تفسير سورة النمل الصفحة 384 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 384 من المصحف


وَإِنَّهُۥ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (77)


( وإنه ) يعني القرآن لهدى ورحمة للمؤمنين خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به .

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِۦ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ (78)


إن ربك يقضي بينهم بحكمه أي يقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه في الآخرة ، فيجازي المحق والمبطل . وقيل : يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه وهو العزيز المنيع الغالب الذي لا يرد أمره العليم الذي لا يخفى عليه شيء .

فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّكَ عَلَى ٱلْحَقِّ ٱلْمُبِينِ (79)


قوله تعالى : فتوكل على الله أي فوض إليه أمرك واعتمد عليه ; فإنه ناصرك . إنك على الحق المبين أي الظاهر . وقيل : المظهر لمن تدبره وجه الصواب

إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْا۟ مُدْبِرِينَ (80)


إنك لا تسمع الموتى يعني الكفار لتركهم التدبر ; فهم كالموتى لا حس لهم ولا عقل . وقيل : هذا فيمن علم أنه لا يؤمن . ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين يعني الكفار الذين هم بمنزلة الصم عن قبول المواعظ ; فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولوا كأنهم لا يسمعون ; نظيره : صم بكم عمي كما تقدم . وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق وعباس عن أبي عمرو : ( ولا يسمع ) بفتح الياء والميم ( الصم ) رفعا على الفاعل . الباقون ( تسمع ) مضارع ( أسمعت ) الصم نصبا .

وَمَآ أَنتَ بِهَٰدِى ٱلْعُمْىِ عَن ضَلَٰلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِـَٔايَٰتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ (81)


مسألة : وقد احتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى بدر بهذه الآية ; فنظرت في الأمر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما أنتم بأسمع منهم . قال ابن عطية : فيشبه أن قصة بدر خرق عادة لمحمد صلى الله عليه وسلم في أن رد الله إليهم إدراكا سمعوا به مقاله ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة ، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين .قلت : روى البخاري رضي الله عنه ; حدثني عبد الله بن محمد سمع روح بن عبادة قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال : ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه ، قالوا : ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته ، حتى قام على شفير الركي ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ; فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ; قال : فقال عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ; فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم قال قتادة : أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما . خرجه مسلم أيضا . قال البخاري : حدثنا عثمان قال : حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه عن ابن عمر قال : وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ ثم قال : إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق ثم قرأت إنك لا تسمع الموتى حتى قرأت الآية . وقد عورضت هذه الآية بقصة بدر وبالسلام على القبور ، وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات ، وبأن الميت يسمع قرع النعال إذا انصرفوا عنه ، إلى غير ذلك ; فلو لم يسمع الميت لم يسلم عليه . وهذا واضح وقد بيناه في كتاب ( التذكرة ) . قوله تعالى : وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم أي كفرهم ; أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم . وقرأ حمزة : ( وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم ) كقوله : أفأنت تهدي العمي . الباقون : ( بهادي العمي ) وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وفي ( الروم ) مثله . وكلهم وقف على ( بهادي ) بالياء في هذه السورة وبغير ياء في ( الروم ) اتباعا للمصحف ، إلا يعقوب فإنه وقف فيهما جميعا بالياء . وأجاز الفراء وأبو حاتم : ( وما أنت بهاد العمي ) وهي الأصل . وفي حرف عبد الله ( وما أن تهدي العمي ) . إن تسمع أي ما تسمع . إلا من يؤمن بآياتنا قال ابن عباس : أي إلا من خلقته للسعادة فهم مخلصون في التوحيد .

وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ ٱلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا۟ بِـَٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)


قوله تعالى : وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم : اختلف في معنى وقع القول وفي ( الدابة ) فقيل : معنى وقع القول عليهم وجب الغضب عليهم ; قاله قتادة . وقال مجاهد : أي حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون . وقال ابن عمر وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما : إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم . وقال عبد الله بن مسعود : ( وقع القول ) يكون بموت العلماء وذهاب العلم ورفع القرآن . قال عبد الله : أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع ، قالوا : هذه المصاحف ترفع ، فكيف بما في صدور الرجال ؟ قال : يسرى عليه ليلا فيصبحون منه قفرا ، وينسون لا إله إلا الله ، ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم ، وذلك حين يقع القول عليهم .قلت : أسنده أبو بكر البزار قال : حدثنا عبد الله بن يوسف الثقفي قال : حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ابن لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن أبيه أنه قال : أكثروا من زيارة هذا البيت من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه ; وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يرفع ; قالوا : يا أبا عبد الرحمن هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال ؟ قال : فيصبحون فيقولون كنا نتكلم بكلام ونقول قولا . فيرجعون إلى شعر الجاهلية وأحاديث الجاهلية ، وذلك حين يقع القول عليهم . وقيل : القول هو قوله تعالى : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم فوقوع القول وجوب العقاب على هؤلاء ،فإذا صاروا إلى حد لا تقبل توبتهم ولا يولد لهم ولد مؤمن فحينئذ تقوم القيامة ; ذكره القشيري . وقول سادس : قالت حفصة بنت سيرين سألت أبا العالية عن قول الله تعالى : وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم فقال : أوحى الله إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وكأنما كان على وجهي غطاء فكشف . قال النحاس : وهذا من حسن الجواب ; لأن الناس ممتحنون ومؤخرون لأن فيهم مؤمنين وصالحين ، ومن قد علم الله عز وجل أنه سيؤمن ويتوب ; فلهذا أمهلوا وأمرنا بأخذ الجزية ، فإذا زال هذا وجب القول عليهم ، فصاروا كقوم نوح حين قال الله تعالى : إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن .قلت : وجميع الأقوال عند التأمل ترجع إلى معنى واحد . والدليل عليه آخر الآية إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون وقرئ : ( أن ) بفتح الهمزة وسيأتي . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا : طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض وقد مضى . واختلف في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافا كثيرا قد ذكرناه في كتاب ( التذكرة ) ونذكره هنا إن شاء الله تعالى مستوفى . فأول الأقوال أنه فصيل ناقة صالح وهو أصحها - والله أعلم - لما ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال : لها ثلاث خرجات من الدهر فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم تكمن زمانا طويلا ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشو ذكرها في البادية ويدخل ذكرها القرية . يعني مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب فارفض الناس منها شتى ومعا وتثبت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول : يا فلان الآن تصلي ؟ فتقبل عليه فتسمه في وجهه ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال ويصطلحون في الأمصار يعرف المؤمن من الكافر حتى إن المؤمن يقول : يا كافر اقض حقي . وموضع الدليل من هذا الحديث أنه الفصيل قوله : وهي ترغو . والرغاء إنما هو للإبل ; وذلك أن الفصيل لما قتلت الناقة هرب فانفتح له حجر فدخل في جوفه ثم انطبق عليه ، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله عز وجل . وروي أنها دابة مزغبة شعراء ، ذات قوائم طولها ستون ذراعا ، ويقال إنها الجساسة ; وهو قول عبد الله بن عمر وروي عن ابن عمر أنها على خلقة الآدميين ; وهي في السحاب وقوائمها في الأرض . وروي أنها جمعت من خلق كل حيوان . وذكر الماوردي والثعلبي : رأسها رأس ثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن أيل ، وعنقها عنق نعامة ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هر ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذراعا - الزمخشري : بذراع آدم عليه السلام - ويخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتنكت في وجه المسلم بعصا موسى نكتة بيضاء فيبيض وجهه ، وتنكت في وجه الكافر بخاتم سليمان عليه السلام فيسود وجهه ; قاله ابن الزبير رضي الله عنهما . وفي كتاب النقاش عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن الدابة الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة . وحكى الماوردي عن محمد بن كعب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن الدابة فقال : أما والله ما لها ذنب وإن لها للحية . قال الماوردي : وفي هذا القول منه إشارة إلى أنها من الإنس وإن لم يصرح به .قلت : ولهذا - والله أعلم - قال بعض المتأخرين من المفسرين : إن الأقرب أن تكون هذه الدابة إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم لينقطعوا ، فيهلك من هلك عن بينة : ويحيا من حيي عن بينة . قال شيخنا الإمام أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي في كتاب ( المفهم ) له : وإن ما كان عند هذا القائل الأقرب لقوله تعالى : ( تكلمهم ) وعلى هذا فلا يكون في هذه الدابة آية خاصة خارقة للعادة ، ولا يكون من العشر الآيات المذكورة في الحديث ; لأن وجود المناظرين والمحتجين على أهل البدع كثير ، فلا آية خاصة بها فلا ينبغي أن تذكر مع العشر ، وترتقع خصوصية وجودها إذا وقع القول ، ثم فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم الذي على أهل الأرض أن يسموه باسم الإنسان أو بالعالم أو بالإمام إلى أن يسمى بدابة ; وهذا خروج عن عادة الفصحاء ، وعن تعظيم العلماء ، وليس ذلك دأب العقلاء ; فالأولى ما قاله أهل التفسير ، والله أعلم بحقائق الأمور .قلت : قد رفع الإشكال في هذه الدابة ما ذكرناه من حديث حذيفة فليعتمد عليه ، واختلف من أي موضع تخرج ، فقال عبد الله بن عمر : تخرج من جبل الصفا بمكة ; يتصدع فتخرج منه . قال عبد الله بن عمرو نحوه وقال : لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت وروي في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الأرض تنشق عن الدابة وعيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون من ناحية المسعى وإنها تخرج من الصفا فتسم بين عيني المؤمن هو مؤمن سمة كأنها كوكب دري وتسم بين عيني الكافر نكتة سوداء : كافر وذكر في الخبر أنها ذات وبر وريش ; ذكره المهدوي . وعن ابن عباس أنها تخرج من شعب فتمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض لم تخرجا ، وتخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام . وعن حذيفة : تخرج ثلاث خرجات ; خرجة في بعض البوادي ثم تكمن ، وخرجة في القرى يتقاتل فيها الأمراء حتى تكثر الدماء ، وخرجة من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها وأفضلها الزمخشري : تخرج من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد ; فقوم يهربون ، وقوم يقفون نظارة . وروي عن قتادة أنها تخرج في تهامة . وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث فار تنور نوح عليه السلام . وقيل : من أرض الطائف ; قال أبو قبيل : ضرب عبد الله بن عمرو أرض الطائف برجله وقال : من هنا تخرج الدابة التي تكلم الناس وقيل : من بعض أودية تهامة ; قاله ابن عباس وقيل : من صخرة من شعب أجياد ; قاله عبد الله بن عمرو . وقيل : من بحر سدوم ; قاله وهب بن منبه . ذكر هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة الماوردي في كتابه . وذكر البغوي أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال : حدثنا علي بن الجعد عن فضيل بن مرزوق الرقاشي الأغر - وسئل عنه يحيى بن معين فقال ثقة - عن عطية العوفي عن ابن عمر قال : تخرج الدابة من صدع في الكعبة كجري الفرس ثلاثة أيام لا يخرج ثلثها .قلت : فهذه أقوال الصحابة والتابعين في خروج الدابة وصفتها ، وهي ترد قول من قال من المفسرين : إن الدابة إنما هي إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر وقد روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم ذكره الماوردي . تكلمهم بضم التاء وشد اللام المكسورة - من الكلام - قراءة العامة ; يدل عليه قراءة أبي ( تنبئهم ) . وقال السدي : تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام . وقيل : تكلمهم بما يسوءهم . وقيل : تكلمهم بلسان ذلق فتقول بصوت يسمعه من قرب وبعد ( إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ) أي بخروجي ; لأن خروجها من الآيات . وتقول : ألا لعنة الله على الظالمين . وقرأ أبو زرعة وابن عباس والحسن وأبو رجاء : ( تكلمهم ) بفتح التاء من ( الكلم ) وهو الجرح قال عكرمة : أي تسمهم . وقال أبو الجوزاء : سألت ابن عباس عن هذه الآية تكلمهم أو ( تكلمهم ) ؟ فقال : هي والله ( تكلمهم ) و ( تكلمهم ) تكلم المؤمن وتكلم الكافر والفاجر أي تجرحه . وقال أبو حاتم : ( تكلمهم ) كما تقول : تجرحهم ; يذهب إلى أنه تكثير من ( تكلمهم ) . أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق ويحيى : ( أن ) بالفتح . وقرأ أهل الحرمين وأهل الشام وأهل البصرة : ( إن ) بكسر الهمزة . قال النحاس : في المفتوحة قولان وكذا المكسورة ; قال الأخفش : المعنى ( بأن ) وكذا قرأ ابن مسعود ( بأن ) وقال أبو عبيدة : موضعها نصب بوقوع الفعل عليها ; أي تخبرهم أن الناس . وقرأ الكسائي والفراء : ( إن الناس ) بالكسر على الاستئناف وقال الأخفش : هي بمعنى : تقول : إن الناس ; يعني الكفار بآياتنا لا يوقنون يعني بالقرآن وبمحمد صلي الله عليه وسلم ، وذلك حين لا يقبل الله من كافر إيمانا ولم يبق إلا مؤمنون وكافرون في علم الله قبل خروجها ; والله أعلم .

وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِـَٔايَٰتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)


قوله تعالى : ويوم نحشر من كل أمة فوجا أي زمرة وجماعة . ممن يكذب بآياتنا يعني بالقرآن وبأعلامنا الدالة على الحق . فهم يوزعون أي يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب . قال الشماخ :وكم وزعنا من خميس جحفل وكم حبونا من رئيس مسحلوقال قتادة : يوزعون أي يرد أولهم على آخرهم .

حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبْتُم بِـَٔايَٰتِى وَلَمْ تُحِيطُوا۟ بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (84)


حتى إذا جاءوا قال أي قال لهم الله أكذبتم بآياتي التي أنزلتها على رسلي ، وبالآيات التي أقمتها دلالة على توحيدي . ولم تحيطوا بها علما أي ببطلانها حتى تعرضوا عنها ، بل كذبتم جاهلين غير مستدلين . أم ماذا كنتم تعملون تقريع وتوبيخ أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا ما فيها .

وَوَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا۟ فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ (85)


ووقع القول عليهم بما ظلموا أي وجب العذاب عليهم بظلمهم أي بشركهم . فهم لا ينطقون أي ليس لهم عذر ولا حجة . وقيل : يختم على أفواههم فلا ينطقون ; قاله أكثر المفسرين .

أَلَمْ يَرَوْا۟ أَنَّا جَعَلْنَا ٱلَّيْلَ لِيَسْكُنُوا۟ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)


قوله تعالى : ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه أي يستقرون فينامون . والنهار مبصرا أي يبصر فيه لسعي الرزق . إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون بالله . ذكر الدلالة على إلهيته وقدرته ، أي : ألم يعلموا كمال قدرتنا فيؤمنوا .

وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَٰخِرِينَ (87)


قوله تعالى : ويوم ينفخ في الصور أي واذكر يوم ، أو ذكرهم يوم ينفخ في الصور . ومذهب الفراء أن المعنى : وذلكم يوم ينفخ في الصور ; وأجاز فيه الحذف والصحيح في الصور أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل قال مجاهد : كهيئة البوق . وقيل : هو البوق بلغة أهل اليمن وقد مضى في ( الأنعام ) بيانه وما للعلماء في ذلك . ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله قال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله لما فرغ من خلق السماوات خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر بالنفخة . قلت : يا رسول الله ما الصور ؟ قال : قرن - والله - عظيم ، والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فيه كعرض السماء والأرض فينفخ فيه ثلاث نفخات : النفخة الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة البعث والقيام لرب العالمين وذكر الحديث . ذكره علي بن معبد والطبري والثعلبي وغيرهم ، وصححه ابن العربي . وقد ذكرته في كتاب ( التذكرة ) وتكلمنا عليه هنالك ، وأن الصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان لا ثلاث ، وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفخة الصعق لأن الأمرين لا زمان لهما ; أي فزعوا فزعا ماتوا منه ; أو إلى نفخة البعث . وهو اختيار القشيري وغيره ; فإنه قال في كلامه على هذه الآية : والمراد النفخة الثانية أي يحيون فزعين يقولون : من بعثنا من مرقدنا ; ويعاينون من الأمور ما يهولهم ويفزعهم ; وهذا النفخ كصوت البوق لتجتمع الخلق في أرض الجزاء . قاله قتادة وقال الماوردي : ويوم ينفخ في الصور هو يوم النشور من القبور ، قال : وفي هذا الفزع قولان : أحدهما أنه الإسراع والإجابة إلى النداء من قولهم : فزعت إليك في كذا : إذا أسرعت إلى ندائك في معونتك . والقول الثاني : إن الفزع هنا هو الفزع المعهود من الخوف والحزن ; لأنهم أزعجوا من قبورهم ففزعوا وخافوا . وهذا أشبه القولين .قلت : والسنة الثابتة من حديث أبى هريرة وحديث عبد الله بن عمرو يدل على أنهما نفختان لا ثلاث ; خرجهما مسلم وقد ذكرناهما في كتاب ( التذكرة ) وهو الصحيح إن شاء الله تعالى أنهما نفختان ; قال الله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع فدل على أنهما واحدة . وقد روى ابن المبارك عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بين النفختين أربعون سنة ، الأولى يميت الله بها كل حي والأخرى يحيي الله بها كل ميت فإن قيل : فإن قوله تعالى : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة إلى أن قال : فإنما هي زجرة واحدة وهذا يقتضي بظاهره أنها ثلاث . قيل له : ليس كذلك ، وإنما المراد بالزجرة : النفخة الثانية التي يكون عنها خروج الخلق من قبورهم ; كذلك قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وابن زيد وغيرهم . قال مجاهد : هما صيحتان أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله ، وأما الأخرى فتحيي كل شيء بإذن الله . وقال عطاء : ( الراجفة ) : القيامة و ( الرادفة ) : البعث . وقال ابن زيد : ( الراجفة ) : الموت و ( الرادفة ) : الساعة . والله أعلم . إلا من شاء الله اختلف في هذا المستثنى من هم . ففي حديث أبي هريرة أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون . إنما يصل الفزع إلى الأحياء ; وهو قول سعيد بن جبير أنهم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش وقال القشيري : الأنبياء داخلون في جملتهم ; لأن لهم الشهادة مع النبوة . وقيل : الملائكة . قال الحسن : استثنى طوائف من الملائكة يموتون بين النفختين . قال مقاتل : يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت . وقيل : الحور العين . وقيل : هم المؤمنون ، لأن الله تعالى قال عقب هذا : من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون وقال بعض علمائنا : والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل .قلت : خفي عليه حديث أبي هريرة وقد صححه القاضي أبو بكر بن العربي فليعول عليه ، لأنه نص في التعيين ، وغيره اجتهاد . والله أعلم . وقيل غير هذا على ما يأتي في ( الزمر ) وقوله ففزع من في السماوات ماض و ( ينفخ ) مستقبل فيقال : كيف عطف ماض على مستقبل ؟ فزعم الفراء أن هذا محمول على المعنى ; لأن المعنى : إذا نفخ في الصور ففزع . إلا من شاء الله نصب على الاستثناء . وكل أتوه داخرين قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي ونافع وابن عامر وابن كثير : ( آتوه ) جعلوه فعلا مستقبلا . وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة وحفص عن عاصم : ( وكل أتوه ) مقصورا ، على الفعل الماضي ، وكذلك قرأه ابن مسعود وعن قتادة ( وكل أتاه داخرين ) قال النحاس : وفي كتابي عن أبي إسحاق في القراءات من قرأ : ( وكل أتوه ) وحده على لفظ ( كل ) ومن قرأ : ( أتوه ) جمع على معناها ، وهذا القول غلط قبيح ; لأنه إذا قال : ( وكل أتوه ) فلم يوحد وإنما جمع ، ولو وحد لقال : ( أتاه ) ولكن من قال : ( أتوه ) جمع على المعنى وجاء به ماضيا لأنه رده إلى ( ففزع ) ومن قرأ ( وكل آتوه ) حمله على المعنى أيضا وقال : ( آتوه ) لأنها جملة منقطعة من الأول قال ابن نصر : قد حكي عن أبي إسحاق رحمه الله ما لم يقله ، ونص أبي إسحاق : وكل أتوه داخرين ويقرأ : ( آتوه ) فمن وحد فللفظ ( كل ) ومن جمع فلمعناها . يريد ما أتى في القرآن أو غيره من توحيد خبر ( كل ) فعلى اللفظ أو جمع فعلى المعنى ; فلم يأخذ أبو جعفر هذا المعنى قال المهدوي : ومن قرأ وكل أتوه داخرين فهو فعل من الإتيان وحمل على معنى ( كل ) دون لفظها ، ومن قرأ ( وكل آتوه داخرين ) فهو اسم الفاعل من أتى . يدلك على ذلك قوله تعالى : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ومن قرأ ( وكل أتاه ) حمله على لفظ ( كل ) دون معناها وحمل ( داخرين ) على المعنى ، ومعناه صاغرين ، عن ابن عباس وقتادة . وقد مضى في ( النحل ) .

وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِىٓ أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ إِنَّهُۥ خَبِيرٌۢ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)


قوله تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب قال ابن عباس : أي قائمة وهي تسير سيرا حثيثا . قال القتبي : وذلك أن الجبال تجمع وتسير ، فهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير ; وكذلك كل شي عظيم وجمع كثير يقصر عنه النظر ، لكثرته وبعد ما بين أطرافه ، وهو في حسبان الناظر كالواقف وهو يسير . قال النابغة في وصف جيش :بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملجقال القشيري : وهذا يوم القيامة ; أي هي لكثرتها كأنها جامدة أي واقفة في مرأى العين وإن كانت في أنفسها تسير سير السحاب - والسحاب المتراكم - يظن أنها واقفة وهي تسير ، أي تمر مر السحاب حتى لا يبقى منها شيء ، فقال الله تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا ويقال : إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها ، وإبراز ما كانت تواريه ، فأول الصفات الاندكاك وذلك قبل الزلزلة ; ثم تصير كالعهن المنفوش ; وذلك إذا صارت السماء كالمهل ، وقد جمع الله بينهما فقال : يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن . والحالة الثالثة أن تصير كالهباء وذلك أن تتقطع بعد أن كانت كالعهن . والحالة الرابعة أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها لتبرز ، فإذا نسفت فبإرسال الرياح عليها . والحالة الخامسة أن الرياح ترفعها على وجه الأرض فتظهرها شعاعا في الهواء كأنها غبار ، فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجسادا جامدة ، وهي بالحقيقة مارة ، إلا إن مرورها من وراء الرياح كأنها مندكة متفتتة . والحالة السادسة أن تكون سرابا . فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئا منها كالسراب قال مقاتل : تقع على الأرض فتسوى بها . ثم قيل هذا مثل ، قال الماوردي : وفيهما ضرب له ثلاثة أقوال :أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى للدنيا يظن الناظر إليها أنها واقفة كالجبال ، وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب ; قاله سهل بن عبد الله .الثاني : أنه مثل ضربه الله للإيمان تحسبه ثابتا في القلب وعمله صاعد إلى السماء .الثالث : أنه مثل ضربه الله للنفس عند خروج الروح والروح تسير إلى العرش . و ( ترى ) من رؤية العين ولو كانت من رؤية القلب لتعدت إلى مفعولين . والأصل ترأى فألقيت حركة الهمزة على الراء فتحركت الراء وحذفت الهمزة ، وهذا سبيل تخفيف الهمزة إذا كان قبلها ساكن ، إلا أن التخفيف لازم ل ( ترى ) . وأهل الكوفة يقرءون : ( تحسبها ) بفتح السين وهو القياس ; لأنه من : حسب يحسب ، إلا أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافها أنه قرأ بالكسر في المستقبل ، فتكون على : فعل يفعل ، مثل : نعم ينعم وبئس يبئس . وحكي : يئس ييئس ، من السالم ، لا يعرف في كلام العرب غير هذه الأحرف .وهي تمر مر السحاب تقديره : مرا مثل مر السحاب ، فأقيمت الصفة مقام الموصوف والمضاف مقام المضاف إليه ; فالجبال تزال من أماكنها من على وجه الأرض وتجمع وتسير كما تسير السحاب ، ثم تكسر فتعود إلى الأرض كما قال : وبست الجبال بسا صنع الله عند الخليل وسيبويه منصوب على أنه مصدر ; لأنه لما قال عز وجل : وهي تمر مر السحاب دل على أنه قد صنع ذلك صنعا . ويجوز النصب على الإغراء ; أي انظروا صنع الله . فيوقف على هذا على ( السحاب ) ولا يوقف عليه على التقدير الأول . ويجوز رفعه على تقدير : ذلك صنع الله . الذي أتقن كل شيء أي أحكمه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : رحم الله من عمل عملا فأتقنه . وقال قتادة : معناه : أحسن كل شيء . والإتقان : الإحكام ; يقال : رجل تقن ، أي حاذق بالأشياء وقال الزهري : أصله من ابن تقن ، وهو رجل من عاد لم يكن يسقط له سهم فضرب به المثل ; يقال : أرمى من ابن تقن . ثم يقال لكل حاذق بالأشياء : تقن . ( إنه خبير بما يفعلون ) والباقون ( تفعلون ) بالتاء على الخطاب قراءة الجمهور وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالياء .

الصفحة السابقة الصفحة التالية