تفسير سورة الشعراء الصفحة 372 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 372 من المصحف


قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ (112)


قوله تعالى : قال وما علمي بما كانوا يعملون ( كان ) زائدة ; والمعنى : وما علمي بما يعملون ; أي لم أكلف العلم بأعمالهم إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان ، والاعتبار بالإيمان لا بالحرف والصنائع ; وكأنهم قالوا : إنما اتبعك هؤلاء الضعفاء طمعا في العزة والمال . فقال : إني لم أقف على باطن أمرهم وإنما إلي ظاهرهم . وقيل : المعنى إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ويرشدهم ويغويكم ويوفقهم ويخذلكم .

إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّى لَوْ تَشْعُرُونَ (113)


إن حسابهم أي في أعمالهم وإيمانهم إلا على ربي لو تشعرون وجواب " لو " محذوف ; أي لو شعرتم أن حسابهم على ربهم لما عبتموهم بصنائعهم . وقراءة العامة : " تشعرون " بالتاء على المخاطبة للكفار وهو الظاهر وقرأ ابن أبي عبلة ومحمد بن السميقع : ( لو يشعرون ) بالياء كأنه أخبر عن الكفار وترك الخطاب لهم ; نحو قوله : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم . وروي أن رجلا سأل سفيان عن امرأة زنت وقتلت ولدها وهي مسلمة هل يقطع لها بالنار ؟ فقال : إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون .

وَمَآ أَنَا۠ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ (114)


وما أنا بطارد المؤمنين أي لخساسة أحوالهم وأشغالهم . وكأنهم طلبوا منه طرد الضعفاء كما طلبته قريش .

إِنْ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (115)


إن أنا إلا نذير مبين يعني : إن الله ما أرسلني أخص ذوي الغنى دون الفقراء ، إنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به ، فمن أطاعني فذلك السعيد عند الله وإن كان فقيرا ..

قَالُوا۟ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ (116)


قوله تعالى : قالوا لئن لم تنته يا نوح أي عن سب آلهتنا وعيب ديننا لتكونن من المرجومين أي بالحجارة ; قاله قتادة . وقال ابن عباس ومقاتل : من المقتولين . قال الثمالي : كل " مرجومين " في القرآن فهو القتل إلا في مريم : لئن لم تنته لأرجمنك أي لأسبنك . وقيل : من المرجومين من المشتومين ; قاله السدي . ومنه قول أبي دؤاد

قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ (117)


قال ذلك لما يئس من إيمانهم .

فَٱفْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِى وَمَن مَّعِىَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ (118)


والفتح الحكم وقد تقدم .

فَأَنجَيْنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ فِى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ (119)


فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون يريد السفينة وقد مضى ذكرها . والمشحون المملوء ، والشحن ملء السفينة بالناس والدواب وغيرهم . ولم يؤنث الفلك هاهنا لأن الفلك هاهنا واحد لا جمع

ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ ٱلْبَاقِينَ (120)


ثم أغرقنا بعد الباقين أي بعد إنجائنا نوحا ومن آمن .

إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (121)


إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةًأي فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدلالته على أن الله قادر , لا يعجزه شيء .وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَأي مصدقين لما سبق من علمي فيهم .و " كان " هنا صلة في قول سيبويه ; تقديره : وما أكثرهم مؤمنين .

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ (122)


يريد المنيع المنتقم من أعدائه , الرحيم بأوليائه .

كَذَّبَتْ عَادٌ ٱلْمُرْسَلِينَ (123)


التأنيث بمعنى القبيلة والجماعة .وتكذيبهم المرسلين كما تقدم .

إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)


إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌأي ابن أبيهم وهي أخوة نسب لا أخوة دين .وقيل : هي أخوة المجانسة .قال الله تعالى : " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " [ إبراهيم : 4 ] وقد مضى هذا في " الأعراف " .وقيل : هو من قول العرب يا أخا بني تميم .يريدون يا واحدا منهم .الزمخشري : ومنه بيت الحماسة : لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا أَلَا تَتَّقُونَأي ألا تتقون الله في عبادة الأصنام .

إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125)


أي صادق فيما أبلغكم عن الله تعالى .وقيل : " أمين " فيما بينكم ; فإنهم كانوا عرفوا أمانته وصدقه من قبل كمحمد صلى الله عليه وسلم في قريش .

فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)


فَاتَّقُوا اللَّهَأي فاستتروا بطاعة الله تعالى من عقابه .وَأَطِيعُونِفيما آمركم به من الإيمان .

وَمَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ (127)


وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍأي لا طمع لي في مالكم .إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَأي ما جزائي " إلا على رب العالمين " .

أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ (128)


قوله تعالى : أتبنون بكل ريع آية تعبثون الريع ما ارتفع من الأرض في قول ابن عباس وغيره ، جمع ريعة . وكم ريع أرضك أي كم ارتفاعها . وقال قتادة : الريع الطريق . وهو قول الضحاك والكلبي ومقاتل والسدي . وقاله ابن عباس أيضا . ومنه قول المسيب بن علس :في الآل يخفضها ويرفعها ريع يلوح كأنه سحلشبه الطريق بثوب أبيض . النحاس : ومعروف في اللغة أن يقال لما ارتفع من الأرض ريع وللطريق ريع . قال الشاعر [ ذو الرمة ] :طراق الخوافي مشرق فوق ريعة ندى ليله في ريشه يترقرقوقال عمارة : الريع : الجبل ، الواحد ريعة والجمع رياع . وقال مجاهد : هو الفج بين الجبلين . وعنه : الثنية الصغيرة . وعنه : المنظرة . وقال عكرمة ومقاتل : كانوا يهتدون بالنجوم إذا سافروا ، فبنوا على الطريق أمثالا طوالا ليهتدوا بها : يدل عليه قوله تعالى : ( آية ) أي علامة . وعن مجاهد : الريع بنيان الحمام ، دليله ( تعبثون ) أي تلعبون ; أي تبنون بكل مكان مرتفع آية . علما تلعبون بها على معنى أبنية الحمام وبروجها . وقيل : تعبثون بمن يمر في الطريق . أي تبنون بكل موضع مرتفع لتشرفوا على السابلة فتسخروا منهم . وقال الكلبي : إنه عبث العشارين بأموال من يمر بهم ; ذكره الماوردي . وقال ابن الأعرابي : الريع الصومعة ، والريع البرج من الحمام يكون في الصحراء . والريع التل العالي . وفي الريع لغتان : كسر الراء وفتحها ، وجمعها : أرياع ، ذكره الثعلبي .

وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)


قوله تعالى : وتتخذون مصانع أي منازل ; قاله الكلبي . وقيل : حصونا مشيدة ; قال ابن عباس ومجاهد . ومنه قول الشاعر :تركنا ديارهم منهم قفارا وهدمنا المصانع والبروجاوقيل : قصورا مشيدة ; وقاله مجاهد أيضا . وعنه : بروج الحمام ; وقاله السدي . قلت : وفيه بعد عن مجاهد ; لأنه تقدم عنه في الريع أنه بنيان الحمام فيكون تكرارا في الكلام . وقال قتادة : مآجل للماء تحت الأرض . وكذا قال الزجاج : إنها مصانع الماء ، واحدتها مصنعة ومصنع . ومنه قول لبيد :بلينا وما تبلى النجوم الطوالع وتبقى الجبال بعدنا والمصانعالجوهري : المصنعة كالحوض يجتمع فيها ماء المطر ، وكذلك المصنعة بضم النون . والمصانع الحصون . وقال أبو عبيدة : يقال لكل بناء مصنعة . حكاه المهدوي . وقال عبد الرزاق : المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العادية . لعلكم تخلدون أي كي تخلدوا . وقيل : " لعل " استفهام بمعنى التوبيخ أي فهل تخلدون كقولك : لعلك تشتمني أي هل تشتمني . روي معناه عن ابن زيد . وقال الفراء : كيما تخلدون لا تتفكرون في الموت . وقال ابن عباس وقتادة : كأنكم خالدون باقون فيها . وفي بعض القراءات ( كأنكم تخلدون ) ذكره النحاس . وحكى قتادة : أنها كانت في بعض القراءات ( كأنكم خالدون ) .

وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)


قوله تعالى : وإذا بطشتم بطشتم جبارين البطش السطوة والأخذ بالعنف وقد بطش به يبطش ويبطش بطشا . وباطشه مباطشة . وقال ابن عباس ومجاهد . : البطش العسف قتلا بالسيف وضربا بالسوط . ومعنى ذلك : فعلتم ذلك ظلما . وقال مجاهد أيضا : هو ضرب بالسياط ; ورواه مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر فيما ذكر ابن العربي . وقيل : هو القتل بالسيف في غير حق . حكاه يحيى بن سلام . وقال الكلبي والحسن : هو القتل على الغضب من غير تثبت . وكله يرجع إلى قول ابن عباس . وقيل : إنه المؤاخذة على العمد والخطأ من غير عفو ولا إبقاء . قال ابن العربي : ويؤيد ما قال مالك قول الله تعالى عن موسى : فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وذلك أن موسى عليه السلام لم يسل عليه سيفا ولا طعنه برمح ، وإنما وكزه وكانت منيته في وكزته . والبطش يكون باليد وأقله الوكز والدفع ، ويليه السوط والعصا ، ويليه الحديد ، والكل مذموم إلا بحق . والآية نزلت خبرا عمن تقدم من الأمم ، ووعظا من الله عز وجل لنا في مجانبة ذلك الفعل الذي ذمهم به وأنكره عليهم .قلت : وهذه الأوصاف المذمومة قد صارت في كثير من هذه الأمة ، لا سيما بالديار المصرية منذ وليتها البحرية ; فيبطشون بالناس بالسوط والعصا في غير حق . وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك يكون . كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا . وخرج أبو دواد من حديث ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم . " جبارين " : قتالين . والجبار : القتال في غير حق . وكذلك قوله تعالى : إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض قاله الهروي . وقيل : الجبار المتسلط العاتي ; ومنه قوله تعالى : وما أنت عليهم بجبار أي بمسلط . وقال الشاعر :سلبنا من الجبار بالسيف ملكه عشيا وأطراف الرماح شوارع

فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)


فَاتَّقُوا اللَّهَأي فاستتروا بطاعة الله تعالى من عقابه وَأَطِيعُونِفيما آمركم به من الإيمان .

وَٱتَّقُوا۟ ٱلَّذِىٓ أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ (132)


أي من الخيرات ; ثم فسرها بقوله : " أمدكم بأنعام وبنين .وجنات وعيون "

أَمَدَّكُم بِأَنْعَٰمٍ وَبَنِينَ (133)


أي سخر ذلك لكم وتفضل بها عليكم , فهو الذي يجب أن يعبد ويشكر ولا يكفر .

وَجَنَّٰتٍ وَعُيُونٍ (134)


أي سخر ذلك لكم وتفضل بها عليكم , فهو الذي يجب أن يعبد ويشكر ولا يكفر .

إِنِّىٓ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)


إن كفرتم به وأصررتم على ذلك .

قَالُوا۟ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ ٱلْوَٰعِظِينَ (136)


قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين كل ذلك عندنا سواء لا نسمع منك ولا نلوي على ما تقوله . وروى العباس عن أبي عمرو وبشر عن الكسائي : ( أوعظت ) مدغمة الظاء في التاء وهو بعيد ; لأن الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما قرب منه جدا وكان مثله ومخرجه .

الصفحة السابقة الصفحة التالية