تفسير سورة التوبة الصفحة 195 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 195 من المصحف


لَقَدِ ٱبْتَغَوُا۟ ٱلْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا۟ لَكَ ٱلْأُمُورَ حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَهُمْ كَٰرِهُونَ (48)


يقول تعالى محرضا لنبيه عليه السلام على المنافقين : ( لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور ) أي : لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماله مدة طويلة ، وذلك أول مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته ، قال عبد الله بن أبي وأصحابه : هذا أمر قد توجه . فدخلوا في الإسلام ظاهرا ، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم ؛ ولهذا قال تعالى : ( حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون )

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّى وَلَا تَفْتِنِّىٓ أَلَا فِى ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُوا۟ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌۢ بِٱلْكَٰفِرِينَ (49)


يقول تعالى : ومن المنافقين من يقول لك يا محمد : ( ائذن لي ) في القعود ( ولا تفتني ) بالخروج معك ، بسبب الجواري من نساء الروم ، قال الله تعالى : ( ألا في الفتنة سقطوا ) أي : قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا . كما قال محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وغيرهم قالوا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم - وهو في جهازه - للجد بن قيس أخي بني سلمة : هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر ؟ فقال : يا رسول الله ، أوتأذن لي ولا تفتني ، فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر عنهن . فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : قد أذنت لك . ففي الجد بن قيس نزلت هذه : ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) الآية ، أي : إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به ، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرغبة بنفسه عن نفسه - أعظم .وهكذا روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : أنها نزلت في الجد بن قيس . وقد كان الجد بن قيس هذا من أشراف بني سلمة ، وفي الصحيح : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم : من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : الجد بن قيس ، على أنا نبخله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وأي داء أدوأ من البخل ، ولكن سيدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن معرور .وقوله تعالى : ( وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) أي : لا محيد لهم عنها ، ولا محيص ، ولا مهرب .

إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا۟ قَدْ أَخَذْنَآ أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا۟ وَّهُمْ فَرِحُونَ (50)


يعلم تبارك وتعالى نبيه بعداوة هؤلاء له ؛ لأنه مهما أصابه من ( حسنة ) أي : فتح ونصر وظفر على الأعداء ، مما يسره ويسر أصحابه ، ساءهم ذلك ، ( وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ) أي : قد احترزنا من متابعته من قبل هذا ، ( ويتولوا وهم فرحون )

قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ (51)


فأرشد الله تعالى رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة ، فقال : ( قل ) أي : لهم ( لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) أي : نحن تحت مشيئة الله وقدره ، ( هو مولانا ) أي : سيدنا وملجؤنا ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) أي : ونحن متوكلون عليه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّآ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِۦٓ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوٓا۟ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52)


يقول تعالى : ( قل ) لهم يا محمد : ( هل تربصون بنا ) ؟ أي : تنتظرون بنا ( إلا إحدى الحسنيين ) شهادة أو ظفر بكم . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهم . ( ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ) أي : ننتظر بكم هذا أو هذا ، إما أن يصيبكم الله بقارعة من عنده أو بأيدينا ، بسبي أو بقتل ، ( فتربصوا إنا معكم متربصون )

قُلْ أَنفِقُوا۟ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ (53)


وقوله : ( قل أنفقوا طوعا أو كرها ) أي : مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو مكرهين ( لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين )

وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَٰتُهُمْ إِلَّآ أَنَّهُمْ كَفَرُوا۟ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِۦ وَلَا يَأْتُونَ ٱلصَّلَوٰةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَٰرِهُونَ (54)


ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك ، وهو أنهم لا يتقبل منهم ، ( إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ) أي : [ قد كفروا ] والأعمال إنما تصح بالإيمان ، ( ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ) أي : ليس لهم قصد صحيح ، ولا همة في العمل ، ( ولا ينفقون ) نفقة ( إلا وهم كارهون )وقد أخبر الصادق المصدوق أن الله لا يمل حتى تملوا ، وأنه طيب لا يقبل إلا طيبا ؛ فلهذا لا يتقبل الله من هؤلاء نفقة ولا عملا لأنه إنما يتقبل من المتقين .

الصفحة السابقة الصفحة التالية