تفسير سورة الشعراء الصفحة 370 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 370 من المصحف


فَلَمَّا تَرَٰٓءَا ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَٰبُ مُوسَىٰٓ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)


قوله تعالى : فلما تراءى الجمعان أي تقابلا الجمعان بحيث يرى كل فريق صاحبه ; وهو " تفاعل " من الرؤية . قال أصحاب موسى إنا لمدركون أي قرب منا العدو ولا طاقة لنا به . وقراءة الجماعة : " لمدركون " بالتخفيف من " أدرك " . ومنه : حتى إذا أدركه الغرق . وقرأ عبيد بن عمير والأعرج والزهري : ( لمدركون ) بتشديد الدال من ادرك . قال الفراء : حفر واحتفر بمعنى واحد ، وكذلك " لمدركون " و " لمدركون " بمعنى واحد . النحاس : وليس كذلك يقول النحويون الحذاق ، إنما يقولون : مدركون ملحقون ، و " مدركون " مجتهد في لحاقهم ، كما يقال : كسبت بمعنى أصبت وظفرت ، واكتسبت بمعنى اجتهدت وطلبت وهذا معنى قول سيبويه .

قَالَ كَلَّآ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ (62)


قوله تعالى : قال كلا إن معي ربي سيهدين لما لحق فرعون بجمعه جمع موسى وقرب منهم ، ورأت بنو إسرائيل العدو القوي والبحر أمامهم ساءت ظنونهم ، وقالوا لموسى ، على جهة التوبيخ والجفاء : " إنا لمدركون " فرد عليهم قولهم وزجرهم وذكرهم وعد الله سبحانه له بالهداية والظفر " كلا " أي لم يدركوكم إن معي ربي أي بالنصر على العدو . " سيهدين " أي سيدلني على طريق النجاة ،

فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ (63)


فلما عظم البلاء على بني إسرائيل ; ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم بها ، أمر الله تعالى موسى أن يضرب البحر بعصاه ; وذلك أنه عز وجل أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل يفعله ; وإلا فضرب العصا ليس بفارق للبحر ، ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله تعالى واختراعه . وقد مضى في ( البقرة ) قصة هذا البحر . ولما انفلق صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بني إسرائيل ، ووقف الماء بينها كالطود العظيم ، أي الجبل العظيم . والطود الجبل ; ومنه قول امرئ القيس :فبينا المرء في الأحياء طود رماه الناس عن كثب فمالاوقال الأسود بن يعفر :حلوا بأنقرة يسيل عليهم ماء الفرات يجيء من أطوادجمع طود أي جبل . فصار لموسى وأصحابه طريقا في البحر يبسا ; فلما خرج أصحاب موسى وتكامل آخر أصحاب فرعون على ما تقدم في ( يونس ) انصب عليهم وغرق فرعون ، فقال بعض أصحاب موسى : ما غرق فرعون ; فنبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه . وروى ابن القاسم عن مالك قال : خرج مع موسى عليه السلام رجلان من التجار إلى البحر فلما أتوا إليه قالا له : بم أمرك الله ؟ قال : أمرت أن أضرب البحر بعصاي هذه فينفلق ; فقالا له افعل ما أمرك الله فلن يخلفك ، ثم ألقيا أنفسهما في البحر تصديقا له ; فما زال كذلك البحر حتى دخل فرعون ومن معه ، ثم ارتد كما كان . وقد مضى هذا المعنى في سورة ( البقرة ) .

وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلْءَاخَرِينَ (64)


قوله تعالى : وأزلفنا ثم الآخرين أي قربناهم إلى البحر ; يعني فرعون وقومه . قاله ابن عباس وغيره ; قال الشاعر :وكل يوم مضى أو ليلة سلفت فيها النفوس إلى الآجال تزدلفأبو عبيدة : " أزلفنا " جمعنا ومنه قيل لليلة المزدلفة ليلة جمع . وقرأ أبو عبد الله بن الحرث وأبي بن كعب وابن عباس : ( وأزلقنا ) بالقاف على معنى أهلكناهم ; من قوله : أزلقت الناقة وأزلقت الفرس فهي مزلق إذا أزلقت ولدها .

وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥٓ أَجْمَعِينَ (65)



ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلْءَاخَرِينَ (66)


يعني فرعون وقومه .

إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67)


إن في ذلك لآية أي علامة على قدرة الله تعالى وما كان أكثرهم مؤمنين لأنه لم يؤمن من قوم فرعون إلا مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل وابنته آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت ذا موسى العجوز التي دلت على قبر يوسف الصديق عليه السلام . وذلك أن موسى عليه السلام لما خرج ببني إسرائيل من مصر أظلم عليهم القمر فقال لقومه : ما هذا ؟ فقال علماؤهم : إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا . قال موسى : فأيكم يدري قبره ؟ قال : ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل ; فأرسل إليها ; فقال : دليني على قبر يوسف ، قالت : لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي ، قال : وما حكمك ؟ قالت : حكمي أن أكون معك في الجنة ; فثقل عليه ، فقيل له : أعطها حكمها ; فدلتهم عليه ، فاحتفروه واستخرجوا عظامه ، فلما أقلوها ، فإذا الطريق مثل ضوء النهار في رواية : فأوحى الله إليه أن أعطها ففعل ، فأتت بهم إلى بحيرة ، فقالت لهم : أنضبوا هذا الماء فأنضبوه واستخرجوا عظام يوسف عليه السلام ; فتبينت لهم الطريق مثل ضوء النهار . وقد مضى في ( يوسف ) . وروى أبو بردة عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي فأكرمه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حاجتك . قال : ناقة أرحلها وأعنزا أحلبها ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلم عجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل فقال أصحابه : وما عجوز بني إسرائيل ؟ فذكر لهم حال هذه العجوز التي احتكمت على موسى أن تكون معه في الجنة .

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ (68)


يريد المنيع المنتقم من أعدائه , الرحيم بأوليائه .

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَٰهِيمَ (69)


قوله تعالى : واتل عليهم نبأ إبراهيم نبه المشركين على فرط جهلهم إذ رغبوا عن اعتقاد إبراهيم ودينه وهو أبوهم . والنبأ الخبر ; أي اقصص عليهم يا محمد خبره وحديثه وعيبه على قومه ما يعبدون . وإنما قال ذلك ملزما لهم الحجة . والجمهور من القراء على تخفيف الهمزة الثانية وهو أحسن الوجوه ; لأنهم قد أجمعوا على تخفيف الثانية من كلمة واحدة نحو آدم . وإن شئت حققتهما فقلت : نبأ إبراهيم . وإن شئت خففتهما فقلت : ( نبا ابراهيم ) . وإن شئت خففت الأولى . وثم وجه خامس إلا أنه بعيد في العربية وهو أن يدغم الهمزة في الهمزة كما يقال رأس للذي يبيع الرءوس . وإنما بعد لأنك تجمع بين همزتين كأنهما في كلمة واحدة ، وحسن في " فعال " لأنه لا يأتي إلا مدغما .

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِۦ مَا تَعْبُدُونَ (70)


أي أي شيء تعبدون

قَالُوا۟ نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَٰكِفِينَ (71)


قالوا نعبد أصناما وكانت أصنامهم من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب . فنظل لها عاكفين أي فنقيم على عبادتها . وليس المراد وقتا معينا بل هو إخبار عما هم فيه . وقيل : كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل ، وكانوا في الليل يعبدون الكواكب . فيقال : ظل يفعل كذا إذا فعله نهارا وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا .

قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)


قال هل يسمعونكم قال الأخفش : فيه حذف ; والمعنى : هل يسمعون منكم ؟ أو هل يسمعون دعاءكم ; قال الشاعر [ زهير ] :القائد الخيل منكوبا دوابرها قد أحكمت حكمات القد والأبقاقال : والأبق الكتان فحذف . والمعنى ; وأحكمت حكمات الأبق . وفي الصحاح : والأبق بالتحريك القنب . وروي عن قتادة أنه قرأ : ( هل يسمعونكم ) بضم الياء ; أي هل يسمعونكم أصواتهم

أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)


إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون أي هل تنفعكم هذه الأصنام وترزقكم ، أو تملك لكم خيرا أو ضرا إن عصيتم ؟ ! وهذا استفهام لتقرير الحجة ; فإذا لم ينفعوكم ولم يضروا فما معنى عبادتكم لها .

قَالُوا۟ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (74)


فنزعوا إلى التقليد من غير حجة ولا دليل .وقد مضى القول فيه .

قَالَ أَفَرَءَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75)


قَالَ إبراهيم أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَمن هذه الأصنام

أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ ٱلْأَقْدَمُونَ (76)


الأولون

فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّىٓ إِلَّا رَبَّ ٱلْعَٰلَمِينَ (77)


فإنهم عدو لي واحد يؤدي عن جماعة ، وكذلك يقال للمرأة هي عدو الله وعدوة الله ؟ حكاهما الفراء . قال علي بن سليمان : من قال عدوة الله وأثبت الهاء قال هي بمعنى معادية ، ومن قال " عدو " للمؤنث والجمع جعله بمعنى النسب . ووصف الجماد بالعداوة بمعنى أنهم عدو لي إن عبدتهم يوم القيامة ; كما قال : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا . وقال الفراء : هو من المقلوب ; مجازه فإني عدو لهم لأن من عاديته عاداك . ثم قال : إلا رب العالمين قال الكلبي : أي إلا من عبد رب العالمين ; إلا عابد رب العالمين ; فحذف المضاف . قال أبو إسحاق الزجاج : قال النحويون هو استئناء ليس من الأول ; وأجاز أبو إسحاق أن يكون من الأول على أنهم كانوا يعبدون الله عز وجل ويعبدون معه الأصنام ، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله . وتأوله الفراء على الأصنام وحدها والمعنى عنده : فإنهم لو عبدتهم عدو لي يوم القيامة ; على ما ذكرنا . وقال الجرجاني : تقديره : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين فإنهم عدو لي . و " إلا " بمعنى " دون وسوى " كقوله : لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى أي دون الموتة الأولى .

ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ (78)


أي يرشدني إلى الدين .

وَٱلَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ (79)


أي يرزقني .ودخول " هو " تنبيه على أن غيره لا يطعم ولا يسقي ; كما تقول : زيد هو الذي فعل كذا ; أي لم يفعله غيره .

وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)


قال : " مرضت " رعاية للأدب وإلا فالمرض والشفاء من الله عز وجل جميعا .ونظيره قول فتى موسى : " وما أنسانيه إلا الشيطان " [ الكهف : 63 ] .

وَٱلَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ (81)


والذي يميتني ثم يحيين يريد البعث وكانوا ينسبون الموت إلى الأسباب ; فبين أن الله هو الذي يميت ويحيي . وكله بغير ياء : يهدين يشفين لأن الحذف في رءوس الآي حسن لتتفق كلها . وقرأ ابن أبي إسحاق على جلالته ومحله من العربية هذا كله بالياء ; لأن الياء اسم وإنما دخلت النون لعلة . فإن قيل : فهذه صفة لجميع الخلق فكيف جعلها إبراهيم دليلا على هدايته ولم يهتد بها غيره ؟ قيل : إنما ذكرها احتجاجا على وجوب الطاعة ; لأن من أنعم وجب أن يطاع ولا يعصى ليلتزم غيره من الطاعة ما قد التزمها ; وهذا إلزام صحيح .قلت : وتجوز بعض أهل الإشارات في غوامض المعاني فعدل عن ظاهر ما ذكرناه إلى ما تدفعه بدائة العقول من أنه ليس المراد من إبراهيم . فقال : والذي هو يطعمني ويسقين أي يطعمني لذة الإيمان ويسقين حلاوة القبول . ولهم في قوله : وإذا مرضت فهو يشفين وجهان : أحدهما : إذا مرضت بمخالفته شفاني برحمته . الثاني : إذا مرضت بمقاساة الخلق ، شفاني بمشاهدة الحق . وقال جعفر بن محمد الصادق : إذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة . وتأولوا قوله : والذي يميتني ثم يحيين على ثلاثة أوجه : فالذي يميتني بالمعاصي يحييني بالطاعات . الثاني : يميتني بالخوف ويحييني بالرجاء . الثالث : يميتني بالطمع ويحييني بالقناعة . وقول رابع : يميتني بالعدل ويحييني بالفضل . وقول خامس : يميتني بالفراق ويحييني بالتلاق . وقول سادس : يميتني بالجهل ويحييني بالعقل ; إلى غير ذلك مما ليس بشيء منه مراد من الآية ; فإن هذه التأويلات الغامضة ، والأمور الباطنة ، إنما تكون لمن حذق وعرف الحق ، وأما من كان في عمى عن الحق ولا يعرف الحق فكيف ترمز له الأمور الباطنة ، وتترك الأمور الظاهرة ؟ هذا محال . والله أعلم .

وَٱلَّذِىٓ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيٓـَٔتِى يَوْمَ ٱلدِّينِ (82)


قوله تعالى : والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي " أطمع " أي أرجو . وقيل : هو بمعنى اليقين في حقه ، وبمعنى الرجاء في حق المؤمنين سواه . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : ( خطاياي ) وقال : ليست خطيئة واحدة . قال النحاس : خطيئة بمعنى خطايا معروف في كلام العرب ، وقد أجمعوا على التوحيد في قوله عز وجل فاعترفوا بذنبهم ومعناه بذنوبهم . وكذا وأقيموا الصلاة معناه الصلوات . وكذا " خطيئتي " إن كانت خطايا . والله أعلم . قال مجاهد : يعني بخطيئته قوله : بل فعله كبيرهم هذا وقوله : إني سقيم وقوله : إن سارة أخته . زاد الحسن وقوله للكوكب : هذا ربي وقد مضى بيان هذا مستوفى . وقال الزجاج : الأنبياء بشر فيجوز أن تقع منهم الخطيئة ; نعم لا تجوز عليهم الكبائر لأنهم معصومون عنها . يوم الدين يوم الجزاء حيث يجازى العباد بأعمالهم . وهذا من إبراهيم إظهار للعبودية وإن كان يعلم أنه مغفور له . وفي صحيح مسلم عن عائشة ; قلت يا رسول الله : ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، فهل ذلك نافعه ؟ قال : لا ينفعه إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين .

رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّٰلِحِينَ (83)


قوله تعالى : رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين ( حكما ) معرفة بك وبحدودك وأحكامك ; قاله ابن عباس . وقال مقاتل : فهما وعلما ; وهو راجع إلى الأول . وقال الكلبي : نبوة ورسالة إلى الخلق . وألحقني بالصالحين أي بالنبيين من قبلي في الدرجة . وقال ابن عباس : بأهل الجنة ; وهو تأكيد قوله : هب لي حكما .

الصفحة السابقة الصفحة التالية