تفسير سورة الواقعة الصفحة 536 من القرآن الكريم

تفسير الصفحة رقم 536 من المصحف


ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضَّآلُّونَ ٱلْمُكَذِّبُونَ (51)


ثم إنكم أيها الضالون عن الهدى المكذبون بالبعث

لَءَاكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ (52)


وهو شجر كريه المنظر , كريه الطعم , وهي التي ذكرت في سورة " والصافات " .

فَمَالِـُٔونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ (53)


فمالئون منها البطون أي من الشجرة ، لأن المقصود من الشجر شجرة . ويجوز أن تكون من الأولى زائدة ، ويجوز أن يكون المفعول محذوفا كأنه قال : لآكلون من شجر من زقوم طعاما . وقوله : من زقوم صفة لشجر ، والصفة إذا قدرت الجار زائدا نصبت على المعنى ، أو جررت على اللفظ ، فإن قدرت المفعول محذوفا لم تكن الصفة إلا في موضع جر .

فَشَٰرِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ (54)


قوله تعالى : فشاربون عليه أي على الزقوم أو على الأكل أو على الشجر ، لأنه يذكر ويؤنث .من الحميم وهو الماء المغلي الذي قد اشتد غليانه وهو صديد أهل النار . أي يورثهم حر ما يأكلون من الزقوم مع الجوع الشديد عطشا فيشربون ماء يظنون أنه يزيل العطش فيجدونه حميما مغلى .

فَشَٰرِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ (55)


قوله تعالى : فشاربون شرب الهيم قراءة نافع وعاصم وحمزة " شرب " بضم الشين . الباقون بفتحها ؛ لغتان جيدتان ، تقول العرب : شربت شربا وشربا وشربا وشربا بضمتين . قال أبو زيد : سمعت العرب تقول بضم الشين وفتحها وكسرها ، والفتح هو المصدر الصحيح ، لأن كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله فعل ، ألا ترى أنك ترده إلى المرة الواحدة ، فتقول : فعلة نحو شربة وبالضم الاسم . وقيل : إن المفتوح والاسم مصدران ، فالشرب كالأكل ، والشرب كالذكر ، والشرب بالكسر المشروب كالطحن المطحون . والهيم الإبل العطاش التي لا ترى لداء يصيبها ، عن ابن عباس وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم ، وقال عكرمة أيضا : هي الإبل المراض . الضحاك : الهيم الإبل يصيبها داء تعطش منه عطشا شديدا ، واحدها أهيم والأنثى هيماء . ويقال لذلك الداء الهيام ، قال قيس بن الملوح :يقال به داء الهيام أصابه وقد علمت نفسي مكان شفائهاوقوم هيم أيضا أي عطاش ، وقد هاموا هياما . ومن العرب من يقول في الإبل : هائم وهائمة والجمع هيم ، قال لبيد :أجزت إلى معارفها بشعث وأطلاح من العيدي هيموقال الضحاك والأخفش وابن عيينة وابن كيسان : الهيم الأرض السهلة ذات الرمل . وروي أيضا عن ابن عباس : فيشربون شرب الرمال التي لا تروى بالماء . المهدوي : ويقال لكل ما لا يروى من الإبل والرمل أهيم وهيماء . وفي الصحاح : والهيام بالضم أشد العطش . والهيام كالجنون من العشق . والهيام داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض لا ترعى . يقال : ناقة هيماء . والهيماء أيضا : المفازة لا ماء بها . والهيام بالفتح : الرمل الذي لا يتماسك أن يسيل من اليد للينه ، والجمع هيم مثل قذال وقذل . والهيام بالكسر : الإبل العطاش الواحد : هيمان ، وناقة هيماء مثل عطشان وعطشى .

هَٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ ٱلدِّينِ (56)


قوله تعالى : هذا نزلهم يوم الدين أي رزقهم الذي يعد لهم ، كالنزل الذي يعد للأضياف تكرمة لهم ، وفيه تهكم ، كما في قوله تعالى : فبشرهم بعذاب أليم وكقول أبي السعد الضبي :وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلاوقرأ يونس بن حبيب وعباس عن أبي عمرو " هذا نزلهم " بإسكان الزاي ، وقد مضى في آخر ( آل عمران ) القول فيه . يوم الدين يوم الجزاء ، يعني في جهنم .

نَحْنُ خَلَقْنَٰكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)


أي فهلا تصدقون بالبعث ؟ لأن الإعادة كالابتداء .وقيل : المعنى نحن خلقنا رزقكم فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا ؟

أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58)


أَيْ مَا تَصُبُّونَهُ مِنْ الْمَنِيّ فِي أَرْحَام النِّسَاء .

ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُۥٓ أَمْ نَحْنُ ٱلْخَٰلِقُونَ (59)


أأنتم تخلقونه أي تصورون منه الإنسان أم نحن الخالقون المقدرون المصورون . وهذا احتجاج عليهم وبيان للآية الأولى ، أي : إذا أقررتم بأنا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث . وقرأ أبو السمال ومحمد بن السميفع وأشهب العقيلي : " تمنون " بفتح التاء وهما لغتان أمنى ومنى ، وأمذى ومذى يمني ويمني ويمذي ويمذي . الماوردي : ويحتمل أن يختلف معناها عندي ، فيكون أمنى إذا أنزل عن جماع ، ومنى إذا أنزل عن الاحتلام . وفي تسمية المني منيا وجهان ؛ أحدهما : لإمنائه وهو إراقته . الثاني : لتقديره ، ومنه المنا الذي يوزن به لأنه مقدار لذلك ، وكذلك المني مقدار صحيح لتصوير الخلقة .

نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)


قوله تعالى : نحن قدرنا بينكم الموت احتجاج أيضا ، أي الذي يقدر على الإماتة يقدر على الخلق ، وإذا قدر على الخلق قدر على البعث . وقرأ مجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير " قدرنا " بتخفيف الدال . الباقون بالتشديد ، قال الضحاك : أي سوينا بين أهل السماء وأهل الأرض . وقيل : قضينا . وقيل : كتبنا ، والمعنى متقارب ، فلا أحد يبقى غيره عز وجل .وما نحن بمسبوقين أي : إن أردنا أن نبدل أمثالكم لم يسبقنا أحد ، أي : لم يغلبنا . بمسبوقين معناه بمغلوبين .

عَلَىٰٓ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَٰلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)


وقال الطبري : المعنى نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم ، وما نحن بمسبوقين في آجالكم ، أي : لا يتقدم متأخر ، ولا يتأخر متقدم .وننشئكم في ما لا تعلمون من الصور والهيئات . قال الحسن : أي : نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم . وقيل : المعنى ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا ، فيجمل المؤمن ببياض وجهه ، ويقبح الكافر بسواد وجهه . سعيد بن جبير : قوله تعالى : فيما لا تعلمون يعني في حواصل طير سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف ، وبرهوت واد في اليمن . وقال مجاهد : فيما لا تعلمون في أي خلق شئنا . وقيل : المعنى ننشئكم في عالم لا تعلمون ، وفي مكان لا تعلمون .

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)


قوله تعالى : ولقد علمتم النشأة الأولى أي : إذ خلقتم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ولم تكونوا شيئا ، عن مجاهد وغيره . قتادة والضحاك : يعني خلق آدم عليه السلام .فلولا تذكرون أي : فهلا تذكرون . وفي الخبر : عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى ، وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو لا يسعى لدار القرار . وقراءة العامة النشأة بالقصر . وقرأ مجاهد والحسن وابن كثير وأبو عمرو : " النشاءة " بالمد ، وقد مضى في ( العنكبوت ) بيانه .

أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63)


قوله تعالى : أفرأيتم ما تحرثون هذه حجة أخرى ، أي : أخبروني عما تحرثون من أرضكم فتطرحون فيها البذر ، أنتم تنبتونه وتحصلونه زرعا فيكون فيه السنبل والحب أم نحن نفعل ذلك ؟ وإنما منكم البذر وشق الأرض ، فإذا أقررتم بأن إخراج السنبل من الحب ليس إليكم ، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم ؟ ! وأضاف الحرث إليهم والزرع إليه تعالى ، لأن الحرث فعلهم ويجري على اختيارهم ، والزرع من فعل الله تعالى وينبت على اختياره لا على اختيارهم . وكذلك ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت فإن الزارع هو الله ، قال أبو هريرة : ألم تسمعوا قول الله تعالى :

ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُۥٓ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّٰرِعُونَ (64)


أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون والمستحب لكل من يلقي البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة : أفرأيتم ما تحرثون الآية ، ثم يقول : بل الله الزارع والمنبت والمبلغ ، اللهم صل على محمد ، وارزقنا ثمره ، وجنبنا ضرره ، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين ، ولآلائك من الذاكرين ، وبارك لنا فيه يا رب العالمين . ويقال : إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات : الدود والجراد وغير ذلك ، سمعناه من ثقة وجرب فوجد كذلك . ومعنى أأنتم تزرعونه أي : تجعلونه زرعا . وقد يقال : فلان زراع كما يقال حراث ، أي : يفعل ما يئول إلى أن يكون زرعا يعجب الزراع . وقد يطلق لفظ الزرع على بذر الأرض وتكريبها تجوزا .قلت : فهو نهي إرشاد وأدب لا نهي حظر وإيجاب ، ومنه قوله عليه السلام : لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي وقد مضى في ( يوسف ) القول فيه . وقد بالغ بعض العلماء فقال : لا يقل حرثت فأصبت ، بل يقل : أعانني الله فحرثت ، وأعطاني بفضله ما أصبت . قال الماوردي : وتتضمن هذه الآية أمرين ، أحدهما : الامتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم . الثاني : البرهان الموجب للاعتبار ، لأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذره ، وانتقاله إلى استواء حاله من العفن والتتريب حتى صار زرعا أخضر ، ثم جعله قويا مشتدا أضعاف ما كان عليه ، فهو بإعادة من أمات أخف عليه وأقدر ، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السليمة .

لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَٰهُ حُطَٰمًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)


ثم قال : لو نشاء لجعلناه حطاما أي : متكسرا ، يعني الزرع . والحطام : الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء ، فنبه بذلك أيضا على أمرين ؛ أحدهما : ما أولاهم به من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاما ليشكروه . الثاني : ليعتبروا بذلك في أنفسهم ، كما أنه يجعل الزرع حطاما إذا شاء وكذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا .فظلتم تفكهون أي : تعجبون بذهابها وتندمون مما حل بكم ؛ قاله الحسن وقتادة وغيرهما . وفي الصحاح : وتفكه أي : تعجب ، ويقال : تندم ، قال الله تعالى : فظلتم تفكهون أي : تندمون . وتفكهت بالشيء تمتعت به . وقال يمان : تندمون على نفقاتكم ، دليله : فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وقال عكرمة : تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجبت عقوبتكم حتى نالتكم في زرعكم . ابن كيسان : تحزنون ، والمعنى متقارب . وفيه لغتان : تفكهون وتفكنون : قال الفراء : والنون لغة عكل . وفي الصحاح : التفكن : التندم على ما فات . وقيل : التفكه : التكلم فيما لا يعنيك ، ومنه قيل للمزاح فكاهة ، بالضم ، فأما الفكاهة بالفتح فمصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا . وقراءة العامة فظلتم بفتح الظاء . وقرأ عبد الله " فظلتم " بكسر الظاء ورواها هارون عن حسين عن أبي بكر . فمن فتح فعلى الأصل ، والأصل ظللتم فحذف اللام الأولى تخفيفا ، ومن كسر نقل كسرة اللام الأولى إلى الظاء ثم حذفها .

إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)


إنا لمغرمون وقرأ أبو بكر والمفضل " أإنا " بهمزتين على الاستفهام ، ورواه عاصم عن زر بن حبيش . الباقون بهمزة واحدة على الخبر ، أي : يقولون إنا لمغرمون أي : معذبون ، عن ابن عباس وقتادة قالا : والغرام العذاب ، ومنه قول ابن المحلم :وثقت بأن الحفظ مني سجية وأن فؤادي متبل بك مغرموقال مجاهد وعكرمة : لمولع بنا ، ومنه قول النمر بن تولب :سلا عن تذكره تكتما وكان رهينا بها مغرمايقال : أغرم فلان بفلانة ، أي : أولع بها ، ومنه الغرام وهو الشر اللازم . وقال مجاهد أيضا : لملقون شرا . وقال مقاتل بن حيان : مهلكون . النحاس : إنا لمغرمون مأخوذ من الغرام وهو الهلاك ، كما قال :يوم النسار ويوم الجفا كانا عذابا وكانا غراماالضحاك وابن كيسان : هو من الغرم ، والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض ، أي : غرمنا الحب الذي بذرناه . وقال مرة الهمداني : محاسبون .

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)


بل نحن محرومون أي : حرمنا ما طلبنا من الريع . والمحروم الممنوع من الرزق . والمحروم ضد المرزوق وهو المحارف في قول قتادة . وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأرض الأنصار فقال : ما يمنعكم من الحرث قالوا : الجدوبة ، فقال : لا تفعلوا فإن الله تعالى يقول : أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء ، وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر ثم تلا : أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعونقلت : وفي هذا الخبر والحديث الذي قبله ما يصحح قول من أدخل الزارع في أسماء الله سبحانه ، وأباه الجمهور من العلماء ، وقد ذكرنا ذلك في ( الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ) .

أَفَرَءَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِى تَشْرَبُونَ (68)


قوله تعالى : أفرأيتم الماء الذي تشربون لتحيوا به أنفسكم ، وتسكنوا به عطشكم ، لأن الشراب إنما يكون تبعا للمطعوم ، ولهذا جاء الطعام مقدما في الآية قبل ، ألا ترى أنك تسقي ضيفك بعد أن تطعمه . الزمخشري : ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء :إذا سقيت ضيوف الناس محضا سقوا أضيافهم شبما زلالاوسقي بعض العرب فقال : أنا لا أشرب إلا على ثميلة .

ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ (69)


أأنتم أنزلتموه من المزن أي : السحاب ، الواحدة مزنة ، فقال الشاعر :فنحن كماء المزن ما في نصابنا كهام ولا فينا يعد بخيلوهذا قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن المزن السحاب . وعن ابن عباس أيضا والثوري : المزن السماء والسحاب . وفي الصحاح : أبو زيد : المزنة : السحابة البيضاء والجمع مزن ، والمزنة المطرة ، قال :ألم تر أن الله أنزل مزنة وعفر الظباء في الكناس تقمعأم نحن المنزلون أي : فإذا عرفتم بأني أنزلته فلم لا تشكروني بإخلاص العبادة لي ؟ ولم تنكرون قدرتي على الإعادة ؟ .

لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَٰهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)


لو نشاء جعلناه أجاجا أي : ملحا شديد الملوحة ؛ قاله ابن عباس . الحسن : مرا قعاعا لا تنتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما .فلولا أي : فهلا تشكرون الذي صنع ذلك بكم .

أَفَرَءَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى تُورُونَ (71)


أي أخبروني عن النار التي تظهرونها بالقدح من الشجر الرطب

ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِـُٔونَ (72)


أأنتم أنشأتم شجرتها يعني التي تكون منها الزناد وهي المرخ والعفار ، ومنه قولهم : في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار ، أي : استكثر منها ، كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما . ويقال : لأنهما يسرعان الوري . يقال : أوريت النار إذا قدحتها . وورى الزند يري إذا انقدح منه النار . وفيه لغة أخرى : ووري الزند يري بالكسر فيهما . أم نحن المنشئون أي : المخترعون الخالقون ، أي : فإذا عرفتم قدرتي فاشكروني ولا تنكروا قدرتي على البعث .

نَحْنُ جَعَلْنَٰهَا تَذْكِرَةً وَمَتَٰعًا لِّلْمُقْوِينَ (73)


قوله تعالى : نحن جعلناها تذكرة يعني نار الدنيا موعظة للنار الكبرى ؛ قاله قتادة . ومجاهد : تبصرة للناس من الظلام . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم فقالوا : يا رسول الله : إن كانت لكافية ، قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها .ومتاعا للمقوين قال الضحاك : أي : منفعة للمسافرين ، سموا بذلك لنزولهم القوى وهو القفر . الفراء : إنما يقال للمسافرين : مقوين إذا نزلوا القي وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها . وكذلك القوى والقواء بالمد والقصر ، ومنزل قواء لا أنيس به ، يقال : أقوت الدار وقويت أيضا أي : خلت من سكانها ، قال النابغة :يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأمدوقال عنترة :حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثمويقال : أقوى أي : قوي وقوي أصحابه ، وأقوى إذا سافر أي : نزل القواء والقي . وقال مجاهد : للمقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة ، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله منها . وقال ابن زيد : للجائعين في إصلاح طعامهم . يقال : أقويت منذ كذا وكذا ، أي : ما أكلت شيئا ، وبات فلان القواء وبات القفر ، إذا بات جائعا على غير طعم ، قال الشاعر :وإني لأختار القوى طاوي الحشى محافظة من أن يقال لئيموقال الربيع والسدي : المقوين المنزلين الذين لا زناد معهم ، يعني نارا يوقدون فيختبزون بها ؟ ورواه العوفي عن ابن عباس . وقال قطرب : المقوي من الأضداد يكون بمعنى الفقير ويكون بمعنى الغني ، يقال : أقوى الرجل ، إذا لم يكن معه زاد ، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله . المهدوي : والآية تصلح للجميع ، لأن النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير . وحكى الثعلبي أن أكثر المفسرين على القول الأول . القشيري : وخص المسافر بالانتفاع بها لأن انتفاعه بها أكثر من منفعة المقيم ؛ لأن أهل البادية لا بد لهم من النار يوقدونها ليلا لتهرب منهم السباع ، وفي كثير من حوائجهم .

فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ (74)


قوله تعالى : فسبح باسم ربك العظيم أي : فنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد ، والعجز عن البعث .

فَلَآ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ (75)


قوله تعالى : فلا أقسم " لا " صلة في قول أكثر المفسرين ، والمعنى : فأقسم ، بدليل قوله : وإنه لقسم . وقال الفراء : هي نفي ، والمعنى : ليس الأمر كما تقولون ، ثم استأنف أقسم . وقد يقول الرجل : لا والله ما كان كذا فلا يريد به نفي اليمين ، بل يريد به نفي كلام تقدم . أي : ليس الأمر كما ذكرت ، بل هو كذا . وقيل : " لا " بمعنى " ألا " للتنبيه كما قال :ألا عم صباحا أيها الطلل الباليونبه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه ، وأنه ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة كما زعموا . وقرأ الحسن وحميد وعيسى بن عمر " فلأقسم " بغير ألف بعد اللام على التحقيق وهو فعل حال ، ويقدر مبتدأ محذوف ، التقدير : فلأنا أقسم بذلك . ولو أريد به الاستقبال للزمت النون ، وقد جاء حذف النون مع الفعل الذي يراد به الاستقبال وهو شاذ .قوله تعالى : بمواقع النجوم مواقع النجوم : مساقطها ومغاربها في قول قتادة وغيره . عطاء بن أبي رباح : منازلها . الحسن : انكدارها وانتثارها يوم القيامة . الضحاك : هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون إذا مطروا قالوا : مطرنا بنوء كذا . الماوردي : ويكون قوله تعالى : فلا أقسم مستعملا على حقيقته من نفي القسم . القشيري : هو قسم ، ولله تعالى أن يقسم بما يريد ، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة .قلت : يدل على هذا قراءة الحسن " فلأقسم " وما أقسم به سبحانه من مخلوقاته في غير موضع من كتابه . وقال ابن عباس : المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجوما ، أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السفرة الكاتبين ، فنجمه السفرة على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام عشرين سنة ، فهو ينزله على الأحداث من أمته ؛ حكاه الماوردي عن ابن عباس والسدي . وقال أبو بكر الأنباري : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن المنهال حدثنا همام عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزل القرآن إلى سماء الدنيا جملة واحدة ، ثم نزل إلى الأرض نجوما ، وفرق بعد ذلك خمس آيات خمس آيات وأقل وأكثر ، فذلك قول الله تعالى : فلا أقسم بمواقع النجوم .

وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)


وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم القرآن . وقرأ حمزة والكسائي " بموقع " على التوحيد ، وهي قراءة عبد الله بن مسعود والنخعي والأعمش وابن محيصن ورويس عن يعقوب . الباقون على الجمع فمن أفرد فلأنه اسم جنس يؤدي الواحد فيه عن الجمع ، ومن جمع فلاختلاف أنواعه .

الصفحة السابقة الصفحة التالية