقول: إن كنتم بحجج الله التي أتتكم وأعلامه، بإحلال ما أحللت لكم، وتحريم ما حرمت عليكم من المطاعم والمآكل، مصدّقين, ودَعوا عنكم زخرف ما توحيه الشياطين بعضها إلى بعض من زخرف القول لكم، وتلبيس دينكم عليكم غرورًا .* * *وكان عطاء يقول في ذلك ما:-13790- حدثنا به محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء قوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه)، قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح. وكل شيء يدلّ على ذكره يأمر به .

الصفحة السابقة الصفحة التالية